قراءة في كتاب: "الإسلام والعدالة والديمقراطية"
(2)
محمد بن علي الإسماعيلي
نُكمل قراءتنا في كتاب: "الإسلام والعدالة والديمقراطية"، لمؤلفه أ.د صبري سيفتسي، الذي نشرنا جزءه الأول في العدد الماضي من إشراقة.
لقد برزت العديد من المظاهر المعاصرة لخطابات العدالة السياسية والاجتماعية الإسلامية، هذه المظاهر خلقت توتراً ملحوظاً في فترات عدة بين مفهومي العدالة الاجتماعية والعدالة السياسية وتطبيقهما على المجتمعات؛ وذلك بسبب أفكار النظام العالمي الجديد؛ لذا تصدى الكتاب الإسلاميون بتأسيس معالجة أولية لمفهوم العدالة لمواجهة تحدي الأيديولوجية الشيوعية، كما أظهروا خطابات ونصوصا إسلامية أبرزت أهمية الإصلاح الاجتماعي معاداةً للإمبريالية. وقد ساق صبري سفيتشي مثالاً في الفصل الخامس على تتبع سلالات التوتر بين العدالة الاجتماعية والعدالة السياسية؛ وذلك باستخدام تراث (أرشيفات) المجلات الإسلامية التركية في الفترة بين عامي 1960-2010م، هذا التراث كانت فرصة ممتازة لفحص المظاهر المعاصرة لخطابات العدالة السياسية والاجتماعية الإسلامية ودراستها، إذ كشف الموقف الإسلامي تجاه العدل والتفضيل السياسي والنظام الاقتصادي الحديث. في حين يؤكد الكاتب على أن نظرية العدالة الإسلامية تختلف بشكل ملحوظ عن نظريات العدالة الغربية، فالأولى تعزز مفهوم عدم إمكانية الفصل بين الدين والشؤون الدنيوية باعتباره أسلوب حياة؛ كما أنها تنقد النظرة المادية للعالم، بل تعزز روح العمل التطوعي والخيري لتحقيق التوازن الاقتصادي والاجتماعي بين الناس. أما العدالة الغربية فتقوم على مبدأ حقوق الملكية الفردية وحرية التصرف فيها؛ لذا عالج هذا الفصل مفهوم العدل "بين النظام والحرية" مثلما جاء عنوانه.
ويسلط الفصل السادس من هذا الكتاب الضوء على النظرية الرئيسة الكامنة وراء توجه الدين حيال دعم الديمقراطية، فَيظهر المفهوم الإسلامي للعدالة -كونه الخطاب السائد في تشكيل المواقف السياسية- أن العدل يعد مقياسا لتقييم مدى صدق النظام، واستنادًا إلى استطلاعات رأي مسحية أجرتها هذه الدراسة، يتخذ الشباب الإسلامي موقفًا يعطي الأولوية لمفاهيم معينة، مثل: العدل، والمساواة، ومعارضة الاستبداد، إذ يقترن مفهوم العدالة بالإسلام، ويستعمل مصطلحا يشمل الحرية والوئام الاجتماعي والكرامة الإنسانية والمساواة في الله. وتشير الحجة الجوهرية للدراسة إلى عدم وجود توافق تام بين الثقافة الإسلامية والديمقراطية، إذ تناقش سطورها عما إذا كانت الثقافة الإسلامية أو المتدينون يمتلكون أيديولوجية متعددة تتخذ موقفاً جاداً بين التأييد أو المعارضة للحكومة الديمقراطية، وأسباب ذلك ومواقفه؛ وذلك كما برز في الخطابات الإسلامية المتعلقة بالعدالة.
قد يعزز الإسلام جوانب معينة من توجهات القيم الفردية كي يولّد دعمًا للديمقراطية؛ لذا استعمل الفصل السابع شرحًا جديدًا تجاه الأسس الدقيقة لدعم المسلمين للديمقراطية - أي لقيم العدالة الإسلامية التي لها تأثير كبير على توزيع "العدل" السياسي والاقتصادي والاجتماعي بين المسلمين، وتوجهات القيم الثقافية لهذا الدين. وقد كشف تحليل بيانات المسح الشامل الذي أجرته الدراسة في أكثر من عشرين دولة ذات أغلبية مسلمة، عن علاقة ذات دلالة إحصائية بين التدين ودعم الديمقراطية. في الوقت نفسه، تتخذ منهجا وسطاً في ذلك التوزيع أو التفضيل، وتتوسط كذلك في تأثير الدين على دعم الديمقراطية. في المقابل، تناول هذا الفصل مصطلحات عديدة، أهمها: الدين ودعم الديمقراطية - العدالة الاجتماعية والمساواة ودعم الديمقراطية - العدالة السياسية والفردية ودعم الديمقراطية - الرؤى الدينية والتوجهات القيمية ودعم الديمقراطية.
ويركز الفصل الثامن على السلوك الاحتجاجي ويفحص الربيع العربي مثالا على التعبئة الشعبية من أجل العدالة السياسية والاجتماعية. ويقارن هذه الاحتجاجات بالحركات الدستورية في القرنين التاسع عشر والعشرين في منطقة الشرق الأوسط والدول الإسلامية؛ لإظهار الاستمرارية والتمزق في خطاب هذه الحركات التي تفصل بين قرنين من الزمان.
يقول المؤلف: "يمثل الربيع العربي أحد أهم المحطات في تاريخ التحول الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط، إذ قاتل الناس الذين خرجوا احتجاجا إلى الشوارع ضد الظلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي". ويأتي الفصل الثامن لمناقشة شكل الحركة الديمقراطية الشعبية المطالبة بالعدالة الاجتماعية والسياسية إبّان فترة مظاهرات الربيع العربي. وقد أبانت النتائج الإحصائية للدراسة أن الدين كان عاملا مُعززا للارتباط بين مؤشرات العدالة السياسية بما في ذلك تصورات الفساد، والوصول إلى خدمات الدولة، وعدم وجود الثقة السياسية، فقد هتفت جموع الجماهير في الشوارع العربية من أجل الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية؛ لتمثل حركات دستورية مطالب بالعدل. في حين كانت الخطوط العريضة لنتائج هذه الدراسة المتعلقة باستطلاع الرأي تناقش القضايا الاقتصادية؛ كونها من بين أهم المشكلات التي يواجهها المواطنون العرب، كما كشفت البيانات أن الفساد وصعوبة الوصول إلى خدمات الدولة وانعدام الثقة السياسية مؤشرات مهمة على الظلم السياسي.
وأظهرت النتائج كذلك أن المظالم السياسية والاجتماعية لعبت دورًا في تحفيز المشاركة الاحتجاجية في الربيع العربي. ورغم أهمية الدين في تأطير حقوق الشعوب العربية وواجباتها حتى في خضم فترة الربيع العربي، إلا أن صبري سيفتشي أكد على أن نتائج ربط الدين بتصورات العدالة والسلوك الاحتجاجي غير قاطعة؛ وذلك رغم تأييد الكثيرين لدعم المسار الديني لحل المشكلات المتصاعدة في هذه المجتمعات، يقول: "من المهم أن نلاحظ أن العدالة الإسلامية تلعب دورًا مهمًا في أيديولوجية النهضة".
تدعو خاتمة كتاب: "الإسلام والعدالة والديمقراطية" ممثلة في فصله التاسع كلاً من علماء الإسلام والديمقراطية إلى إعادة النظر في إمكانات الإسلام لتوليد مُثُل ديمقراطية وتفضيلات سلطوية مثلى لإحلال "العدل" في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة. كما يناقش الفصل نتائج هذا المؤَلف في سياق الدراسات الواسعة تجاه الإسلام والديمقراطية، والتداعيات السياسية له على التحول الديمقراطي في المجتمعات المسلمة. وقد ناقش الكاتب موضوع (الربيع العربي) بعمق كبير؛ للتأكيد على تداعيات الديمقراطية ممثلة في "العدل" في الإسلام، إذ لم تكن الاحتجاجات في الساحات والشوارع المختلفة من العالم العربي ثورات دينية؛ لكن الدين لعب دورًا مهمًا في هذه الانتفاضات. هذا لأن الإسلام كان دائمًا قوة اجتماعية هائلة لتشكيل القيم والمواقف والسلوك على مر القرون. وقد كانت العدالة القيمة الأكثر أهمية في خطابات متظاهري الربيع العربي. وللمفارقة، استخدم الخطاب المضاد ضد الربيع العربي أيضًا المفاهيم الدينية للعدالة لتقويض الاحتجاجات. وقد طرح صبري سيفتشي سؤالا مهما: "كيف يمكن للعدالة الإسلامية أن تكون مصدرًا للخطابات الديمقراطية والسلطوية في الوقت نفسه؟"
في الحقيقة، تستنتج أدوات الدراسة والبحث في الكتاب أن قدرة الإسلام على توليد الديمقراطية تكمن في اتجاهين مترابطين ضمن تقاليد الإسلام. أولاً: العقيدة التي تنص على أن الإنسان هو خليفة الله، فقد أفسحت هذه النظرة الإسلامية الخالصة للعالم الطريق للتفكير النقدي، والتفسيرات المرنة للدين، والموقف السياسي ضد الظلم؛ وجميع ذلك ينطوي عليه فهم محدد للعدالة الإسلامية. ثانيًا: على مدار التاريخ الإسلامي، أصبحت هذه النظرة للعالم أساسًا للعديد من الانتفاضات والثورات وحركات التمرّد، أبرزها في العصر الحديث فيما يتعلق بالديمقراطية مظاهرات الربيع العربي، فقد أثبتت الدراسات السابقة أن قيم العدالة الإسلامية توفر إمكانات كبيرة لقبول الديمقراطية وتنفيذها، وستكون خطابات العدالة الإسلامية المفتاح الأساس بحضورها المثير للإعجاب وإرثها الذي يدوم طويلاً كما أورده التاريخ.