السنة 17 العدد 160
2022/10/01

الأدب والسُّموّ


 

 

د. عيسى عبد الشافي المصري

 

     الأدب عالم  فسيح من الكلام، تعدو عليه سنن التَّقلُّب والتَّغيير، فلا يسكن على حال واحد؛ فتراه في أزمان ضعيفًا هشًّا لا يقوى على النُّهوض، فيفقد مكانته في الحضارة والعمران، وتتراجع أهميته عند الإنسان، وتتثاقل على متلقيه أعباؤه وأحماله، حتى يستحيل في نظرهم مانعًا يحول دون تقدمهم وتطورهم؛ فتصبح الدعوة إلى الاستغناء عنه ضرورة لازمة. 

    وفي أزمان أخر تراه نشيطًا، قويًّا، مسيطرًا، يتدافع الناس عليه، ويتخذونه معيار ثقافتهم، وميزان عقولهم، ويحتفون به أشد الاحتفاء، ويرغِّبون فيه صغيرهم ويقدرون به كبيرهم، ويذيعونه بين طبقاتهم الاجتماعيّة، على تباينها في الثقافة، وتنافسها في الإظهار الذّاتيّ؛ فيحرص كل منها  –وبعض الحرص كذب- على أن يكون صاحب الحظِّ الأكبر في تذوّق الأدب وتمثُّله شعرًا ونثرًا.  

   ومهما يكن من أمر اضطراب الأدب في العصور، وصعوده تارة وهبوطه أخرى، فإن الأمم المتحضرة  ليس لها أن تستغني عنه، وليس لها أن تتجاهل قيمته؛ لأنه يمثل جانبًا مهمًّا من جوانب الحياة الروحية فيها، إذ أثبتت الماديات الخالصة أنها لا تقتدر على السمو بالروح الإنساني؛ فقد أعلت من صخب المدنية المسرفة واستكثرت من الكماليات الساذجة، واستحال الناس فيها رجالًا آليين لا يحسون الحياة ولا يقدرون قيم السمو فيها، كالحب والجمال، والهدوء والطمأنينة، والتعاون والتسامح...، فغلب عليهم الكره والقبح، والاكتئاب والضجر، والأنانية والانتقام، وهذه الصورة الأخيرة هي صورة الإنسان بعد أن فضل متطلبات الجسد على حاجات الروح. 

    ولا يعني هذا أن الأدب سيصلح المجتمع، بل يعني أنه من علامات صلاحه، فَانتشاره واهتمام الناس به يدلان على شيوع الثقافة التي هي رأس الإصلاح الحقيقي، والثقافة تعني كل ما تستطيع المجتمعات تحصيله من معرفة تعمل على تكوين مجتمع إنساني يحتفي بالجمال والحق والصواب، وبهذا تتشكل التربة التي يمكن أن ينشأ فيها الأدب ويقوى، فَالثقافة القوية لا يأتي منها إلا كل أدب قوي، والعكس قياس؛ ولذا يتعين على المجتمعات أن تعنى بالثقافة عنايتها بكل قطاع من قطاعات الحياة، فلا تفضل الماديات على الإنسانيات، ولا تقوّم المعرفة بناء على المنفعة المادية الخالصة، بل تبني توازنًا بين متطلبات المادة وحاجات الروح، عندها سترى كثيرًا من أبنائها يسمون بأنفسهم عن الدنايا، ويترفعونَ عن الصغائر، ويصبحون أناسًا أفضل.   

ودراستنا للأدب هي دراسة للحياة بمختلف مناحيها، ففي الأدب مواهب تنتج عبقريات تستطيع الغوص على اللغات واستخراج أسرارها، وفي الأدب تجتمع معارف الإنسان، مثل: الفلسفة والدين، والاجتماع، والنفس، وفي الأدب تجارب بشرية كلما اطلعنا عليها زاد وعينا بحقيقة الوجود، فَالشاعر المداح يكشف عن عالم من الطبقية بين ممدوح متعال وشاعر متكسب، أو بين ممدوح متعال وكلام هو أعلى منه، والشاعر الوصّاف يكشف عن العلاقات بين محسوس الأشياء ومَعقولها، والشاعر الغزل يكشف عن الشعور الروحي المتبادل بين الذكر والأنثى، ذلك الشعور الذي يرقى إلى حد ينسى فيه الإنسان نفسه ويهيم حتى الجنون، والشاعر الزاهد يكشف عن تلك العلاقة الروحية بين الإنسان وربه حتى تهون عليه الدنيا بكل شهواتها وملذاتها، ليصبح الصبر على المصائب والتغافل عنها متعة يستشعر منها الزاهد لذة العبادة والركون إلى الله عز وجل، والشاعر الراثي يكشف عن علاقات الوفاء بين اثنين آل أحدهما إلى عالم آخر، وترك مأثرة تستبقي على ذكره في الدنيا... وفي النثر عوالم مختلفة من البيان السياسي والاجتماعي، فَتتنقل من ناثر رافض يبحث في العيوب، إلى ناثر يقلب العيوب محاسن، إلى ناثر ساخر تستحيل معه الأشياء ظرفا مضحكا تتخفى خلفه جدة حزينة، إلى ناثر متكسب متسول يبيع الكلام لمن يدفع...

    فإذا كانت المعرفة الأدبية تدرس هذا كله، وهو نزر قليل إذا قيس بحقيقتها، أليس لنا أن نهتم بها، وأن نحيطها بعنايةٍ لا تقل عن عنايتنا بالطب والهندسة...؟ فالطبيب إذا داوى يقتصر دواؤه على الجسد، والمهندس إذا أعلى البنيان يقتصر أثره على حفظ الجسد في الجمادات، أما الروح فلا يصلحها الطبيب، ولا يعمرها المهندس، ومن أجل ذلك يجب أن نحييها في دواخلنا ونخرجها من أسر المادية والجمود، وشرط ذلك أن نحيي الأدب في نفوسنا، فهو الوسيلة المثلى القادرة على تحقيق ذلك، وبه نسمو ونكون أناسًا أفضل.

 

إرسال تعليق عن هذه المقالة