السنة 17 العدد 157
2022/07/01

 

طليعة مصممي الأزياء... ورؤية غير نمطية لعلاقة الإنسان بما يرتديه


 

كتبت: رحاب رجب

أستاذة تصميم الأزياء بجامعة نزوى 

يونيو- 2022م

 

منذ مئات السنين والملابس تصيغ أجسادنا بأنماط وأشكال مختلفة، تختلف عبر مسارات التاريخ قدما وحداثة وفي بقاع الأرض المختلفة، فبنية الجسد البشري تتشابه إلى حد كبير بين مختلف شعوب الأرض، إلا أن الاختلافات بين الملابس التي تغطي هذه الأجساد هو ما جاء متنوعا بشكل كبير بين حضارة وأخرى وبين شعب وآخر. هذا التنوع دفع مصممي الموضة وعلوم الإنسان والاجتماع لدراسة تاريخ أزياء الحضارات والشعوب، تلك الدراسة التي تبين من فيها أن مرجع ذلك التنوع الواضح في أنماط الأزياء لأسباب عديدة، منها تنوع الموارد والتضاريس والمناخ والثقافة، كذلك المستوى العلمي والتقدم التكنولوجي لاحقا.

 

كثيرا ما استلهم مصممو الموضة المعاصرين من الأزياء التاريخية السابقة وأعادوا صياغتها بما يتوافق مع الاتجاهات المعاصرة، إلا أن بعضا من طليعة المصممين نظروا إلى مفهوم الموضة نظرة غير نمطية، لم يعتدوا بالموضة مادةً للستر والتجمل والحماية فقط أو إبراز الهوية والتفاخر الاجتماعي، إنما عمدوا إلى التعمق في علاقة الموضة بالجسد، إذ تناولوا هذه العلاقة بأسلوب فلسفي تارة بهدف إثارة التساؤل في ماهية الموضة ودورها، وتارة أخرى بأساليب فنية تهدف إلى التلاعب بأبعاد الجسد بناء على جماليات جديدة يبتكرها المصمم. بعضهم دمج الموضة بالعمارة ليضع قالب الجسد في هيكل معماري مبتكر، وبعضهم أضفى صفة تعبيرية عن علاقة الموضة بالجسد معا، وبعضهم قدم موضة تهكمية أو صادمة.

 

المغزى أن هؤلاء الطليعة نظروا إلى علاقة الموضة بالجسد من زاوية جديدة، والكاتبة تتساءل: هل إتاحة الخالق سبحانه وتعالى للإنسان أن يخترع بمطلق حريته ما يغطي جسده هو ما أغرى هؤلاء الطليعة على وجه الخصوص لتلك الزوايا الجديدة التي نظروا منها لأجسادنا ولما يغطي تلك الأجساد!

 

من طريق المقال يتم عرض بعض من أبرز النماذج لطليعة مصممي عالم الموضة والأزياء للاقتراب من نظرتهم والتعرف عليها والإفادة منها بالعالم العربي على مستوى التطبيق والابتكار. 

 

-المصمم "كاريج جرين" Carig Green: 

 

من مواليد 1986م – المملكة المتحدة، حصل على الماجستير من CSM سنترال سانت مارتن عام 2012م، حصل على العديد من الجوائز وشارك في العديد من المعارض الدولية. تأثر "جرين" بعمل والده في صيانة السيارات وعمل عمه بأعمال النجارة، فعندما التحق بالأكاديمية تكونت رؤيته للموضة على خلفية الخبرات المحيطة به، فنظر للموضة من منظور البناء والخامات والعمل اليدوي، في كل مجموعة يقوم بتصميمها يتناول "جرين" المفاهيم الثلاثة (البناء- الخامات- العمل اليدوي). وهو أيضا لا يميل إلى الأساليب المدنية والإنتاج الكبير في التصنيع، ويؤمن بالإنتاج الفردي الحرفي أو ما يطلق عليه الـ non-digital approach، ويرى أن العمل اليدوي يضفي قيمة أعلى على الخامة حتى وإن كانت زهيدة.

 

في عام 2018م عمل مع العلامة التجارية الإيطالية Moncler المتخصصة في إنتاج الجاكيتات الشتوية المنتفخة بأسلوب التضريب (حياكة ظاهرة على القماش الخارجي للجاكيت تعطي أشكال هندسية بارزة نتيجة درزات الحياكة الغائرة التي تجمع القماش الخارجي والبطانة الداخلية وبينهما حشوات الفيبر الصناعي الداخلية). مجموعة "كبسول" “Capsule” وفيها يتحول التصميم بالكامل إلى قطعة منفصلة يمكن طيها وحملها، المفاهيم التي عمل عليها المصمم هي (الحماية) و (البيئة). وفي العمل لنفس العلامة التجارية مشروع تحت مسمى “Moncler Genius” قدم مجموعة أخرى بعنوان: “Wearable Habitats” عرض منها تصميمات مبهرة تشبه الخيام وأشكال الطائرات الورقية، المفهوم من ورائها هو (الأداء) فكل تصميم من المجموعة تتحرك أجزاؤه تلقائيا أو بفعل المرتدي، التصميمات كأنها أجزاء من الستائر المنسدلة على مجموعة من الأسلاك والحبال. وفي مجموعة المصمم لنفس العلامة ربيع/صيف 2022م ذهب بالإبداع بعيدا، إذ قدّم تصميمات بنائية مستطيلة الشكل من خامة المطاط، تستحضر الطائرات الشراعية والقوارب المطاطية، مدمج بها مجموعة أعمدة مرنة داخلة في الملابس وأعلام. بناء كامل من التصميم يستهدف الارتداء والمعيشة معا في الطبيعة البحرية. 

 

      

  

 

-المصممة “باولين فان دونجين" Pauline Van Dongen:

 

من مواليد 1986م-هولندا، أنهت دراستها في الفنون عام 2010م، المنهج التكنولوجي والموضة الوظيفية التقنية الأسلوب المتبع لدى المصممة، إذ تعد تصميم الموضة لا قيمة له إذا كان الهدف كل موسم يتمحور في الإتيان بالجديد والغريب فقط، وتقديم ما يلقى إعجاب المستهلكين الزبائن، تدلل على هذا الرأي بقولها إن الموضة -لعقود طويلة- تتبع نفس النمط في الإنتاج، وأن الفارق الحقيقي الآن يأتي عندما يتعاون مجموعة من المبرمجين أو المهندسين في إنتاج الموضة التي نرتديها.

 

قامت المصممة بتنفيذ مشروع تحت عنوان “Wearable Solar” عام 2013م، إذ دمجت التصميم بالتكنولوجيا والنسيج، تعاون معها فريق عمل من تخصصات عدة، إذ قامت بتصميم جاكيت نسائي وفستان، دمجت بالأول عدد (48) وبالثاني عدد (72) خلية شمسية، هذه الخلايا مخفية تحت أجزاء ملحقة بالملابس ومستقلة عنها -يمكن الفك والتركيب- تختفي تحت طيات، عندما يسير المرتدي تحت أشعة الشمس يمكن شحن الهاتف عبر تحويل الطاقة الحرارية إلى كهربائية بواسطة الخلايا الشمسية. تتطلع "فان دونجن" إلى إمكانية إنتاج مكونات إلكترونية أكثر دقة وصغر في الحجم حتى يمكن دمج هذه الإلكترونيات داخل ملابسنا، كما أنها تتنبأ بأن المخاوف التي تعوق دون التصاق هذه الإكترونيات بأجسادنا مباشرة سوف تقل وتنتهي مع الزمن، وأن الهواتف المحمولة والساعات الذكية ونظارات Google أصدق دليل على ذلك.

 

       

 

-المصممان "فيكتور هورستينج و رولف سنورين" Viktor Horsting  و Rolf Senoeren:

   

فيكتور ورولف كلاهما مواليد 1969م-هولندا، عملا معا منذ تخرجهما عام 1992م من Artenz Institute of the Arts، بعدها مباشرة توجها إلى باريس، العام الآتي حازا على جائزة دولية في تصميم الموضة. 

 

عرض الحياكة الراقية ربيع/صيف 2015 بعنوان "فتيات فان جوخ" “Van Gogh Girls” نظرا المصممان للمرأة في يوم صيف مثالي بعين الفنان "فان جوخ"، حيث زهور عباد الشمس وقبعات القش والنعال المسطحة الملونة. فساتين قصيرة يصل طولها إلى منتصف الفخذ بكشكشات وجوديهات ضخمة، بارزة بشكل واضح مفصحة عن خامات التقوية التي دعمت الأقمشة؛ لتبدو بهذا المظهر الصلب المتماسك، والبطانات البيضاء من أسفلها. الأقمشة منقوشة بالزهور الكبيرة يغلب عليها اللون الأصفر في تأكيد لأجواء زهور عباد الشمس والأجواء الريفية التي تناولها الفنان في أعماله، بعض الزهور انطلقت بارزة على سطح الأقمشة وبعضها الآخر -في إشارات سوريالية- تحول لمظهر شبكي متسلقة على قبعات القش. أضافا الشرائط السوداء الكبيرة لإعطاء الزهور سمة صحبة الورد. هكذا أعمالهما من بداية ظهورهما إلى الآن، كل مجموعة تتناول مفهوما معينا، يقدمانه بتصور إبداعي غير مسبوق، الموضة بالنسبة إليهما هي وسيط من وسائط الفن المفاهيمي. 

 

   

 

-المصمم "جاريث بو" Gareth Pugh:

 

من مواليد 1981م- المملكة المتحدة، تخرج من كلية الفنون بلندن 2003م، مجموعاته لفتت الأنظار إليه من البداية، فقد تميزت بالاقتباس من عالم الأشباح والأرواح، العوالم الغامضة والتجسيدات الخيالية، منهج المصمم يعتمد على الرعب الممزوج بالغرابة. قدم عرضه الفردي الأول عام 2006م، ومن حينها والمصمم على نفس الوتيرة، تصميماته لا تستهدف البيع والشراء بقدر طرحها لمفاهيم يصورها بأساليب إبداعية، في مجموعته التي قدمها ربيع/صيف 2015م – باريس، جاءت تصميماته على العارضات مصورة كائنات من كوكب آخر، في هذه المجموعة استلهم المصمم أعماله من فيلم "رجل الخوص" الذي تم إنتاجه عام 1973م عن شخصيات الخرافات، حيث خرافات تحوم حول الزراعة القديمة- مواسم الحصاد- آلهة البحر و أفكار الموت والبعث، فمثلا تأثرت تصميماته بهيئة رجل الخوص أو كما يطلق عليه باللغة الدارجة "خيال المآته" ويسمى بالثقافة الأوروبية "عروسة الذرة" و "ملكة مايو" المصنوع من الخيش. يتبين أن منهجية "بو" تتشكل عبر تبني أحد المفاهيم، ثم ينطلق على ساحات الجسد معبرا عن هذا المفهوم الذي لا يمنعه إمكانية توظيف التصميم للارتداء في الحياة الاعتيادية من عدمه، كذلك أبعاد الجسد لم يلتزم بها، بل خرج عنها مقدما هيئات غير آدمية أحيانا خلطها بعالم الأشباح أو الحيوانات أو تصورات خرافية، أيضا الخامات لم تسلم من نزعات "بو" الغرائبية، إلا أنه في النهاية وبرأي العديد من نقاد الموضة ومحلليها مصمم طليعي صاحب أعمال إبداعية ورؤية متميزة وغير مسبوقة وأعماله تفاجئ المشاهدين وتبهرهم. 

 

 

 

-المصممة "آيرس فان هربن" Iris Van Herpen:

 

من مواليد 1984م-هولندا، درست تصميم الموضة بـ Artez Institute of the Arts-. يصف بعض محللي الموضة أعمال "فان هربن" بقولهم "إن مصطلح نحتي هو الأنسب لوصف أعمالها، أعمال فان هربن أعمال مستقبلية" إلا أن "هربن" تضع عامل (الحركة) في اعتبارها بشكل قوي وأساسي، فتصميماتها تتأثر بحركة الجسد وتتحرك أجزاء التصميم مع هذه الحركة، بل كثيرا ما تظهر تكوينات جمالية جديدة من هذه الحركة. وتعد “هربن" من أكثر المصممين توظيفا لتكنولوجيا الطباعة ثلاثية الأبعاد في مجال الموضة، من طريق توظيف هذه التقنية والإمكانات اللانهائية التي تتيحها. وقد استطاعت أفكار “هربن" الابتكارية تقديم تصميمات لا شبيه لها. وتعتمد المصممة على تقنيات الطباعة الثلاثية لإنتاج أجزاء التصميم، إلا أنها تستكمل عملها من الأعمال اليدوية الدقيقة حيث التركيب والتثبيت والانهاء الدقيق، تقول "هربن": "التكنولوجيا والعمل اليدوي لكل منهما طاقته وجماله الخاص، إذا ما تم دمجهما معا بدلا من استبدال أحدهما بالآخر؛ فإن ذلك يحقق للمصمم إمكانات أكثر ثراء". 

 

في مجموعتها يوليو 2008م بعنوان “Refinery Smoke” "دخان مصفى" عكست "هربن" الغموض والجمال الكامن في الدخان المتصاعد في الهواء، تتمتع أشكاله بتموجات جمالية وسمية في ذات الوقت، لمحاكاة شكل الدخان ابتكرت نسيج من الشاش المعدني الدقيق الرقيق المرن للغاية، تم نسجه خصيصا لهذه المجموعة. وفي مجموعة “Mummification” "تحنيط" يناير 2009م أغرمت "فان هربن" بالجمال الغامض لعملية التحنيط عند المصريين القدماء، وقدر الاحترام الهائل الذي يحيط هذه العملية إذ لف الجسد وتغطيته بنمط هندسي نموذجي، وأرادت المصممة ابتكار واقع جديد للمومياوات. 

                                                                                        

 

 

عرضت الكاتبة بعض النماذج غير التقليدية من أعمال خمسة مصممين من طليعة مصممي الأزياء، وكيف أن أعمالهم دمجت بين الأزياء وتخصصات أخرى عديدة تطبيقا لمنهجية تعددية التخصصات، كما أن رؤيتهم للملابس جاءت غير نمطية، وظفوا من طريقها التكنولوجيا تارة، أو عمدوا إلى التعامل مع الخامات والتقنيات بأسلوب غير نمطي. هناك ضرورة لأن يلتفت الدارسون العرب إلى هذه التطبيقات، إذ إن مستقبل الأزياء سوف يتخطى حدود المعهود والمتعارف عليه، نستهدف أن يكون لنا مكان بين مبدعي اليوم ومنتجي الغد.  

إرسال تعليق عن هذه المقالة