رائحة الشياب ... هل تعود؟!
كتبه: خليل بن محمد الحوقاني - ماجستير لغة العربية في جامعة نزوى
أغدو وأروح هذه الأيام ما بين بيت الوالد إلى مسجد العسافة، فتتراءى لي ذكرياتٌ من تلك البيوت، التي ما عادت كما كانت، بقي المكان وذهب ساكنوه، تفرقوا أيدي سبأ.
أستنطق ذلك البيت لعل هناك من يجيب:
خليل سير نهم أبوك سعيد بن خلفان.
أوو إبراهيم دني التقدوم.
هين فهد إلى التو ما مبدل الماي.
يا الله جماعة تقربوا... تقربوا
آآه! تلك كانت نداءات صاحب البيت الوالد الكريم محمد بن سالم الأغبري ينادي أولاده ويأمرهم للاستعداد لقهوة شهر رمضان عقب التراويح، حيث يتجمع الجيران على مائدة الرحمن، من كبار مسنين وشباب وصغار. وكان الوالد محمد يؤوي الجميع بشمائله وفضائله وعطاءاته غير المنقطعة.
وهذه القهوة امتداد لعادة عريقة من زمن والده سالم بن محمد الأغبري حسبما حدثني والدي العزيز محمد بن راشد الحوقاني.
ولم يكن الأمر مقتصرا على قهوة شهر رمضان، إنما كان هنالك فطور يومي في بيت الوالد محمد، حيث يتجمع الشيّاب في مجلسه قبل انطلاقهم إلى السوق النزوي حيث أرزاقهم.
ويطوف بي خيالي إلى جيل الشيّاب الذين كانوا يحضرون ذلكم المجلس العامر من أمثال: الوالد سعيد بن خلفان السليمي -رحمه الله- مؤذن المسجد، ومحمد بن حمد الخصيبي (الشيخ) وسالم بن ناصر العنقودي، وأخوه سليمان بن ناصر العنقودي، وسعيد بن مرهون العبيداني، ومحمد بن سليمان العبيداني، وسلام بن عليّ الهاشمي، والعبيدي عبدالله بن خلفان بن فاضل الأغبري، وجمعة بن راشد الكندي. وهؤلاء كلهم رحلوا إلى الدار الباقية.
ولما نشأت ومعي بعض إخواني كنا نرافق الوالد العزيز -أطال الله في عمره- لحضور تلك القهوة الرمضانية، ومن شبّ منا على حب كرة القدم، سيتسلل لواذا ويهرب إلى أرض الملعب بوادي كلبوه.
لكني ظللت وفيًّا لتلك القهوة والتجمع الجميل، إذ أنقطع مدة بسبب خروجي للدراسة، وعند رجوعي أجدني ملتزما بالحضور، حيث يصحبني والدي... "اووه خليل أنا قدامك وشال القهوة وعدت جيب التقدوم بو تسويه والدتك" فأستعجل الخطى وأتبع والدي حيث يمشي الهوينا وعلى رأسه المصر بلفّته الشهيرة أو على كتفه.
وتبدأ الجموع واحدا يتبع الآخر بالدخول إلى المجلس العامر، وفي استقبالهم كعادته الوالد الوفي محمد بن سالم... قربوا قربوا يا حيا من زارنا.
وأذكر للتوثيق ممن يحضر تلك القهوة خاصة جيل المؤسسين ممن ما زال يعيش بيننا: والدي محمد بن راشد الحوقاني، خلفان بن صالح البطراني، محمد بن خلفان السليمي، علي بن سعيد العبيداني، خميس بن محمد الخصيبي (ود الشيخ)، عوض بن سالم العنقودي.
أما الأولاد الصغار -وهم من فئة الشباب الآن- فأذكر منهم أبناء صاحب المجلس: ناصر، إبراهيم، هلال، خليل، فهد.
ومن الجيران: كاتب المقال، إخواني راشد، خليفة، يحيى، زكريا، داود، نوح. طلال بن علي العبيداني، أخوه فيصل، أحمد بن خميس الخصيبي، وإخوته عبدالله وخليل ووليد. وإسحاق بن سالم العنقودي وإخوته عامر ويونس. محمد بن سعد العمراني، محمد بن سعيد العمراني. وإن كان حضور بعضهم متقطعا.
وكان يحضر المجلس عند رجوعه من عمله في صحم جمعة بن خلفان البطراني. وكانت القهوة ومائدتها العامرة مكونة من أصناف رمضانية معروفة، وكل من حضر من الكبار أتى بصحنه ومعه دلة القهوة. وتقسّم هذه القهوة أقساما وتدور بين مجموعتين.
تبدأ المجموعة الأولى الخاصة بالكبار وفيها التمر والقهوة، ثم تنقل لفئة الشباب ومعهم الصغار. ثم تتوالى أصناف الطعام بهذه الطريقة من المجموعة الأولى إلى الثانية، كلٌّ يأخذ نصيبه من غير تكلّف. ودلال القهوة المزينة بها طاولة الطعام تأخذ نصيبها من التغنيم ذواقةً وتكريمًا لمن أتى بها حتى ينعم الحضور بلذتها.
أما عمّا يدور من أحاديث في هذه القهوة فمختلفة ومتنوعة، فتسمع عن طناء النخيل وقعادة الفلج، وحركة السوق النزوي في رمضان، خاصة المناداة على الأغنام والمواشي. كما تسمع الطرائف والنكت التي يلقيها الشياب -وأحسب أن والدي العزيز هو فاكهة المجلس- إذ بطبيعته يميل الى الطُرف الملاح والتغشميرة مع الصغار والكبار.
فهل يا ترى تعود تلك الليالي الجميلة ويعود ذلكم الجمع المبارك؟!
همسة أحببت توثيقها هنا لعل من يقرأ مقالي يبادر بإعادة شيءٍ من تلك الذكريات العطرة.