السنة 17 العدد 157
2022/07/01

 

سلطنة عُمان: الثقافة والمكان


 

أ.د. فليح مضحي أحمد السامرائي

 

كلية العلوم والآداب، جامعة نزوى

 

تنفرد سلطنة عُمان من بين دول المنطقة -خليجياً وعربياً- بثقافة نوعية خاصة لها على علاقة بالمكان، فالرصيد التاريخي الضارب في أعماق الزمن للحاضرة العُمانية ينبئ بأنّ هذا المكان لا يمكن أن يكون إلا مساحة للثقافة والحضارة والإرث المجيد، فثمّة حساسية بالغة الخصوصية تكتسي بها الأمكنة العُمانية كلها على نحو عجيب لا يمكن أن تراه في أيّ مكان آخر في العالم، وتتمثل هذه الألفة بالأمان والألفة والثقة والخلوّ من العُقَد والبعد عن الإحساس الطارد للمكان، وهي ألفة يستشعرها الغريب قبل القريب، والوافد قبل المواطن، والزائر قبل الماكث، ألفة عجيبة تجعل الإنسان بعيداً كل البعد عن الشعور بالغربة التي يتحسسها الإنسان عادةً حين يغادر مكانه الأصلي، وهي سمة نادرة قلّما تتمتع بها الأمكنة في الراهن المكاني القائم على الاستغلال والعولمة ورأس المال في دوّامة لا ترحم ولا تستكين ولا تنتهي.

 

ترتبط الثقافة بالمكان ارتباطاً وثيقاً، إذ أتى كثير من الفلاسفة والباحثين والأدباء على فضاء هذه العلاقة وناقشوها بعمق، فهناك على هذا المستوى ثقافة مائية وثقافة سهلية وثقافة جبلية وثقافة صحراوية وغير ذلك ممّا توفّره طبيعة المكان من استعداد لبناء ثقافة معيّنة، وإذا كان للخليج العربي تأثير ما على دول الخليج كلّها بلا استثناء، فإنّ الطبيعة الجبلية التي تتميّز بها السلطنة تضيف لثقافتها الكثير، وجبال السلطنة ذات خصوصية تحمل في طيّاتها هذه الألفة الثقافية التي يراها الناظر وهو يرصد هذه التموّجات الجبلية العجيبة، جبال هائلة تمتدّ على مدّ النظر وتتلّون بألوان ساحرة تُشعِر الناظر أنها تختزن في أعماقها كثيرا من الحكايات والقصص، مثلما تحتوي على أسرار تَعِدُ بالكثير من المعادن الثمينة التي قد تستكشف في يوم ما.

 

لا يمكن للثقافة في شتّى معانيها أن تبتعد عن المكان وتتأثر به وتأخذ منه وتتحلّى بما يتميز به من ممكنات وخصائص وشمائل، لاسيما أن كل منطقة من مناطق سلطنة عُمان لها صفات مكانية خاصة على الرغم من اشتراكها في صفات عامة، وهذا التنوّع المكاني الكريم هو الذي يكرس ثقافة عميقة ومتنوعة تستجيب لهذا التنوع المكاني على نحو أكيد، حين تكون الثقافة على أوسع نطاق ممكن؛ من الموروث الشعبي الثري الذي تتمتع به كل أماكن السلطنة، إلى الفنون الجميلة بأشكالها كافة، إلى الآداب المتنوعة وفي مقدمتها الشعر الذي يتقدّم الأشكال الأدبية الأخرى بما يعكسه من تراث شعري يصل إلى الشعر الجاهلي، ويمكن الإشارة في هذا المقام إلى كتاب "شعراء عُمانيون" الذي اضطلع بتأليفه الشاعر سعيد الصقلاوي، وقد بذل فيه جهوداً عالية من أجل الوصول إلى ما وصل من نتائج تعدّ سفراً خالداً في ذاكرة الشعر العُماني على مرّ العصور، لما يكتسبه الشعر من حضور طاغٍ في المكان العُماني والأرض العُمانية بوصفه هوية إنسانية عميقة الغور في الوجدان البشري.

 

تخضع الهوية الثقافية للشعب العُماني الممتدّ في عراقته وتمدّنه لجوهر تفكير ورؤية هذا الشعب بكل طبقاته ومستوياته وتشعباته، فالهوية هي حاصل جمع عناصر التشكيل الثقافي على المستوى الإجرائي الذي يكشف عن الطبيعة والكيفية التي تتحرك فيها ثقافة الشعب، وربما تكون الهوية الأدبية هي الطبقة الهوياتية الأعلى في سلّم أولويات التشكيل الثقافي بجميع أجناس الأدب المعروفة، إذ إنّ الأدب هو المقياس الوجداني للشعوب في مضمار معرفة مستوى التعبير الأدبي القادر على تمثيل الفكر والرؤية والشعور، والثقافة الأدبية قد تكون أصدق حتى من التاريخ في الكشف عن المزاج الشعبي للإنسان، من حيث طريقة العيش والتعامل وفهم الذات والآخر والأشياء المحيطة بحركة الإنسان والكون.

 

 

إنّ الهوية الأدبية إنما هي تعبير حيّ عن الهوية الشخصية للمبدع الذي يسهم في تكوين الهوية الأدبية، لذا فالهوية الشخصية العُمانية ذات الاستقلالية والحضور المميز ثقافياً ومكانياً تنفتح على الآخر بأنواعه وأشكاله المختلفة بلا عوائق ولا مقدمات ولا شروط، ولا شكّ في أن هذا الانفتاح يشير -فيما يشير إليه- نحو حرية الحركة والتفكير والحلم والفعل والسلوك؛ لأنّ الشخصية في نهاية الأمر هي من يحدّد طبيعة الأشياء وقابليتها على تشكيل الهوية الكبرى التي تميّز إنساناً عن آخر.

 

تتجسّد علاقة المكان بالهوية من طريق وعي المكان أولاً وإدراك قيمته في تشكيل الهوية، بما يجعل من المكان هوية والهوية مكان؛ ضمن رؤية جدلية تأخذ بنظر الاعتبار فعالية الإنسان الذي يحقق هذه الجدلية بينهما، ومن يراقب الشخصية العُمانية عن كثب يمكنه أن يكتشف عشقه الصميمي للمكان العُماني بوصفه هوية أساسية له، وهذه الثقة بالمكان الوطني تمثل عامل تطوير لفكرة المواطنة التي تجعل من الإنسان حاملاً لهوية وطنه؛ من طريق استيعاب جوهر المكان ودخوله في العقل الإنساني على مستوى النظرية والرؤية والفعل، وهنا تظهر فلسفة المكان مقابل فلسفة الهوية لتأليف الصورة التي يجب أن يكون عليها إنسان هذا المكان.

 

تمثل البساطة القائمة على فهم وقوّة وإدراك وحبّ وثقة بالنفس أساس الشخصية العُمانية والمكان العُماني والطبيعة العُمانية، وهي بساطة على مستوى الأداء والكلام والتعبير عن الموقف والنظر إلى الأشياء ومعاينة الماحول، ولا تتوقف هذه البساطة على المستوى الإنساني بل يمكن رصدها في كل شيء داخل المكان العُماني والثقافة العُمانية، وعلى أساس هذه البساطة تتشكّل هوية المكان والإنسان والشعب في إطار الاستجابة للمفهوم، فكلما كانت الأشياء بسيطة فإن القدرة على تلقّيها والتفاعل معها تكون أسهل وأرقى، لا سيما حين تكون هذه السهولة قائمة على مستوى عالٍ من الفهم والإدراك والقصدية، وهو ما يلقي بظلاله على الثقافة والمعرفة والأدب والفنون بكل مستوياتها وأنماطها وأشكالها.

 

العاطفة المكانية المنبعثة من طبيعة تحرّض على المحبة والنظافة والسلاسة والتوافق والعطاء كما هي حال الثقافة العُمانية تساعد على التفاعل معها، وتتقدّم على ما يحيطها من أمكنة بقدرتها على توفير طاقة ثقافية متأتية من شبكة من المفردات الإنسانية، وتعمل هذه المفردات في ضوء تجربة المكان والهوية على تمثيل الرؤية التي تقدمها العاطفة بوصفها وسيلة من وسائل التعبير والتشكيل، وللمكان أحواله وصفاته وطبائعه التي تتشكل من حساسية الحضور الإنساني فيه عبر الاستجابة والتأثير، حتى تصل درجة العلاقة بين المكان والثقافة إلى درجة عالية من التفاهم والانسجام تكون فيه قادرة على تشكيل الهوية.

 

يمثل الزيّ العُماني صورة من صور التفاعل الطبيعي السلوكي مع المكان والثقافة والهوية، إذ إنّ هذا الزي المختلف بحيثياته ولوازمه يمثل هوية ثقافية ذات طبيعة تراثية، لكنها تعزّز الحضور الذاتي للشخصية في مقام التمييز والتفرّد والخصوصية التي تحيل على جملة مفاهيم تتعلق بالهوية الثقافية وإجراءاتها، فالزي الشعبي الذي يوفر أعلى قدر من الراحة في الحركة والأداء والتصرّف هو الذي يعبر عن ثقافة الإنسان معزّزة بهوية المكان.

 

يمكن في سياق إدراك العلاقة بين المكان والثقافة والهوية ألوان البيوت والعمارات العُمانية ذات التناسب الجمالي الرائع؛ مما يدلل على قوة تأثير اللون في الذاكرة الإنسانية والمزاج الإنساني بصورة غزيرة تحيل على فضاء ثقافي يخضع للتخطيط والهندسة، وهذه لبنة أساسية في تطوير العلاقة الجدلية بين المكان والثقافة حين يكون الفضاء المعماري العام داخل رؤية واحدة، وتقوم هذه الرؤية على تناسب لوني مخطّط له بعناية وفهم وإدراك يستجيب للذوق الإنساني العام من حيث البساطة والرؤية والعمق والأناقة.

إرسال تعليق عن هذه المقالة