إكسبو"، أقصوصة وخاطرة وصديق جديد
رحاب رجب
أستاذة تصميم الأزياء بجامعة نزوى
إلى..
وضعت قدمي داخل الترام، حينها تلاشى كل ما مضى، وبدأ يوم أول جديد من حياتي.
نسيت ما مررت به من سويعات قليلة لتخطو قدمي هذه الخطوة داخل الترام!
لأول مرة أقف أمام موظف إنهاء إجراءات السفر ليخبرني أنه لن يتسلم حقيبتي، ولن أصعد الطائرة!
ماذا؟ كيف هذا!؟ ولمَ!؟
خلصنا الله من هذا الوباء واشتراطاته التي تحسب علينا بالدقائق!
لكني عزمت، لن أعود أدراجي، علمني أبي ألا أذيال خيبة لي ألملمها عند قرع الخطوب … إنما هي السواعد نشمرها، نثبت أمام التحديات، ونثب فوق العوائق، متوكلين على الله.
أبرح مطار مسقط الدولي فقط لبرهة من الوقت … أعيد الفحص وأعود.
لا أرَ إلا وجهتي ولا أعرف غيرها، عازمة على تحقيق الهدف بأمر الله، كل ما صادفني إنما هي قصاصات، حدودها التأخير، التأخير جائز في شريعتي، ليس ولن يكون التراجع!
ما هي إلا ثلاث ساعات ودقائق وكنت في السماء.
رحلة قصيرة ما بدأت إلا وكادت تنتهي لتقلني سيارة أجرة، أقف بعدها أمام موظف الاستقبال بالفندق… يخبرني هو الآخر بساعات تفصلني عن غرفتي التي هي ليست غرفتي!
لم أزد وجاء طلبي هادئا… هاك حقيبتي ودلني على الترام، أين محطة الترام المتجه إلى "إكسبو"؟
حين وضعت قدمي داخل الترام، تلاشى كل ما مضى، ولاح أمل جديد.
الاسم: ترام دبي، المعنى: ترام رحلته من الواقع إلى ما وراء الواقع، إلى مملكة الخيال، تلك المملكة التي تختصر أمال البشرية وتطلعاتها وإنجازاتها، رؤوس وسنوات صفوتها من الباحثين والعلماء.
بقعة أرض تأخذك منك إلى آفاق أبعد!
أي آفاق جديدة ستنقلني إليها أيها الترام؟
أي عوالم جديدة، أي مشاهد أراها وأي أصوات أسمعها يتسارع لها نبضي أو يتباطئ، أي دقيقة سأحياها بألف ألف دقيقة!
وصل الترام، نعم الوصول ما وصل، ترجلت عن راحلتي، الصاحب العزيز (الترام)، ثم خطوات، ثم مداخل وشخوص بملابس متشابهة، يروني ولا أراهم! عيني معلقة على اللوحات الرقمية الإعلانية، يلفها بصري بتقدير وإكبار.
الحمد لله، أنا حقا هنا! النفس راضية، والقلب يبتسم.
ولجت، وإذ بـ "الوصل" أمامي، وقفت أملئ عيني، أحفر بذاكرتي الدقيقة الأولى، الشمس والهواء والسماء، و"الوصل"!
عظمة الخالق، وإبداع المخلوق.
هيبة الحدث، وحمد الشاكرين.
عن...
حروف خمسة، تعني الكثير، "إكسبو"، اجتمعت على أرض "إكسبو دبي 2020" (192) دولة، تعرض أروع وأبدع ما حققه أبناؤها، إن كان الفعل في زمن الماضي (حققه) فالإنجاز بالكامل يستهدف المستقبل.
نعم، كنت على كوكب الأرض بعد السنين... كم من السنين؟ هذا ما تجيب عنه الأجيال القادمة... أجيال نعدها نحن من الآن!
كانت بداية "إكسبو" عام 1851م بلندن، سمي حينها بـ (المعرض العظيم)، في هذا المعرض تحققت أرباح ضخمة أسهمت في تأسيس "فيكتوريا والبرت" و "التاريخ الطبيعي"، منح دراسية مولت (13) فائزا بجائزة "نوبل"، من حينها يجتمع العالم كل فترة لهذا المعرض الدولي الأكبر.
بداية من 2000م يعقد كل خمسة أعوام، تسبب وباء كوفيد-19 في تأجيل المعرض الحالي للستة أشهر من أكتوبر 2021م إلى مارس 2022م.
في...
لقصر وقت رحلتي، استهدفت بعض الأجنحة، وفقت لبعضها.
اليوم الأول: جناح سلطنة عمان، بالطبع من بين رأس القائمة... منها وإليها، وأقل الوفاء بأرض طيبة أحيا عليها.
استقبلني شذا اللبان، ما أبهى ما تزينت به المداخل، أشجار اللبان، رمز تفرد وعراقة عمان، الذي جعل منها جسرا للتواصل بين حضارات العالم قبل أكثر من خمسة آلاف عام.
تحسست أوراق الشجرة الأصيلة وفروعها، تمنيت هذه اللمسات بصلالة الرائعة، وها أنا ذا أجنيها في "إكسبو"
يأخذ المبنى تجريدا معاصرا إبداعيا لشجر اللبان، يعرض تعاقب الزمن، التاريخ حيث التراث والعراقة، ثم الحاضر حيث ابتكارات الشباب، ثم التطلعات المستقبلية لبلد وضعت رؤية 2040 هدفا واسعا.
⁕⁕⁕
من بين الأجنحة التي حرصت على زيارتها، جناح الدولة المنظمة، جناح دولة الإمارات العربية المتحدة.
البناء المعماري تجسيد لكل دلالة بكلمة (إبهار)، التصميم على هيئة جناحي صقر يتأهب للتحليق في سماء "إكسبو"، والعرض يختصر ما تتبناه الإمارات وتؤمن به و تطبقه، (من الرمال، إلى السحاب).
أصالة شعب، وإنجازات استثنائية على الكوكب، وطموحات ضخمة تطاول بها هامات الكبار.
⁕⁕⁕
أسعدني أن من بين الأجنحة الأعلى تقييما عند الزائرين، و تسجيلات ال yotubers على ذلك شهود! هو جناح المملكة العربية السعودية.
أختصر الوصف بكلمة (أحسنتم) بملئ الفم، جناح السعودية استهدف وحقق ما أراد، يدير رؤوس الزوار ويبقى حيا بذاكرة زائريه!
ثاني أكبر جناح من حيث المساحة بعد جناح دولة الإمارات، فقد سجّل ثلاثة أرقام قياسية بموسوعة "جينيس" (أكبر أرضية تفاعلية ضوئية - أطول ستارة مائية تفاعلية - أكبر مرآة بشاشة رقمية تفاعلية).
استخدام التكنولوجيا الذكية مع الشاشات الرقمية في جميع أجزاء الجناح وكأنها تثبت للعالم أنها جديرة بالترشح لاستضافة "إكسبو 2030" بالرياض.
هنيئا لأرض الحرمين الشريفين هذا العرض المشرف.
⁕⁕⁕
لم أزر جناح (أم الدنيا)، وعلى طريقتي التي أدللها بها هي وأمي، بـ (كل الدنيا) -ألمح ابتسامة ارتسمت على وجوهكم كتلك التي ارتسمت على وجهي- ولكم أن تتخيلوا أني بالفعل لم أزر جناح من يجري نيلها بعروقي إلا في اليوم الأخير!
كلما راجعت الجناح، أجد جمهرة وحشود، وقتي محسوب عليّ بالدقائق، أذهب وأعود!
هل لأن اسم “Egypt” كما سمعته بنبرات عديدة طيلة أيام تجولي بالمعرض هو ليس فقط لبقعة أرض وبلد من البلاد، إنما لتاريخ تليد... تاريخ قبلة الباحثين عن الأصول وإعجاز القدماء!
نعم، على صغر مساحة جناح جمهورية مصر العربية مقارنة بتاريخها العظيم، إلا أن مصر اختصرت الرسالة والإعجاز بعرض تابوت حقيقي لأحد الكهنة، انتقل الضيف الكريم إلى "إكسبو" قادما من "المتحف المصري" بـ "ميدان التحرير"، فنعم الضيف ونعم المضيف.
عروض بشاشات رقمية ذكية، (آلة زمن) تنقل الزائر في رحلة افتراضية من التاريخ، إلى واقع مصر، ثم ما سوف تكون عليه في المستقبل القريب.
⁕⁕⁕
تعالوا أحدثكم عن الجناح الذي إذا ما سألت عن إعادة الزيارة لواحد فقط لاخترته! جناح روسيا.
دعوني أبدأ الإبهار تصاعديا، مبنى الجناح على هيئة قبة ضخمة -في إشارة إلى رأس الإنسان- القبة مغطاة بأنابيب عملاقة متعددة الألوان، ترمز لسرعة التقدم المتزايدة، وتؤكد الحضور!
من الداخل يتوسط قاعة العرض مجسم على هيئة الدماغ الآدمي، أما المجسم فشاشة رقمية تتوافق مع العروض الرقمية الفنية المبهرة على الأرضية والجدران.
الدخول لقاعة عرض روسيا بمثابة الانتقال لكوكب آخر، الشعار (عقل مبدع، يقود المستقبل)
صعودك الدرج في هذا الجناح لدخول صالة العرض، بمثابة ربط الأحزمة على صاروخ أرض فضاء!
روسيا أحد الدول المرشحة لاستضافة "إكسبو2030"، كانت المنافس الأقوى أمام "إكسبو دبي 2020" و "إكسبو أوساكا 2025"، عساها قريبا يا روسيا وناظرين ماذا أنت فاعلة إن شاء الله.
⁕⁕⁕
لن أنهي أقصوصتي قبل ذكر هذا الجناح، جناح المملكة المتحدة.
استلهاما من مشروع الفيزيائي الأسطوري "ستيفن هوكينج" جاء مفهوم تصميم الجناح، يسمى (الجناح القصيدة).
في تجربة من الذكاء الاصطناعي، يكتب الزائر كلمة واحدة، يتم نظم بيت شعر لها بالذكاء الاصطناعي، على أن تظهر الكلمة في بهو القاعة من الداخل وعلى شاشات رقمية من الخارج، أعداد لأكبر قصيدة شعر تكتبها البشرية بالذكاء الاصطناعي، ويتم بثها في الفضاء!
شكرا "هوكينج"، وضعت بصمتي في (قصيدة الفضاء)!
على...
لن أوفي "إكسبو دبي 2020" حقها ما كتبت، علما أن ما زرته فقط اليسير، أحث كل قارئ على الزيارة... على المطالعة، على المشاهدة، حتى عبر شبكة الملعومات، وبالأخص أجنحة المعرض الأساسية، (جناح الاستدامة Sustainability (جناح التنقل ) Mobility، (جناح الفرص) Opportunity، عروض فوق مستوى التوقع.
المعرض بالكامل باللغتين الإنجليزية والعربية، الأذان يصدح مع توقيت كل صلاة.
حفظ الله الأمتين العربية والإسلامية، وزاداها عزا و فخارا، آمين.
ختمت زيارتي بعروض "الوصل بلازا"، القلب النابض لـ "إكسبو دبي 2020"، لا وصف بعد (أكثر من رائع).
"الوصل" هو الاسم القديم لدبي، تصميم فريد ومساحة شاسعة تتسع لـ (10) آلاف مشاهد، قبة عملاقة تصميمها مستوحى من الشعار، الشاشة بنطاق 360 درجة.
مع...
ومع عودتي من "إكسبو"، لا أحسني أعيش الحاضر، أنا في جزء من الماضي القريب!
نعم، كلما رأيت السيارات تنهب الطرق تحتها نهبا، تذكرت الخيول والفرسان! يجول في خاطري أن قائدي تلك السيارات سوف يفارقونها عما قريب، قريب جدا، وأنها هي أيضا سوف تفارق إطاراتها قريبا، لن يدوم تلاصق ذلك الخيط الأسود الرفيع بالإطارات السوداء!
بالمناسبة... على ذكر الطرق والإطارات، رأيت أحد مشاريع الاستدامة بجناح دولة الإمارات، صناعة طرق مستدامة من إطارات السيارات الهالكة، دمج للأسودين!، عبقرية باحث وفريق، استدامة في خامات الطريق.
أطلت، والحكايا و الخواطر كثيرة، شاركتكم ودا وحرصا، ولن أزيد.
أسمحوا لي فقط أن أعرفكم بصديقي الجديد، "أوبتي"، (تميمة المعرض)، الروبوت البرتقالي الصغير، ترحيبه الودود في كل مرة، ابتسامته وغمزة عينه المبهجة، تجواله الحر بالطرقات يذكرني بقططي المشمشية الحبيبية، حقا لسوف أفتقده.
شكرا دبي على هذا الإعداد الذي أبهر العالم، تأكيد جديد أننا كأجدادنا، نستطيع أن نضع علامات فارقة في التاريخ.
شكرا "إكسبو دبي 2020"، أضفت لحياتي تجربة جديدة، مميزة ومبهرة، وحبيبة.
كما أضفت لحقيبة يدي جواز سفر جديد! ذهبت بواحد، وعدت باثنين!