السنة 17 العدد 161
2022/11/01

قراءة في كتاب: "الإسلام والعدالة والديمقراطية"

(1)


 

 

مقال: محمد بن علي الإسماعيلي



يُعد العدل قيمة أساسية في صميم العقيدة الإسلامية، يُترجم واقعاً ملموساً يتصل بكافة الأمبادئ والسلوكيات التي يعمل بها الإسلام مؤسسات وجماعات وأفرادا، تتجلى في مساحة من الممارسات التي تُحدُّ بضوابط وضعها التشريع الإسلامي. إن المطالع لكتاب: "الإسلام والعدالة والديمقراطية"، الصادر في العام الجاري 2022م عن مطبعة جامعة تمبل في مدينة فيلادلفيا بالولايات المتحدة الأمريكية للمؤلف أ.د صبري سيفتسي، أستاذ العلوم السياسية، رئيس قسم الدراسات العربية والأمريكية العربية في جامعة ولاية كانساس، بالإضافة إلى أنّه المدير المؤسس لقسم دراسات الشرق الأوسط في الجامعة، سيجد في هذا الإصدار محاولات المؤلف الحثيثة لتمحيص الأسس التاريخية والفلسفية والتجريبية لكيفية ارتباط القيم الدينية للعدالة بالسلوك السياسي الإسلامي. هذه المحاولات تركّز على الفاعلية الديمقراطية الإسلامية لكيفية استعمال المسلمين لمفاهيم العدالة الإلهية بين العبودية لله وممارسة الإرادة الحرة في حياتهم الاجتماعية.

 

تشير سيرة صبري سيفتشي الذاتية إلى أن اهتماماته البحثية تقع في الإسلام والديمقراطية والسياسة التشريعية والشرق الأوسط والسياسة التركية، إذ درست أحدث أبحاثه ومشروعاته العدالة والديمقراطية في العالم الإسلامي، والجذور الاجتماعية للتوجهات الدينية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ لذا يسعى في كتابه هذا "الإسلام والعدالة والديمقراطية" - مستعملا أدوات البحث الإثنوغرافي، والمقابلات، واستطلاعات الرأي العام، وأعمال الأيديولوجيين الإسلاميين، وأرشيفات المجلات الإسلامية، وغيره ... - لبناء تجسيدات معاصرة للعدالة الإسلامية؛ كونها مشروعا سياسيا عمليا له تأثيراته على المواقف السياسية الإسلامية. يتبنى سيفتشي في كتابه هذا فكرة غياب الديمقراطية في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة على العوامل المؤسسية أو الثقافية أو الاقتصادية أو التاريخية؛ لذا يقترح دراسة "المسلمين والديمقراطية" بدلاً من "الإسلام والديمقراطية". كما يدرس المواقف السياسية الإسلامية تجاه الديمقراطية؛ وذلك من طريق تركيزه على قيمة (العدل) كونها إحدى الركائز الرئيسة للعقيدة الإسلامية التي تتخذ أهمية عميقة في كافة جوانب حياة المسلم، فالعدالة مفهوم واسع ذو أبعاد عديدة يشمل جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والقانونية والاقتصادية والتبادلية، ومن ذلك يسعى المؤلف إلى فهم الارتباط بين المفاهيم الإسلامية للعدالة والتفضيلات السياسية التي تعنى بالديمقراطية.

 

ويعتقد صبري أن نظام الديمقراطية لديه القدرة الأكثر أهمية لتقييد السلطة التنفيذية مقارنةً بالبدائل الأخرى؛ إما عبر المؤسسات الرسمية أو تلك القواعد غير الرسمية لحماية المصلحة العامة والصالح العام. إنّ كتاب: "الإسلام والعدالة والديمقراطية" يحاول في مقدمته وفصوله التسعة وخاتمته تتبع البعد التاريخي للعدالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأثرها -كما أشار إليه الفصل الأول من الكتاب- في قضية دعم المسلمين للديمقراطية والمفاهيم والصلات المرتبطة بها، في حين يقدّم معالجة تاريخية/تجريبية لتبيان توجهات الأيديولوجية الإسلامية تجاه العدالة، ورد فعل الرأي العام.

 

 

 

 

 

يعود تاريخ ظهور الديمقراطية عند الغرب إلى تاريخهم المعقد في تداعيات تشكيل الدولة والعلمنة والصراع الطبقي والثورات؛ وذلك بسبب المؤسسات الراغبة في إحلال مناخ الحرية والمساءلة والسيادة الشعبية والانتخابات. ويُعنون صبري سيفتشي الفصل الثاني من الكتاب بـ: "الإسلام والديمقراطية ... نقاش لا ينتهي"، ويرى المؤلف أنّ أغلبية المجتمعات المسلمة تفتقر إلى الديمقراطية؛ بسبب عوامل وقيم ثقافية، مثل: الدين والعرق والنهج الاستشراقي والتوافق الثقافي. ويبرز المؤلف في هذا السياق رأي الباحث والمؤلف كينيث أماشي، الذي يقول: "الديمقراطية تشبه التكنولوجيا الخالية من القيمة التي يمكن تنفيذها في البلدان غير الغربية؛ ولنقلها من سياق إلى آخر، يحتاج المرء إلى التعرف على تقاليد المكان وثقافاته الذي يتم نقلها إليه". ويعرض الفصل الثاني الدراسات المعنية بالبحث في قضايا الإسلام والديمقراطية، إلّا أن هذه الدراسات تعرضت إلى نقد موجهٍ لعوامل عدة، أبرزها: عدم التركيز على "العدل" عنصرا حاسما في تأطير النظرية السياسية الإسلامية – التشكيك في توافق الإسلام مع الديمقراطية رفضاً للأصول التعددية للعقيدة الإسلامية – تجاهل دور "العدل" باعتباره مبدأ تأسيس للتفكير الديمقراطي في التجربة الإسلامية ومواقفها.

 

يدرس هذا الكتاب الظواهر المعاصرة لمسارات العدالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأثرها في تكوين الموقف السياسي الإسلامي؛ وذلك بتقديم أدلة عديدة من أعمال المنظرين المختصين في الشأن الإسلامي، وأفكار الشباب المسلم، وآراء المجتمع والمؤرخين، تحديدا في ظل الأزمات مثل فترة الربيع العربي. ويأتي الفصل الثالث لشرح الرابطة بين قيم الدين والمواقف السياسية الإسلامية؛ وذلك استناداً على فترات معيّنة شهدها المجتمع الإسلامي، مثال ذلك تطوّر خطابات العدالة في النضالات السياسية والمناقشات الفكرية الرامية إلى تحقيق "العدل" السياسي والاجتماعي إبّان التحوّل من العدالة السياسية إلى العدالة الاجتماعية في أثناء انهيار الإمبراطورية الإسلامية. إنّ هذا الفصل عنوانه: "الأسس التاريخية والمفاهيمية ... خطابات العدل في الإسلام"، أثبت أنّ الدراسات قد وجدت أن قيم التدين الإسلامي ليست معادية للديمقراطية، يقول صبري سفيتشي: "نعلم أيضًا أن المسلمين الذين يعيشون في الغرب يفضلون الديمقراطية وينخرطون بنشاط في الحياة الديمقراطية"؛ بل أيضاً كان نشاط المسلمين فيها متعلقٌ بقدرتها على الحفاظ على كرامة الإنسان والنظام الاجتماعي، وتطبيق العدالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ إذ تسمح لهم بالتأثير في صنع السياسات وتطبيق العدالة الإسلامية وتشكيل آرائهم من طريق المشاركة السياسية وفقًا لمعتقداتهم الدينية.

 

أما الفصل الرابع فَيستحضر نظرية العدالة الإسلامية في كتب ومدونات العالمين سيد قطب وعلي شريعتي؛ وذلك كونهما الأكثر تأثيرا في العصر الحديث على مفهوم العدل الإسلامي الاجتماعي. ويستكشف هذا الفصل كذلك مفهوم "العدل" في الإسلام لدى سيد قطب بإيمانه أن الإنسان قادرٌ على نيل حرية الضمير من طريق إخلاص العبودية لله -سبحانه وتعالى- والمشاركة في الأعمال الخيرية. في الجانب المقابل، يشير إلى أن علي شريعتي أكد على أن حرية الإنسان تأتي عبر إرادته الحرة القادرة على الوقوف ضد الأنظمة العالمية المشركة التي حلت محل النظام التوحيدي الإلهي؛ إذ إنّ القدرة البشرية تلعب دورًا حاسمًا في تطبيق مبادئ العدالة الإلهية، كما أن الممارسة الطوعية للأعمال الخيرية من المبادئ التأسيسية للعدالة الاجتماعية. إن هذا الفصل يركز على أهمية بناء تجسيدات معاصرة لمفهوم العدل الإسلامي؛ وذلك بضمان تعلّق المرء بإيمانه بالله -عز وجل- وحده لا شريك له، وإنشاء نظام سياسي غير قمعي، وتأهيل مجتمع يضمن توفّر العدالة الاجتماعية للجميع، فلا يخفى على الجميع تقاطع مفهوم العمل السياسي بالعدل المجتمعي.

 

وللحديث بقية لنكمل القراءة في هذا الكتاب الشائق -بحول الله- في العدد المقبل من إشراقة.

 

إرسال تعليق عن هذه المقالة