السنة 17 العدد 161
2022/11/01

الأفلاج العمانية ... والتحصينات الدفاعية والعسكرية


 

 

أمجد الرواحي

كرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج 

 

ترتبط الأفلاج العمانية بالإنسان ارتباطا وثيقا، إذ ينظر إليها الإنسان العماني نظرة الحياة بكل تفاصيلها وتجلياتها. لقد مكنت الأفلاج الإنسان العماني من العيش في مناطق جافة وشديدة الحرارة دفعته إلى الاستيطان حولها وتشكيل الواحات الزراعية، إذ إنها تعد أحد أبرز الرموز الوطنية التي أسهمت في تكوين وترسيخ الهوية العمانية وكسب الرزق، علاوة على الحفاظ على منجزات الأجداد والعمل على استدامتها. 

والمتتبع لنظام الأفلاج وأماكن وجودها وشقها يجد أن هناك ارتباطا قويا بينها وبين القلاع والحصون والتحصينات العسكرية. فقد تعرضت عمان قديما إلى الغزو الخارجي والحروب والصراعات القبلية الداخلية؛ مما دفعهم إلى تحصين وتأمين مصادر المياه وقوت يومهم، إذ شيدت العديد من البروج والقلاع بالقرب من مسار الأفلاج؛ وذلك لردع أي هجوم ومخاطر قد تتعرض إليها القنوات، والمتأمل في القلاع والحصون يلتمس براعة العمانيين في بنائها وتشييدها، ومما يلفت النظر شق الأفلاج فيها؛ مما يزيد من جمال المكان وروعته. ومن هذه الحصون حصن بيت الرديدة في بركة الموز، إذ يتخلله فلج الخطمين ثم يخرج من الجهة الأخرى ليروي بساتين النخيل والحقول الزراعية حوله. 

ومن القصص التي تروى عن بناء حصن بيت الرديدة في بركة الموز بولاية نزوى، عندما أمر الإمام سلطان بن سيف الثاني البدء بالعمل على بناء الحصن، تم اختيار المكان في أسفل القرية، فأتت امرأة مسنة وضحكت على إقامة الحصن في ذلك المكان؛ مما دفع العمال للتوجه إليها وسؤالها عن سبب ضحكها والاستهزاء، فقالت لهم إنها سوف ترد على مهندس المشروع فقط. بعدها بيوم أتى مهندس المشروع وطلب منها توضيح ذلك، فقالت له: "من تكون؟ فأجابها أنه مهندس المشروع فقالت: أريد مقابلة كبير المهندسين لكي أجيبه، في اليوم الثاني أتى كبير المهندسين وقابلته المرأة العجوز فسألته من تكون؟ فأجابها أنه كبير المهندسين، بعدها طلبت منه مقابلة الإمام وإخباره عن سبب ضحكها واستهزائها من عمل العمال. فقام كبير المهندسين بتحديد موعد لمقابلة الإمام، وعند وصولها إلى الإمام وسؤاله عن سبب الضحك، أجابته بسؤالها: سيدي الإمام من أين تمسك الأفعى؟ فتيقن الأمام أن هناك خطأ في موقع بناء الحصن، وأمر كبير المهندسين باتباع نصائح المرأة المسنة وإعادة بناء الحصن في موقعه الحالي القريب جدا من أم الفلج. ومما يستنتج من القصة أن بناء تلك الحصون كونها تحصينات دفاعية عن القرية لابد أن يكون قريبا من أمهات الأفلاج؛ مما يجعلها أكثر أمانا.

 

 

 

 

كما يوجد في ولاية إبراء بمنطقة اليحمدي فلج العفريت الذي يمر من حصن يؤمن حاجة المتحصنين بالحصن؛ ليكون الحصن بدوره في المقابل حارسا للفلج من التدمير. وقد روعي في ذلك تأمين المياه للمترددين على المسجد للصلاة والقرية بشكل عام، إذ يعد هذا التقليد معروفا في العمارة العمانية التحصينية. وإذا نظرنا إلى الأفلاج التي تخترق القلاع والحصون والتحصينات العسكرية فإنها تبدو قيمة جمالية تظهر تميزها عن غيرها، إلا أنها في بعض الأوقات تعد سببا لهزيمة من يتحصن في داخلها؛ مما يدفعه إلى الاستسلام والانصياع إلى العدو، إذا ما تنبه المحاصرون إلى أهميتها وعمدوا إلى قطع إمدادات المياه من طريق تحويل مجرى قنوات تلك الأفلاج أو تدميرها بالكامل … وهذا ما حدث بالفعل في مناسبات مختلفة عدة  عند حصار بعض المدن، مثل: الحزم وينقل ونزوى.

 

 

 

 

ونظرا لأهمية الأفلاج الاقتصادية والاجتماعية، دائما ما تكون مستهدفة في أثناء الحروب والنزاعات القبلية؛ عليه بذل ملاكها جهودا كبيرة في سبيل تأمينها وتجنب الأضرار التي من الممكن أن تحدث لها في تلك الفترة؛ كون الفلج مصدرا اقتصاديا مهما للقرية، كذلك الخدمات الجليلة التي يقدمها للمجتمع بتوفير مياه الشرب والغسيل وسقي المزروعات والحيوانات وغيرها من الخدمات ومنافع الفلج. كما عمد بعض ملاك الأفلاج إلى تأمين قنوات الفلج بشق قنوات وفرض تمويه بجانب القنوات الرئيسة، وتكون على مستويين مختلفين، ثم يتم توصيلهما ببعض من طريق نفق أفقي بحيث تكون الفرضة السفلية موصلة إلى مسار الفلج، وتعلق الفرضتين من الأعلى عبر النفق؛ لمنع تسرب الردميات والأتربة؛ مما يصعب على الغزاة توقع مسار الفلج الحقيقي، وتجنب تعرض القناة والفرض للردم من قبل المخربين. 

أخيرا ... عبقرية الإنسان العماني انعكست بشكل كبير في هندسة العمارة؛ مثل بناء القلاع والحصون، بالإضافة إلى الأفلاج التي عكست جانبا مشرقا من الشخصية العمانية. وقد اجتمعت هذه العبقرية مع بقية الجوانب الحضارية فظهرت أفلاج عمان بهوية متميزة وفريدة من نوعها.  

 

 

 

 

المراجع: 

  • أفلاج عمان، حضارة مستدامة (دراسة)، د. حميد بن سيف النوفلي – الطبعة العربية الأولى 2022م.

  • إبراء عبر التاريخ – حصاد الندوة التي أقامها المنتدى الأدبي في إبراء – الطبعة الأولى 1428 هـ / 2007م. 

  • مؤتمر عمان الدولي لتنمية وإدارة القنوات المائية (أوراق عمل) 18-20/مايو/2002 (الجوانب العلمية والاجتماعية في المحافظة على الأفلاج والعيون المائية) المهندس / حمد بن خميس بن راشد الحاتمي.

إرسال تعليق عن هذه المقالة