زواج الأفلاج
Dr. Majid Labbaf
ترجمة: إسحاق بن ناصر الشبيبي
كرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج
يعد الزواج بين الجماد والبشر من أغرب الطقوس التقليدية الموجودة في بعض القرى في جمهورية إيران الإسلامية، إذ إن هذا العرف متجذر في انقسام الجماد بين الذكر والأنثى؛ وفقا للأساطير والقصص التي يرويها أصحاب القرى في هذا البلد. ويعتقد العديد من القرويين الإيرانيين أن مصدر المياه تنقسم بين كونها ذكرا أو أنثى، وعلى سبيل المثال في محافظة مركزي تعد الأفلاج أو القنوات ذكرا إذا كانت مياهها تسبب جفافا في بشرة العمال، وتزيد من جفاف الجلد ولا يطلق عليها أنثى. أما في إيزادخست بمحافظة فارس فيتم التعرف على جنس مصدر المياه من الصوت، وإذا كان الفلج يتدفق برفق وهدوء تام فيعد أنثى، أما إذا كان الفلج يصدر أصواتا مثل القرقرة فيعد ذكرا. وفي قرية كرماب في محافظة همدان، يُعد الفلج الذي يكون فيه تدفق المياه متقلبا من سنة إلى أخرى في كونه ذكرًا، بينما يُعتقد أن الفلج الذي يتمتع بتدفق أكثر استقرارًا فيعد أنثى. وفي تويرسكان بمحافظة همدان يعد الفلج أنثى إذا كانت قنواته تتسرب منها الماء حتى من أم الفلج.
من أفضل الأمثلة على الزواج بين البشر والأفلاج سُجل في قرية علم أباد في مدينة أراك بمحافظة مركزي بإيران، إذ تتمتع هذه القرية بفلجين اسمهما كهريز بالا وكهريز باين. وبحسب السكان المحليين فإن فلج بالا يعد ذكرا؛ لاحتوائه على كثير من المعادن، ويعد الشرب منه صعبا جدا، بينما فلج باين فإنه يعد فلجا أنثى؛ وذلك لأن ماءه عذب للشرب ونقي لاستخدامات المجتمع المحلي، لكن السكان القرويين لم يحاولوا أبدا عقد قران فلج بالا بلفلج باين، إذ إنهم يعتقدون أن الأفلاج الذكور لديها الفرصة الأكبر للزواج من البشر وليس من الأفلاج، إذ إن آخر مرة تم عقد قران فلج بالا بامرأة كانت في عام 1971.
في عام 1963م أصاب القرية جفاف شديد استمر حتى عام 1971م، وفقا لأهل القرية، فقد جفت العديد من مزارعهم وبساتينهم وتلاشت، واضطر العديد من السكان للهجرة إلى المدن، وكان فلجهم على وشك الجفاف، لدرجة أن مياهه لم تستطع سقي المزارع العطشانة، في حين فعلوا كل ما في وسعهم لإنقاذ الفلج من الموت، إذ إنهم ضحوا باثنين من الأغنام في شريعة الفلج على أمل أن يزيد تدفق الماء ويرجع كما هو في السابق. وفي عديد من المرات قام أهالي القرية بعقد حداد توسل إلى الإمام الحسين -عليه السلام- على أن يشفع لهم الله ويوقف هذه المصيبة الحاصلة على الفلج والقرية، لكن لم تنجح أي من هذه المحاولات، فقرروا تزويج الفلج بإحدى نساء القرية حلا أخيرا لمعالجة هذا الجفاف الذي أصابهم، وقد تذكر الأهالي أن في الماضي تمتع الفلج بزواج مع امرأة، لكنها توفيت في نهاية المطاف عام 1958م، وتركت الفلج أرملا، فأدركوا أن الخطأ الوحيد الذي اقترفوه عدم توفيرهم زوجة للفلج.
وقد رشّح أهالي القرية امرأة اسمها "العمة زبيدة"، وهي أرملة توفي زوجها مؤخرا، إذ تقدم مجموعة من أهل القرية نيابة عنه للزواج من الفلج، وقد قبلت العمة زبيدة عرض الزواج وجلس الجميع معها للتفاوض والتشاور في باقي التفاصيل، مثل: قيمة المهر والنفقة، وتم الاتفاق على تقسيم النفقة بين الأهالي نيابة عن الفلج، ولكن في المقابل تقوم العمة زبيدة بالاستحمام في الفلج مرة واحدة على الأقل في الأسبوع؛ وذلك لفائدة قلب الفلج، وقد احتفل الأهالي بالعرس، ولإتمام الزواج توجهت العمة زبيدةفي اليوم الآتي من العرس إلى شريعة الفلج والجلوس في مجرى الماء (الساقية) وفي نفس اليوم تم إعطائها 300 كيلو من القمح. بعدها اضطر كل من يسكن في القرية إلى إعطائها بين 15 إلى 30 كيلوغرامًا من القمح مرتين في السنة، مرة واحدة في شهر رمضان ومرة أخرى في شهر محرم، الذي يحظى بالتبجيل لدى المذهب الشيعي، وبحسب السكان المحليين في القرية بدأت مياه الفلج في الازدياد بعد ذلك بوقت قصير.
شعر أهالي القرية أنهم مدينون كثيرا للعمة زبيدة، التي أنقذت الفلج من الجفاف والموت، فقد تحسنت الزراعة في القرية وتلقت معاملة طيبة من الأهالي ولم يجحد أحد فضلها، وقد عاشت العمة زبيدة حياة هانئة حتى عام 1981م، عندما فقدت بصرها وأصيبت بالعمى. ومع ذلك، كانت ما تزال تتلمس طريقها إلى مياه الفلج لأداء واجبها الزوجي، الذي يُعتقد أنه يحافظ على تدفق المياه، وفي عام 1986م تعثر زواجهما وأرادت العمة زبيدة الطلاق؛ لأنها لم تكن قادرة على مواكبة التضخم المتزايد. فيما كان على العمة زبيدة الدفع النقدي مقابل شراء البضائع التي تحتاجها، بيد أنها لا تملك نقودا؛ لأن النفقة التي كانت تحصل عليها عبارة عن أكياس من القمح، إذ إن زوجها لم يحدث شؤونه المالية التي كانت غريبة على التعاملات الاقتصادية الحديثة للقرية، وقد حضرت وزارة الزراعة شراء محصول القمح منهم، كما يمكن للمزارعين إنفاق هذه الأموال على كل ما يحتاجون إليه، بما في ذلك شراء الخبز في سوق القرية، إذ فقدت طواحين القرية التقليدية والمخابز المنزلية، حظوظها بالحضور، ولم يعد هناك جدوى من تخزين القمح في المنزل. وقد تطلب من صاحب المطحنة طحن كيس قمح لها، وتشغيل نار الفرن يدويا وصناعة الخبز فيه، ولم تبقَ أي طاحونة مائية لطحن قمح العمة زبيدة، التي أرادت الاستمتاع بحياة أفضل يمكن فيها استهلاك المزيد من المنتجات المتنوعة من طريق النظام النقدي الجديد. وقد واجه أهالي القرية إصرار العمة زبيدة على الطلاق من الفلج، وحاولوا تغيير رأيها بتقديم بعض المال بدلاً من القمح.
وقد تصالحت العمة زبيدة مع الفلج في سنواتها الأخيرة؛ وذلك عندما حصلت على راتب متنوع يشمل المال بالإضافة إلى الشاي والسكر والملابس وما إلى ذلك، إذ قام بترقية نظامه المالي، علما أن زوجته تدم أكثر من ذلك، وتوفيت عام 1992م. وقد كانت العمة زوجة الفلج الأخيرة، وبعدها فقد زملاؤها القرويون إيمانهم بزواج الفلج على الإطلاق.
العمة زبيدة آخر زوجة للفلج في إيران
وفي كثير من الأماكن، كان لهذه الطقوس الثقافية وظيفة اقتصادية أيضًا؛ مما أفاد الفلج بشكل أكثر واقعية. ولا تقتصر تكلفة الفلج على الأموال التي يتم إنفاقها على بنائه، ولكنها تستمر في تشغيلها؛ لأن الفلج النموذجي يحتاج إلى إصلاح وتنظيف من حين إلى آخر لمواصلة التدفق. في بعض الأحيان، كان زواج الفلج مرتبطًا بالشؤون المالية للفلج، وفي بعض المناطق، اعتاد السكان المحليون إقامة حفل زفاف لأفلاجهم فقط عندما يتعلق الأمر بالجفاف. ويتعامل أهالي القرى مع العرس وزوجة الفلج بنفس الموقف الذي يتم اتباعه مع العرس الحقيقي، كما تراعى جميع عادات الزفاف كما لو كانت حقيقية. ومن هذه العادات مخصصات مصروف الزوجة، ويقع العبء الكامل على الزوج في دفعها حسب ثقافتهما. وبما أن الفلج لم يستطع الوفاء بالتزامه، فقد جمع أهل القرية مبلغًا من المال بين حين إلى آخر، ويتم دفعها للعروس نيابة عن زوجها. وطبعا كان المال الذي تم تحصيله أكثر مما تحتاجه زوجة الفلج، فيذهب الباقي إلى الفلج للصيانة والنظافة؛ لذلك كان هؤلاء على حق في اعتقادهم أن تزويج فلجهم يزيد من مياهه. وعلى الرغم من إلغاء هذه العادة منذ فترة طويلة، فإن آثارها ما تزال موجودة في العديد من القرى الإيرانية. ويُطلق على العلاوة المدفوعة للزوجة اسم "Nafaqe" في اللغة الفارسية، لكن هذا المصطلح يشير أيضًا إلى الأموال التي يجمعها القرويون لتنظيف وإصلاح فلجهم. اسم تلك العادة القديمة ما تزال حية، رغم أنه لم يعد هناك أثر لها في الواقع.
في الصورة في أعلاه فاتورة الفلج (نفقة) لتحصيل مساهمات المساهمين في فلج حسين آباد رستاق، محافظة يزد، إيران.