اللغة والجامعة (1)
د. عيسى عبد الشافي المصري
قسم اللغة العربية
اللغة روح الإنسان، تشهد له على وجوده، وتكفل له حضوره؛ وليس بمكنتنا أن نتخيل اجتماعا بشريا من غير لغة؛ ولذا رأى الفلاسفة القدماء أن الإنسان كائن مدني بطبعه؛ أي لا يعيش وحده، بل هو موجود بغيره، حاضر بتواصله، ولم يكن ليتأدى إلى اجتماعيته هذه إلا بوسيط فاعل، وهذا الوسيط قد يتعدد لكن مركزه الأول هو اللغة من حيث هي الشرط الأساس لقيام أي عملية تواصلية في المجتمع؛ إذ ينفث المرء بها كل ما يجيش في صدره، فهي دليل حزنه وشاهد فرحه. وبها يعبر عن أحوال معاشه وملابسات حياته، فهي دليل حياته ومجلى معاشه. وبها يظهر قيمة حضارته، فهي نبأ علمه وعنوان ثقافته، وهذه الموضوعات الثلاثة: النفس، الحياة، الحضارة، هي مدارات حوارات البشر جميعا في اليوم والليلة.
وتنشأ لغة الإنسان مع ولادته، وتأخذ بالنمو والتطور حتى يلقي عصاه، ويصيبها في مراحل نموها التغير والتبدل، فتبدأ بصراخ ثم تأتأة وفأفأة ثم حروف، فكلمات، فجمل، وتستمر بالتطور لتنتهي إلى لغة أديب عالية، أو تنتكس فتصبح لغة عامي مرذولة، وفي كلتا الحالين يعبر الإنسان ويتواصل، يرسم حياته، ويكون علاقاته، على أن هذه الحياة وتلك العلاقات تصبح متفاوتة بين إنسان وآخر؛ والسبب في ذلك أن اللغة بمقدورها أن تنشئ نظاما طبقيا شديد الاختلاف في المجتمع، فلغة البدو غير لغة الحضر، ولغة الشمال غير لغة الجنوب، ولغة العلماء غير لغة العامة، ولغة الصناع غير لغة التجار...؛ فالطبقية اللغوية أمر واقع لا يمكن إلغاؤه من طريق وضع لغة موحدة تجمع بين طبقات المجتمع الواحد، أو بين المجتمعات المختلفة، فالتوحيد وهم ترنو إليه العواطف وترفضه العقول، وينفيه الواقع، كما لا يمكن إلغاؤه من طريق إقصاء بعض الطبقات أو تهميشها؛ لأن اللغة الحية تستمد قوتها من تعدد مستوياتها، فلكل مستوى -فصيح أو مرذول- نصيب من الفصاحة والبيان.
على أن معرفة الإنسان بقوة اللغة وأهميتها، وما يصدر عنها من تقسيمات اجتماعية، وتجليات عقلية، لم يجعله - عبر التاريخ- يقدر وظيفته الكلامية تقديره لوظائفه الغريزية الأخر، ولعل الاهتمام الجمعي الوحيد باللغة هو ذاك الذي يظهر في مراحل الطفولة، فترى الوالدين يهتمان أشد الاهتمام بسماع كلمات ولدهما الأولى، وهذا ليس حرصا على اللغة، وإنما خشية إصابة ولدهما بالخرس؛ فهما يدركان أن اللغة هي نطق الحروف وقراءة الكلمات وكتابتها، وإن تخللتها بعض الأخطاء فهذا ليس بالعيب الكبير، أما ما يظهر بعد ذلك من عيوب كعي اللسان، وضيق البيان، وركاكة التعبير، وضعف الحوار، وكثرة التكرار، ولين الجدال، وفقر الدلالة، وفراغ المعنى... فهو أبعد من تفكيرهما، وإن كانت هذه العيوب –في بعض الأحيان- أشد بؤسا من الخرس المطبق، فاللغة ليست حروفا صماء وإنما هي حياة ووجود ومنتهى، فالبداية كانت بالكلمة والنهاية ستكون بالكلمة، ننال الخير بالكلمة، وندفع الشر بالكلمة...
وعليه، فاللغة الأولى على أهميتها ليست اللغة الحقيقية التي تعادل روح الإنسان، إنها لغة بيولوجية حسب، وستبقى كذلك حتى المنتهى عند كثير من الناس، وهنا تكمن المشكلة اللغوية، فالطفل يتعلم النطق ويبرع في ذلك براعة شديدة، ثم عندما تأتيه مرحلة البناء والتكوين الفعلي للسان، تصيبه انتكاسة لسانية، فاللغة الأولى يشترك فيها الناس جميعا، الحروف هي هي، الكلمات هي هي، ويكفي الطفل أن يحسن لفظها حتى يستريح الآباء كما تقدم، لكن اللغة التي تكشف عن عقله ليست مشتركة بين الناس جميعا، إنها خاصة أشد الخصوص، وهي رهن البيئة المعيشة، وأساليب التنشئة فيها، والبيئات على الأغلب فقيرة لغويا، لا تضم سوى عدد قليل من الألفاظ والمعاني تدور على ألسنة القوم، ومن السهل أن توجد لهم معجما خاصا، ومن السهل أن تتوقع ما سيقولون في أي موقف من المواقف، لكن من الصعب أن تدخل فيهم ألفاظا من خارج بيئتهم، وهذا معاين في كثير من البيئات التي تنشأ فيها جامعات وأكاديميات علمية، يتكلم فيها الأساتذة لغة العلم والمثقفين، وهي لغة يواجهها طلبة الجامعة بكثير من الاستغراب والعجب، ويرونها عنصرا دخيلا على لسانهم، فيتناهى إلى آذانهم كلام بحروفهم ليس من كلامهم، وبهذا تكون أول المفاجآت التي يلقاها الطالب في الجامعة هي اللغة، وهذا ما سنبينه في المقالة القادمة بحول الله تعالى.