السنة 17 العدد 160
2022/10/01

السياحة صناعة … وفي الترحال خبايا وأسرار 

مدن عُمانية تسترخي على حارات أصيلة وقرى عريقة وصفحات زراعية ومائية وجبلية تاريخية




إشراقة: حوار العدد



أسافر بقدر الحاجة إلى السفر. من مميزات هذا العصر الذي نعيشه أن السفر أصبح من روتين الحياة، تفرضه متطلبات الحياة الشخصية أحيانا، وفي أحيان أخرى تفرضه متطلبات العمل والوظيفة. تتعدد الأسباب والأهداف، فتتعدد الوجهات، ثم يزيد الرصيد من سفر أحيانا إلى خارج الوطن وفي كثير من الأحيان في ربوع الوطن، بين جباله الشماء وفي صحاريه وسيوحه الفسيحة وعلى ضفاف شواطئ بحره الجميلة وبين مدنه وقراه العريقة وإلى صديق هنا أو ذي رحم وقرابة هناك. السفر من ضروب المشي في الأرض الذي جعله الله من سننه التي فطر الناس عليها، لا مفر منه لذي رجلين، قال تعالى: "هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَيۡهِ ٱلنُّشُورُ". هذه الأسطر افتتح بها الدكتور سليمان بن سالم الحسيني، باحث في مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي بجامعة نزوى، هذا الحوار الذي تناقشنا فيه لمحات من تلك الانطباعات التي يرتكز بها في تنقّله وأسفاره؛ إبّان إجازة صيفية شهدت حراكا سياحيا هائلا بعد توقف دام لأكثر من سنتين بسبب جائحة كورونا.

 

  1. أصبحت السياحة ميدانًا للتنافس الشديد بين الدول ... من واقع تجاربك في السفر والترحال، كيف يمكن للوطن الاستفادة من القدرة الفائقة لهذا القطاع للتأثير عليه إيجابا على مختلف المستويات؟

 

عمان بلد مميز؛ في كل زاوية من زواياه ما يجذب الاهتمام ويشد الانتباه: حارات ضاربة في عمق الأصالة، وقرى ومدن يقرأ فيها الزائر صفحات التاريخ، وبساتين غناء بهجة للناظرين، وأفلاج تروي قصة تأقلم الإنسان مع أمه الأرض، ونخيل باسقة، وبحر ورمال وجبال تستهوي الصغار والكبار على حد سواء.

الفرص السياحية في عمان كثيرة. انظر إلى محافظة الداخلية على سبيل المثال، تجدها من أولها إلى آخرها مركزا سياحيا متكاملا من حيث القرى والمدن والتاريخ والتراث والجبال والسهول والأسواق والصناعات الحرفية والناس. في مدينة واحدة كنزوى مثلا تجتمع الكثير من مقومات السياحة وما يجذب اهتمام السائح، فضلا عما في  بهلاء والحمراء وإزكي وسمائل والجبل الأخضر ومنح وأدم من مقومات ومعالم أخرى كلها ذات قيمة سياحية وتراثية وتاريخية. 

مثل هذا التنوع وما يوفره من فرص سياحية أشاد به الكثير ممن يحبون السفر والترحال من داخل عمان وخارجها. نحن أبناء الوطن بحاجة إلى أن نرى بلادنا ونعرفها حق المعرفة، وأبناؤنا بحاجة إلى أن يتعرفوا عن كثب على هذا الوطن الغالي الذي يستنشقون هواءه ويسيرون على ترابه، لنزداد حبا لعُمان، وكما يقال: "حب الأوطان من الإيمان". 

زوار الوطن من الخارج يعرفون أن عُمان بلد ضارب في عمق التاريخ، يقرأون عنها في كتب التراث العربي، وفي مخطوطات بلاد الرافدين، وما سطره مؤرخو الرومان واليونان. وعندما يأتون إلى عمان يدفعهم حب التعرف على المكان وأهله للسير في ربوعه والوقوف على معالمه الطبيعية منها والبشرية. أبحث في توتير واليوتيوب والبرامج الوثائقية المتلفزة تجد الكثير الكثير مما قاله السياح القادمون من الخارج الذين رأوا في عمان ما دفعهم إلى التعبير عن انطباعاتهم الإيجابية عن البلد وأهله والمقيمين فيه.



  1. في وقتنا هذا، كيف يوفق المرء في مقاصد السياحة بين مفهومي (التعبد والتوجه إلى الله تعالى) و (الترفيه والنزهة)؟

 

السير في الأرض والتفكر في خلق الله والنظر فيما صنعته البشرية في استخلاف الله لها في الأرض وما آلت إليه الأمم والشعوب السابقة، أمر وجه الله سبحانه وتعالى إليه الإنسان ولفت إليه اهتمامه وعقله. "قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ بَدَأَ ٱلۡخَلۡقَۚ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِئُ ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡأٓخِرَةَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ". فلا تعارض بين السفر والتعبد لله. والترفيه والنزهة ليسا من المحظورات أو الممنوعات في شرع الله، وهما نتيجة طبيعية للسفر. في عصرنا هذا، ومع ازدياد الضغوط النفسية والجسدية نتيجة الدراسة والعمل والكتابة والتأليف يجد الإنسان نفسه بحاجة إلى الخروج من ذلك الروتين الذي يطارده في كل وقت وحين. وليس من شيء يجدد النشاط ويبعث الهمة ويريح البال من سفر لا تصحبه مشقة ولا كدر، سفر خارج المألوف، يترك الإنسان في أثنائه كل مشاغله وراءه، ويفرغ لتنفس الصعداء في بقعة أخرى من أرض الله الواسعة، ثم يقول: "رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ".




  1. ما الأهداف النبيلة التي يمكن للإنسان الحصول عليها في أثناء سياحته؟ أعطنا نماذج حيّة؟

 

الأهداف النبيلة كثيرة منها معرفة الآخر في أرضه وبيئته ووفق حياته الثقافية والاجتماعية التي يعيشها واقعا. بمثل هذا التعارف المبني على رؤية الواقع تنزاح كثير من التصورات والمفاهيم المبنية على ما سمع الشخص أو ما قيل له أو ما شاهده في وسائل الإعلام وغيرها.

إن رؤية الآخر في بيئته والعيش مع الشعوب والأمم في وطنها ولو لفترة قصيرة يعطي انطباعا لا يمكن تكوينه بأي طريقة أخرى، وكما يقال: "من رأى ليس كمن سمع". ولنا فيما كتبه الرحالة السابقون خير مثال، فابن بطوطة مثلا -وهو من المغرب الأقصى- وصف الأماكن والشعوب والدول كما رآها في جولاته  في الشرق وزار فيها كثيرا من الدول في شبه الجزيرة العربية وشرق إفريقيا والهند بما فيها عمان التي كتب عنها وعن بحارتها وسفنها التي تجوب المحيط.

وفي عصرنا هذا يمكن بمثل هذه الزيارات أن تمد جسور التواصل الشخصية والعلمية والأكاديمية. فعلى سبيل المثال، حضور المؤتمرات الخارجية فرصة مواتية للتعرف على الأكاديميين والباحثين والمهتمين من الدول والشعوب المختلفة، وتكوين شبكات من الزمالة في مجال التخصص والاهتمام الأكاديمي. ومن هذا المنطلق جاءت سلسلة المقالات التي كتبتها عن بعض أسفاري ورحلاتي داخل الوطن وخارجه ونشرتها (إشراقة) على مدى أعداد عديدة. فتلك المقالات الهدف منها إمتاع القارئ بموضوع سلسلة يقرأه فيجد فيه معلومة مفيدة عن أرض أو بلد يعرفه أو لا يعرفه، فيقرأ ما يبهج النفس ويسر البال. 

 

  1. من وجهة نظرك، كيف يمكن إظهار الأهداف المرجوّة والمتحققة من نشاط السياحة فكراً وسلوكاً؟

 

بالتركيز على السياحة البناءة في كافة المجالات. السياحة في عمان عائلية، هذا ما نراه أمامنا وما يشهد عليه الواقع، ليس على مستوى الأسرة العمانية وحسب وإنما كذلك بالنسبة للمقيمين والقادمين من خارج عمان. أعتقد أن الاستثمار الحقيقي يجب أن يكون في هذا المجال، أي السياحة العائلية والأسرية. عندما تخرج العائلة بأكملها في جولة سياحية فإنها تكون قد أعدت العدة لذلك؛ لذا ينبغي إشباع رغبات جميع أفراد الأسرة من أطفال وشباب ونساء ورجال؛ أي يجب أن يجد كل فرد من أفراد الأسرة ما يتطلع إليه وما يريد في تلك الجولة السياحية. الأسر بطبيعتها تعمل وفق نمط أخلاقي معين؛ لذا فإن  السياحة العائلية تضبط السلوك وتحافظ على قيم المجتمع. 

 

 

  1. دعنا نناقش مصطلحات مهمة في هذا السياق ... (الإعلام السياحي) – (الاقتصاديات السياحية) – (صناعة السياحة) – (السياحة والإسلام) – (التراث السياحي) مع تقديم أمثلة ونماذج حيوية؟

 

هذه المصطلحات تخصصية وأفضل من يمكن أن يتحدث عنها الشخص المتخصص في مجال السياحة. وإن من شيء يمكن أن نفهمه من هذه المصطلحات هو أن السياحة أصبحت علما مستقلا بذاته ومترابط مع العلوم الأخرى، مثل: الاقتصاد والإعلام، والتراث، والتعليم، وغيرها.

مصطلح صناعة السياحة في حد ذاته يدل على أن السياحة قطاع قائم بذاته يسهم في رفد ميزانية الدولة ويدر الأموال ومصدر رزق للعاملين فيه، ويوفر الكثير من فرص التوظيف للقوى العاملة من أبناء البلد. صناعة السياحة يمكن أن تزدهر أكثر وأكثر عندما يقوم الإعلام بدوره بموضوعية ومهنية في مناقشة جوانب القوة والضعف في مجال السياحة، ويبرز المعالم السياحية في البلد سواء البشرية منها أو الطبيعية مثل الجبال والصحاري والشواطئ وما يكمن فيها من فرص سياحية. أيضا هناك السياحة التعليمية، فعُمان بلد حباه الله بالكثير من المعالم الجيولوجية التي تجذب المختصين، وفيها الكثير من المواقع التراثية، وهنا يأتي دور التراث السياحي في عمان ومكانته. فمسفاة العبريين وحارة العقر بنزوى وحلة البوسعيديين في أدم كلها أمثلة على مواقع تراثية نشطة سياحيا.

 

  1. ما الأفكار والمقترحات المتجددة لديكم للمراهنة على تطوّر السياحة في البلد؟

 

في نظري السياحة في عمان أمام مفترق طرق: بين ما هو قائم والجديد الذي يمكن إضافته إلى المنجز الحالي. فلا شك أن هناك الكثير الكثير الذي يمكن عمله لتطوير السياحة في عمان. ونحن نطالع في وسائل التواصل الاجتماعي، وغيرها، الكثير من المقترحات والأصوات والنداءات التي تقول بصوت مشترك إن عمان فيها الكثير مما يستحق أن يراه الزائر القادم إليها من الخارج، ويستشعره المواطن والمقيم المتأقلم مع الموجود والمأثور؛ لكن ذلك كله بحاجة إلى لمسات تجديد وإبداع جديدين يدركه المشتغلون في السياحة والمهتمون بها.

انظر على سبيل المثال إلى خريف ظفار لهذا الموسم 2022، كم من الأفكار طرحها زوار الخريف في صفحاتهم وتغريداتهم ومقاطعهم، إن دلت على شيء فإنما تدل على الرغبة في إضافة الجديد إلى جانب حبهم للمكان وإعجابهم بالمنجز وتقديرهم الشديد للساهرين خلف الكواليس على إنجاح بهجة الخريف. 

السياحة مجال متجدد بتجدد معطيات العصر التكنولوجية والخدمية والعلمية والترفيهية، والناس دائما يبهرهم التجديد ويبحثون عن الجديد. عندما زرت مدينة طاقة ورأيت الزوار يصعدون إلى التلة التي تقع فيها قلعة طاقة، قلت في نفسي إن هذا المكان يصلح أن يكون متحفا عسكريا مفتوحا بحكم أحداثه التاريخية، بل يمكن أن يصبح مركز المدينة بأكمله نقطة جذب سياحي، ففيه الكثير من المقومات التي تؤهله ليتصدر المشهد السياحي. وفي الواقع في كل ربوع عمان المترامية من مسندم إلى ظفار، ومن الباطنة إلى الظاهرة ومن الشرقية إلى الداخلية كم من مكان ومعلم وموروث ومنجز يمكن أن يستثمر أفضل استثمار للسياحة المثرية والمميزة والبناءة في عُمان.

 

إرسال تعليق عن هذه المقالة