السنة 17 العدد 157
2022/07/01

الهوية والانتماء بين الأصالة والحداثة 

(صراع الإرادات)


 

أ.د. محمد حبيب صالح

 

مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات العربية والإنسانية

 

طرحت مسألة الحفاظ على الهوية الوطنية والانتماء على بساط البحث في الأوساط العلمية والأكاديمية في تسعينيات القرن العشرين، على خلفية انهيار النظام العالمي الثنائي القطبية، وبداية تشكيل عالم أحادي القطبية، يسعى إلى قطف ثمار الحرب الباردة، ويعمل للسيطرة على العالم، ليس فقط بالإرادة السياسية المستندة على الذِّراع العسكري الضَّارب (عندما تدعو الضَّرورة إلى ذلك) والإمكانات الاقتصادية الهائلة، إنما باستخدام السِّلاح الأخطر والأقل كلفة، وهو التَّغيير الفكري والثقافي الذي ينال الهوية والوطنيةللدول في أسسها وثوابتها، وفرض ثقافة وهوية عالمية؛ بالاعتماد على كل الوسائل المتاحة، لاسيما الامبراطوريات الإعلامية، التي تولَّت صناعة الأفكار والتَّرويج لها على مستوى العالم كله، لاسيما في مواقع التواصل الاجتماعي، والقضاء على الهوية الوطنية، لتحل محلها هوية عالمية، لا تَمتُّ إلى الهوية الوطنية بصلة، بل هي نقيضها تماماً، ويجب أن يُقضى عليها حتى تحل مكانها.

 

وانتشرت الأفكار الجديدة بين الناس في كل بقاع العالم، وأُلبست ثوب الحداثة، التي تضمنت في جوهرها مذهباً أيديولوجياً جديداً للتغيير والتطور والتقدم، تحت ستار "الحرية" و "نشر الأفكار الديموقراطية"  وجعلت مسألة قبول الثقافة والهوية العالمية وتبنِّيها الوسيلة الوحيدة للتغيير والنهوض بالمجتمعات، والتَّخلص من عوامل ضعفها وتخلفها، وبدأت موجات الثورات تجتاح العالم بدءاً من الثورات المخمليَّة في أوروبا الشرقية، مروراً بالثورات الملوَّنة، وانتهاءً بمهزلة الربيع العربي، في وقت انعدم فيه وجود النُّخب السياسية التي يمكن أن تتحكم بقيادة وتوجيه الأحداث في الدول التي شهدت تلك الثورات، فكانت النتيجة كارثيَّة على تلك الدول وشعوبها، لاسيما العربية منها (سورية، ليبيا...) وكان من نتائجها فوضى عارمة، وتدمير ممنهج لتلك الدول، طال البشر والحجر، وأعادها إلى العصور الوسطى. 

 

ليست الغاية من هذا التقديم توصيف هذه الأحداث، وأكتفي بهذه الإشارة السريعة للتذكير بها فقط، والدخول في ما يخدم العنوان.

 

الثقافة العالمية تخدم الهوية الوطنية أداةً للتطوير، أم تناقضها وهي سلاح للتدمير:

 

تقوم عمليةالتطوير الحقيقي والهادف والمنظم في أي مجتمع من المجتمعات على أساس إعادة البناء الفكري والثقافي لأبنائه، من طريق فكفكة الوعي، وإعادة تركيبه على قاعدة الثوابت والقيم والمبادئ والأخلاق التي تأصلت في المجتمع تاريخياً؛ لذا بعث هذه القيم الأصيلة، بحيث تسيطر على ساحة تفكير الإنسان، وتضبط وتوجه سلوكه بالشكل الصَّحيح، وبكل الوسائل المتاحة، بحيث ينخرط في عملية التغيير التي تهدف إلى إعادة البناء تحت قيادة النخب السياسية القادرة على وضع الخطط والبرامج لتطوير الدولة والمجتمع، بحيث يشارك كل فرد من أفراد الجميع في عملية التطور والتقدم، كل من موقعه، وحسب إمكاناته وقدراته، وهذا ما فعلته وتفعله الدول التي خاضت معركة التغيير وإعادة البناء تاريخياً، وفي جميع المجالات، وبهذا تكون عملية التطوير وإعادة البناء الفكري والثقافي في ظل الحفاظ على الهوية والانتماء الأداة الفاعلة للتطور والتقدم والنمو.

 

غير أن الهوية العالمية التي طُرحت بديلاً للهوية الوطنية على مستوى العالم، لا سيما في الدول التي اجتاحتها موجة الثورات المعاصرة، أدت إلى نقيض ذلك تماماً، فتحت شعار التغيير الفكري والثقافي، جرت في هذه الدول قبل الثورات، عملية نسف منظم وممنهج للهوية الوطنية من طريق نشر الأفكار الليبيرالية الجديدة، التي روجت لها الإمبراطوريات الإعلامية، وَفَكْفَكَتْ وَنَسَفَتْ القيم الدِّينية والرُّوحية والأخلاقية من جذورها لدى الكثير من أبناء المجتمع،  وَنَبَشَتْ من عمق التاريخ السَّحيق أحقاد الصِّراعات الطَّائفيَّة والمذهبيَّة والعرقيَّة، وزرعتها في عقول الناس، وجعلتها جزءاً من وعيهم وثقافتهم الجديدة، وبهذا جعلت الإنسان في مجتمعاتنا مقطوعاً عن جذور ذاكرته الأصلية، وبسببها يدور في دوامة إعصار تاريخي، لم نشارك في صنعه أبداً، وأخطر ما نتعرض له إلى اليوم هو ظاهرة تضييع الذاكرة وإلغائها وفق عملية ممنهجة ومدروسة، للتخلي عن الجواهر الروحية، وتبني الميول والغرائز البدائية،فكانت أداة التغيير تدمير الهوية الوطنية، وتدمير الدول والمجتمعات، وكان هذا الفكر كالجرف الذي وقع على رؤوسنا، ومن دون أن ننتبه إلى حدّة التغيرات النوعية التي تصيب هويتنا وانتماءنا.

 

آثار الصراع بين الهوية الوطنية والهوية العالمية:

 

يمكن للمتتبع للأحداث التي شهدها العالم أن يلاحظ أن القائمين على عملية تأجيج الصِّراع بين الهوية الوطنية والهوية العالمية، تَفَنَّنُوا في ابتكار الشِّعارات البراقة الكاذبة والخادعة عنواناً للتغيير، وأبدعوا أيضاً في اختراع أساليب جديدة لتدمير الدول والمجتمعات، ففي السابق كانت تجري تصفية الحسابات بين الدول بالغزو العسكري والحروب الاستباقية، والحروب الوقائية، غير أن هذا كانت تترتب عليه تكاليف باهظة، ناهيك عن الغزي يتكبَّد أعداد كبيرة من القتلى والجرحى، ويتتابع وصول توابيت القتلى إلى بلاده، الأمر الذي يستفز الرأى العام داخل الدولة الغازية، ومنه لم يعد الغزو العسكري أسلوباً ناجحاً، وكان البديل الاقتتال الداخلي بين أبناء الوطن المستهدف، بعد محو ذاكرة أبنائه، وزرع الخلافات الطائفية والمذهبية والعرقية والقبلية بينهم، حتى يقتلوا بعضهم بعضاً، وتقاسم الأدوار بين الكبار، فيدعم كل فريق طرفاً ضد الطرف الآخر، بحيث لا يمكن لأي من الطرفين المتقاتلين تحقيق انتصار على الآخر، ويطول زمن الحرب حتى يدمر الطرفان المتحاربان الدولة بالكامل، ويتكرس الانقسام العمودي على الأرض، وتضيع وحدة البلاد. فمخترع هذا الأسلوب ولد قبل إبليس بألف عام، وشرَّ خلق الله من سار خلفه وصدَّقه، وقتل إخوته أبناء وطنه ببندقية للإيجار، مقابل حفنة من المال.

 

 وقد وُظِّف هذا النوع من الحروب بطريقة شنيعة لسحق كل من رفض التخلي عن هويته  لصالح الهوية العالمية، ودفعت دول ومجتمعات أثماناً باهظة، ولعل سورية وليبيا مثال حي على ذلك، فالكثير من الباحثين يتوقف عند حجم الدمار الهائل الذي لحق بمدنها وقراها وبلداتها وجعل اقتصادها والبنى التحتية فيها في الحضيض، وأن عملية إعادة البناء تتطلب مئات مليارات الدولارات.

 

 غير أن إعادة البناء ممكنة، وإن كانت صعبة، غير أن الأثر الأكثر خطورة الذي لم ينتبه إليه الكثيرون هو التدمير والأذى الرَّهيب الذي طال نفوس الناس، فالحروب الأهلية تؤدي دائماً إلى إحداث جروح عميقة في وعي الناس، وتتموضع في عمق الذاكرة، ويعجز الزمن عن شفائها، وتبقى كالجمر تحت الرَّماد، لا سيما أن القتلى بمئات الآلاف والجرحى والمشوهين أضعاف هذا العدد، والأيتام والأرامل أكثر من هذا وذاك، وعدد اللاجئين بالملايين، ناهيك عن أنه بسسب طول مدة الحرب، وُلِدت أجيال لم تعرف التعليم، وتعودت على سماع أزيز الرَّصاص، وانفجار القنابل، وقصف المدافع والدبابات والطائرات، وهنا تكمن الكارثة.

 

أثر آخر طال عقيدة الناس وموقفهم من الإسلام ديناً وعقيدة، من المسلمين أنفسهم، وصل عند بعضهم إلى حد الكفر والإلحاد، ورفض الدين، بسبب الضغوط النفسية الهائلة التي ولَّدتها الحرب، وفي رد فعل متسرع من كثرة الجرائم والفظائع، وسبي الحرائر، وانتهاك الأعراض، وقتل الأسرى، والإجهاز على الجرحى، والتمثيل بجثث القتلى وتقطيع أوصالهم، التي برَّرها تجار السياسة من زعامات ومرجعيات الأفرقاء المتصارعين لإضفاء الشرعية على جرائمهم، ولا صلة للدين الحنيف بهذا لا من قريب ولا من بعيد.

 

كما نشأ جيل على خلفية هذا الصراع، الولاء عند أبنائه ليس لوطنه وشعبه، بل لجيبه، والبندقية للإيجار معلقة على كتفه، لمن يدفع أكثر، ولا عجب في ذلك طالما أنه رأى من هو أكبر منه يبرر الاعتماد على دعم أعداء وطنه تحت شعار "سأتحالف مع الشيطان ضد الفريق الآخر" ولعبت الميديا دوراً مرعباً في هذا المجال، حتى خيانة الوطن أصبحت وجهة نظر، ورأي يجب أن يحترم. واسمحوا لي هنا أن أقدم لكم مثالاً نقيض ذلك تماماً: عندما كنت أعد أطروحة الدكتوراة في العاصمة الروسية موسكو، حضرت احتفالات النصر في حديقة الثقافة 9 مايو 1986م، حيث يتجمع المحاربون الذي شاركوا في الحرب الوطنية العظمى، بعد انتهاء العرض العسكري في الساحة الحمراء، وهم من 156 قومية وعرق، ومن كل الأديان والطوائف والمذاهب، وشاهدت مندوب التلفزيون الرسمي يحمل بيده اليمنى رصاصة وبيده اليسرى قطعة خبز، وسأل أحد المحاربين: ماذا تختار الرصاصة، أم قطعة الخبز؟ فقال المحارب: الرصاصة، فسأله مندوب التلفزيون لماذا، أجاب بالرصاصة أحمي مزارع القمح في وطني. فبهذه العقيدة انتصروا، وأبناء وطني اختاروا حفنة من المال ليس فقط لحرق حقول القمح في وطني، بل لحرق قلوب الأمهات على أبنائها، وحرق الوطن كله. 

 

التَّعارض بين الإسلام والحداثة، وأثره على الهوية الوطنية: 

 

تعدّ مشكلة التعارض بين الإسلام والحداثة من أخطر القضايا المطروحة على بساط البحث في عالمنا المعاصر، وتعبِّر عن قلق عميق يهز المجتمعات الإسلامية، وحتى الغرب نفسه، وهي في الحقيقة ناجمة عن سوء فهم يغذّي خيال المسلمين أنفسهم، وخيال الغرب بالدرجة نفسها، فما سبب ذلك، ومن المسؤول عنه؟

 

للإجابة عن هذا السؤال يمكن القول: المسؤول عن ذلك كل أطراف المشكلة، والأسباب كثيرة ومتنوعة، منها: اختزال الإسلام بشريعة وصارمة، ورفع راية الإسلام باسم القانون الديني الذي يفرض فرضاً، أي النزول إلى مستوى القولبة الصارمة المتحجرة، والكلام عن الإسلام من قبيل التخيّل والهوى من دون وضعه في إطاره التاريخي الصحيح، فالإسلام أيضاً وبالدرجة نفسها قيم ومبادئ وأخلاق، يجب أن تضبط وتوجه السلوك الإنساني؛ لذا لا يمكن للإسلام أن يتوافق مع التَّعصب المَقيت، والفكر الإقصائي، وتَقْدِيْمُ بعض اتجاهات مما يسمى "الأصولية الإسلامية" اليوم الإسلامَ على أنه منافس للحداثة، وخصم لها، ويتحوّل الدين بسبب ذلك إلى أيديولوجية، وإلى ما نسميه أدلجة التراث الإسلامي، فنجد بعض "الإسلاميين الجدد" إن صحّ التعبير، يحيون الأفكار المهجورة، ويوجهون توجيهاً رديئاً الثروة الإيمانية الموجودة في الذاكرة الاجتماعية، ويستخدمونها في مغامرات مدمّرة. كما تقوم بعض تياراتها بتجنيد البشر وتعبئتهم، وتأطير العقول بطريقة رعناء ضدّ كل من لا يوافقها في السياسة، حتى ضدَّ أبناء المذهب الواحد، ناهيك عن أتباع المذاهب الأخرى، حتى ولو اضطر إلى التَّخلي نهائياً عن هويته الثقافية وانتمائه، في وقت أصبح فيه الانفتاح طريقة حياة ووجود في هذا العالم، وإسلام بعض "الفقهاء" هو وحده الصوت المسموع في عالم اليوم على حساب الفقهاء الحقيقيين من رجالات الدين، وعلى حساب الثقافة العميقة التي شكلت مجد الروحانية الإسلامية، و"الفقيه أستاذ الشريعة" هو الذي يدخل اليوم حلبة الصراعات السياسية، والأيديولوجيات الحديثة من بابها الواسع، وهو متعطش لمنافسة الأيديولوجيات المسيطرة داخل الحداثة، من طريق تحويل الإسلام إلى أداة صراع أيديولوجي.

 

وأخيراً لا بد من القول: إن الإنسان المصان والمحمي ثقافياً يعرف من أين يأتي، وإلى أين يذهب، ويملك إحداثيات دقيقة لحركته ونشاطه، فالهوية الثقافية تمنح الأمان والطمـأنينة، مثلما يمنح العلم الحديث التطور والتقدم. من هنا يجب التركيز في المدارس والمعاهد والكليات والجامعات على ما نعلِّمه للتلميذ والطالب من قواعد المواطنة، وشرف المسؤولية، والقيم والفضائل والمثل العليا، وترسيخ ثقافة حبّ الوطن، وتأهيل الكوادر القيادية، بحيث يشكل مثقفو الوطن الصف الأول في الدفاع عن الوطن وحقوقه ومكتسباته في الداخل والخارج على حدّ سواء. كما يجب التركيز على وحدة الهوية الثقافية، وتطويرها بصورة مستمرة؛ لأنها من علامات المواطنة الحقيقية والسيادة والانتماء، والهوية الثقافية كانت دائماً عبر التاريخ الرئة التي يتنفّس منها المواطن الذي يحملها، واللسان الذي يتكلم به. 

 

ولا بد من تقويم الثقافة دائماً في إطار خلفيتها التاريخية، وليس في ضوء مقاييس مطلقة، وفي إطار تاريخها، وليس بمقياس اعتباطي ينبع من ثقافات أخرى؛ لأن المفاهيم والقيم تتغير مع الزمان والمكان، وعند تقويمها يجب أن ننظر إليها في الإطار التاريخي الذي ظهرت فيه. ولا بد من التركيز على أهمية بقاء الدين من مسائل الحرية الشخصية، بما فيها حرية المعتقد والإيمان، التي أكد عليها الدين الإسلامي، كما يجب الانتباه إلى قضية مهمة للغاية، وهي أن يكون الخطاب الديني في المجتمع معتدلاً بعيداً عن التطرف والأيديولوجيا والتوظيف السياسي، وأن يكون مقبولاً اجتماعياً.

 

نظرة إلى المستقبل

 

لا جدال في أن التفكير بالمستقبل أصبح في الوقت الحاضر الشغل الشاغل للناس أفراداً وشعوباً وحكومات، يخططون له، ويستشرفون آفاقه، ويحاولون التعرف على مغيباته قبل حدوثها، فهل نتمسك بالهوية الوطنية الوطنية، أم نتبنى الهوية والثقافة العالمية؟  

علينا أن ننظر إلى التفكير بهذا بالمستقبل على أنه محاولة ترمي إلى إعادة ترتيب العلاقة مع الآخرين، أفراداً أم جماعات، وأنه في جزءٍ منه على الأقل، عبارة عن بناء علاقة جديدة مع الآخر، أعني الطرف المزاحم في الماضي والحاضر، أحدهما، أو كليهما، فضلاً عن كونه المنافس، وربما العدو اللدود للبعض في المستقبل.

 

كيف يمكن الحفاظ على الهوية والانتماء وبناء المستقبل، وكيف نعيد ترتيب العلاقة مع الحاضر على صعيد الفكر أولاً؟ 

 

يتجسد الخطر الفكري والثقافي اليوم في تكريس ظاهرة التغريب المكثفة، وفي الاستلاب التدريجي لقيمنا الثقافية والحضارية، وهنا أتحدث عن ظاهرة تغريبٍ هي في الحقيقة ليست وعياً للفكر الغربي، بل تتعامل معه بسلبياته وعلى علاّته، مما يشلُّ الحركة لدينا حيال انتصاراته العجيبة، وافتتان مبهر، وإعاقة نفسية، دون أن تدخل في العقل الذي يحرّك ديناميكيتهُ. وواقعنا اليوم خليط من المقدّس والمدنّس، خليط من الثقافة المضيفة، والثقافة والأفكار المستوردة، تتداخل فيها ثقافات يستحيل التوفيق بينها، وأبسط ما يمكن أن يقال عنها: "إنها تهدد الهوية والانتماء، وقيم ثقافتنا التقليدية، التي هي خلاصة جهد الآباء والأجداد عبر مئات بل آلاف السنين، فمع غياب الإيمان يصبح كل شيء مباحاً، وكل شيء بطبيعته ممكناً، ويمكن إحراق كل شيء، فالمبادئ الأخلاقية منزَّلة بالوحي، والتدمير بطبيعته ليس إلاّ نسفاً لهذا الأساس الأخلاقي، لأن كل شيء مرتبط به "فإما الإيمان، وإما الحريق". 

 

المجتمعات اليوم مجرورة نحو الحداثة؛ لأن الناس أغفلوا المبادئ والقيم والتعاليم الأخلاقية الإسلامية، وارتكبوا خيانة بحق الروح، وتاهوا عن رسالتها الروحية، وشباب مجتمعنا اليوم أصبحوا مصابين بـ "مرض الغرب" مقطوعين عن ماضيهم، ولا يملكون أي صورة ذهنية عن المستقبل. ولا غرابة في ذلك، فالمتغرِّب ممثل فاشل، وإن كان قادراً على أن يعرض معلوماته، ويدهش السذّج بخطاباته، ينزع كل شيء من سياقه الطبيعي، ويمكنه أن يكون فكاهياً، تلقائياً، يعتني بنفسه باستمرار، ويلبس بأناقة، كما يخرج من أفضل صالونات الموضة؛ ولأنه أوفى مستهلكي السلع الغربية، إنه خليط من الأفكار المشوشة، تختلط فيه السياسة بالدين بالثقافة في كتلة من الخداع كفيلة بتضليل الشيطان نفسه. 

 

وفي جانب آخر جعلت الأصولية من الدين إيديولوجية وأداة صراع سياسي، وتصنع مجتمع الجماعات والكتل التي تتحول رغماً عن نفسها إلى معادل ديني يمثل نوعاً من الفاشية؛ ولأن لهذا الانحراف أسبابا فلسفية واقتصادية واجتماعية، ويستمر مخفياً وراء خطابات أيديولوجية مزيّفة، فقد طرحت الأصولية نفسها نمطاً تقليدياً في هذا المشهد نقيضاً للحداثة على الصعيد العالمي، ويمكن لمن يدقق اليوم في هذا المشهد أن يلاحظ أن المتطرفين الإسلاميين اليوم هم المزيَّفون المحرِّفون الذين راحوا يسمِّنون على الأنقاض الروحية لعالم دبَّ فيه الفساد، ويفضحون ويبيعون مناهج تراث ديني أصيل عتيق راسخ لتحقيق مكاسب مادية وسياسية، المتضرر الأول فيها الإسلام والمسلمون.

 

ويدَّعي الأصوليون اليوم أنهم يريدون استحضار إسلام الأصول في صورة الحل الأمثل، فلعبوا دور المعلم الساحر، واستخدموا بدعاً تتعارض مع الدين ذاته، وراحوا يستخدمون من غير تمييز التراث الديني كالاستشهاد من أجل القتل، ورمزية الصحابة على حساب المراتب السامية من هذا الدين، وألبسوا الدين خطاباً أيديولوجياً، فطفت على السطح كل التناقضات والخلافات المذهبية داخل المجتمع الواحد في الدولة الوطنية الواحدة.

 

وفي الوقت الذي تبدو فيه الحداثة أمراً واقعاً لا يمكن نكرانه، ولا يمكن الإحاطة به، تبدو الأصولية مشوّهة، وتشكو من عوز ونقصان في محتواها وجوهرها، ومن تلف متصاعد في توازنها، وتقدم صورة معيبة في نظرتها إلى العالم. وبين هذين النمطين المتنافرين تتشكل الهوّة السَّحيقة، وكما أن "التغريب اللاواعي" يعدُّ الوجه الأول للمشكلة، فإن الأصولية تعدّ الوجه الآخر لها، ومنهما تتشكل صورة مزيفة للذات، ويمكن أن تحدث هزات متتابعة في المجتمع الواحد، وأن تتواجه مع بعضها بعضا؛ مولدة زوابع صراعية داخل المجتمع، ومواجهات اقتصادية واجتماعية تتوالد بعضها من بعض. 

 

إرسال تعليق عن هذه المقالة