السنة 17 العدد 159
2022/09/01

اللغة والجامعة

(2)

 

 


 

 

    د. عيسى عبد الشافي المصري

            قسم اللغة العربية

 

 

    لا ريب في أن اللغة هي الشرط الأصيل الذي يجب أن يتوفر عليه طالب العلم في رحلته الطويلة في البحث عن المعرفة، والتوفر على اللغة ليس أمرًا هينًا ولا صعبًا في الوقت نفسه، فالصعب فيها يكمن في إقناع الطالب بأن لغة الكلام العادي التي يتواصل بها الناس في أحاديثهم اليومية لا تصلح أن تقوم وسيطًا ناجعًا بينه وبين العلم؛ لأنها فقيرة المعاني، شحيحة الألفاظ، مدارها على تحصيل احتياجات الإنسان اليومية فقط، وإذا قنع المتكلم بذلك سهل عليه من بعد أن يبحث عن لغة عميقة المعاني، كثيرة الألفاظ، توفق بين حاجاته اليومية وغاياته العقلية. 

    والجامعة يمكن أن نعدها أعظم ابتكار بشري في ميدان العلم؛ فطلبة العلم قديمًا كانوا يجوبون البلاد لجمع العلم والتلمذة على العلماء، أما بعد الجامعة فلم تعد الحاجة كبيرة إلى الأسفار والرحلات؛ فقد جمعت تلك البيئة العلماء من كل الأصقاع، ووفرت ما تستطيعه من وسائل التواصل الحديثة لتضع كل ما له صلة بالعلم بين يدي الطالب، وعلى الرغم من سهولة وسائل الاتصال التي أنتجتها التقنية الحديثة في التعلم والتعليم فإن اكتساب اللغة العلمية لا يتأتى إلا من طريقين أصيلين، هما: الأستاذ الجامعي، والكتاب، وهذان هما المتكلمان الوحيدان في العلم، وسواهما آلات صماء خرساء.

    أما أساتذة الجامعة -على اختلاف تكويناتهم العلمية- فيجمعهم عامل واحد هو اللغة؛ إذ من غير الممكن أن يسير الأستاذ الجامعي في مراحل الطلب الصحيحة دون أن تصاحبه لغة المثقف العالية؛ ولذا يجب أن يدرك الطالب أن أستاذه الذي يجلس بين يديه سيتكلم معه بلغة خاصة هي لغة العلم، كما أنه لن ينزل إلى مستواه اللغوي بدعوى التبسيط والتسهيل؛ لأنه أتى إلى الجامعة ليرتقي بعقله وتفكيره، وليس ليبقى على ما هو عليه. وأما الكتاب فأصول تأليفه ونشره تقتضي أن يكتب بلغة عالية، ثم يفرض على الطالب ضرورة إجادة فهم هذه اللغة، وإلا غدت قراءته له أشبه بقراءة الأحاجي والألغاز، ولعل هذا يفسر نفور كثير من الطلبة من القراءة؛ فهم -في الأغلب- لا يكرهون الكتاب ولكنهم لا يستطيعون -لضعف لغتهم- التواصل مع عباراته، ومن جهل شيئا عاداه. 

    والطالب الجامعي نوعان: أحدهما نشأ في بيئة علمية ضيقة، فاكتفى بتحصيل اللغة من أهله وأقاربه وأصدقائه، ولم يهتم بلغة المدرسة التي وضعها التربويون من أجل إعداده للدراسة الجامعية، فخرج عيي اللسان، ضعيف التفكير، كسولًا أشد الكسل في الطلب والتحصيل. والآخر، نشأ في بيئة علمية واسعة، فاكتسب اللغة من أهله وأقاربه وأصدقائه، ثم غذاها بلغة المدرسة، ثم غذاها بمطالعة الكتب ومذاكرتها، ثم هذبها بمحاورة الناس ومناقشتهم، فخرج حادَّ اللسان، قوي التفكير، نشيطًا أشد النشاط في الطلب والتحصيل. 

    وكلا الطالبين تجمعهما الجامعة ويتخرجان فيها، لكن شتان ما بينهما، فالأول سيصدم عند سماعه المحاضرات الأولى؛ إذ يطرق أذنيه كلام مرتب منظم يسير على منطق معلوم يبدأ بمقدمات، ثم تحليلات، ثم نتائج، وهذا نحو من الكلام لم يعتد عليه سابقًا، فينشب في داخله صراع شديد بين بيئتين: بيئته العامة السهلة اليسيرة، وبيئة الجامعة الصعبة العسيرة، وكثير من الطلبة يخفقون في التوفيق بينهما، وينتصرون بطريقة ساذجة لبيئتهم العامة، ونتيجة ذلك تكون كارثة عليهم؛ إذا يبقون على حالهم الأولى فلا تشعر بأنهم مروا على جدار جامعة، فضلا عن أن يكونوا قد درسوا فيها. وأما الطالب الثاني فتراه حريصا على الطلب، يحاول أن يزيد من معرفته قدر ما يستطيع، فيناقش ويحاور، ويقبل ويرفض، وكل ذلك في إطار لغوي عال، كان قد اكتسب جزءًا منه في مراحل طلبه الأولى ثم استكمله في الجامعة؛ ومثله إذا استمعت إليه أدركت مباشرة أنه طالب جامعي، ليس لأنه يتحدث لغة الكيمياء أو الفيزياء...؛ ولكن لأنه يتكلم بطريقة منظمة مرتبة تدل على أنه مثقف، ومعنى هذا أن اللسان هو أول دلائل الثقافة.  

    ومعلوم أن إتقان لغة العلم سيفضي إلى نسيان الطالب لغة أبيه، ولا يكون هذا من باب العقوق أو الكبر، بل هو باب البر والتواضع؛ فبعد أربع سنوات سيعجب الأب بابنه أشد الإعجاب حين يراه متكلمًا قادرًا على حل المشكلات، وتحمل المسؤوليات، فيناقش بأدب، ويقنع بحجة، ويفصح بلسان مبين، أما إذا كان العكس فسيحبط الأب ويشعر أن ما أنفقه طوال سنين قد ذهب في الريح، وأن ولده الذي انتظره ليكون معينًا له لا يزال يحتاج إلى من يعينه، وكفى بهذا عقوقا.

    وبالجملة، فإن العبارة السّيّارة: "نحن نتعلم لنكون أناسًا أفضل"، هي الشعار الذي يجب أن يعلق في ذهن كل طالب جامعي، وأقل الفضل أن يتخرج الطالب في الجامعة وقد ملك لسانًا مبينًا يكشف عن صحة عقله، واتساع مداركه، وهذا ليس بعزيز على كل من ابتغاه وأراده.

 

إرسال تعليق عن هذه المقالة