اختفى الضجيج الجميل
(في تأبين الدكتور: محمد بن حمود الرواحي)
بقلم: د. حمود بن عامر الصوافي
قسم اللغة العربية
فقدنا قبل أشهر الهدوء، وها نحن نفقد اليوم الصخب والضجيج، ليس ذاك الصخب الذي يُظن منه الصراخ على الآخرين، أو التمرد على الأصحاب، أو التباكي على الأطلال، أو النوح على الأموات، ولكنه صخب آخر! فَقْدُه يُؤثّر، واختفاؤُه يترك شرخًا في النفس لا يندمل، وغُصة في الحلق لا تنزلق، ودمعة في العين لا تنقطع، يا ترى؟! هل كُتب لجامعة نزوى أن تفقد الاثنين في وقت متقارب، وزمن متوازن؟!
إنها الأقدار التي فُرض علينا أن نتجرع غصصها، ونرتشف لأواءها، ونعاني بؤسها وضراءها، ونتذكر حينها قول الشاعر:
(كل امرئ مصبّحٌ في أهله* والموتُ أدنى من شراك نعلِه).
لقد صحبتُ الهدوء والصخب معًا؛ فكان فراقهما صعبا، وخلو مكانهما ألما لا يكاد يصدّق، وأمرا لا أتوقع سرعته، وحدثا لم يخطر على بالي البتة، ولكنَّ الدنيا لا تدع أحدا على حاله، ولا تتركه يتخيُرُ يوم رحيلِه:
(وهذه الدنيا لا تبقي على أحدٍ* ولا يدوم على حال لها شانُ).
لقد خيّم الحزن عليّ في كل ركن أتذكره، في مكتبه ومجلسه، أو طريقة حديثه وإلقائه، أو صورته التي رسمتها أنامل أحد طلابه، أو تلاميذه الذين أرسلوا إليّ رسائل تعزية أو محبيه الذين لم يبرحوا يسألون ويتفسرون عنه؟
يا ترى؟! ما هذه الهالة التي تقلّدها الرواحي؟! وما هذا الحب الطاغي الذي حمله بين جناحيه وهو يرحل إلى مثواه؟! أهناك سرٌّ لا نعلمه، وحكمة لا نعرف كنهها، وخبر لم يصل إلى أسماعنا، فأعيروني أسماعكم أحدثكم من كثب، وأقول لكم ما علمته من قرب.
لقد عرفتُ الرجل الصاخب إبّان دراسته الجامعية ثم الماجستير، وها هي محطتي الأخيرة أجلس معه في كرسي جامعة نزوى منذ سنوات لم أجد منه نبوّا في تعاملٍ، أو إحراجا في كلامٍ، أو تكبرا في حديثٍ، أو تعاليًا في علم، أو غطرسة في رأي؛ بل كان التشجيع دأبه، وتقديم الاقتراحات طريقته، وحل المشاكل غايته، تعلمتُ منه كيف يتعامل المرء مع شرائح المجتمع كلها، وكيف يقضي حوائج الطلبة دون ملل أو ضجر، وكيف يرضيهم دون كدر أو منة؛ فكان يُمسك العصا من الوسط، ويرمي بها في ملعب الطالب؛ ليدرك الطالب بعدها أن تقصيره من نفسه، وأن زلته من ذاته؛ فلا يلوم حينئذ صاحبنا، ولا يشعر بجفوة اتجاهه.
أحبه الطلبة، فكان مأوى أسرارهم، ومهوى أفئدتهم، ومستودع قلوبهم، ترى مكتبه خلية نحل لا تنقطع، كل يأخذ من عطره، ويستنشق شذاه حتى العمال والحراس يحرص على تلطيف الجو معهم، وتقديم العون إليهم، وإعطائهم شيئا من الرطب والتمر عند كل جيئة به، قلت له مرة ممازحا: سلتك كبيرة، وإناؤك عظيم! تبسم ضاحكا، وقال لي: فرصة سانحة لأن أعطي منه، أو أهب الآخرين حقه فلا أحب أن أعود بشيء منه إلى البيت!
فقد كان كريما يدا وعلما ومعرفة، فلا يكاد ينقطع عن الكلام طرفة عين، ولا يمكن أن يمل جليسه لحظة أو برهة، فكنت أتلمّس منه الأدب، وأفانين الكلام وقصص الطرائف والفرائد والأفاكيه؛ لأنني أعلم ما في جعبته، وأدرك حذقه بها، وشدة ولعه في استكشافها من مطولات الأدب كالكامل للمبرد والأغاني للأصفهاني، والنوادر لأبي علي القالي والبيان والتبيين للجاحظ، والمستطرف في كل فن مستطرف للأشبيهي وغيرها مما يطول عرضه، ولا يسمح المقام بذكره وسرده، سألته مرة: ألا تتيه أحيانا في الأدب، وتنسى نفسك ومن حولك معه، وتنطلق به كالسيل الجارف الذي لا يلوي على شيء؟ قال أصدقك الرأي؟ قلت: نعم، قال: قد أسترسل فلا أعلم من أين بدأت وإلى أين انتهيت! وقد هِمتُ مرة بقصيدة في السيارة فكدت أصطدم بالحائط لولا لطف الله بي! قلت له: لله درك وأزعم أن من عاشرك لم يغب ذلك عن باله أبدا.
فقد كان لديه حضور (كاريزما) أخّاذ، وحظوة جذابة، فكل الأنظار تتجه إليه، وتحني رقابها نحوه؛ فقد سلبهم حديثه، وجذبهم معسول كلامه، وأطربهم شعره وجمال لغته، ورقة معانيه، فلا يقول إلا مستمتعا، ولا يتكلم إلا عن ثقة، فهو لا يحتاج أن يغربل الكلمات؛ ليخرجها، ولا يدندن عليها؛ ليمسك بها بل كانت تأتيه أرسالا، وتنهال عليه انثيالا وكأنه يرتشف من بحر متلاطم، ويغرف من يمٍّ لم يُعرف نضبه، ولم يُسمع عن جفافه.
ولعل هذا مبني على تنظيم فطري، واكتساب معرفي محكم قل نظيره؛ فلا يَنتقد إلا وعبارة الثناء تسبق ذَرِبه، وذكر الإيجابيات تتقدم لسانه، ولا يبدي وجهة نظر إلا وقد مهّد لحديثه، ووثق أن الانتقاد لن يؤثر إلا إيجابا، وأن الاقتراح لن يزيد القسم إلا بناءً ومتانة، فكم من مرات يطلب منا أن نكون سلسين مع الطلبة، نخفف عنهم، ونعاملهم كإخوة، ونجلس معهم كأبناء، ونستمع إلى اقتراحاتهم وحاجاتهم كمربين.
لقد تألق الرواحي ولمع في الأوساط فهو لمّاح جيد، وذكي ألمعي، عرف الإنجليزية دون أن يتعلمها كثيرا، وأجاد في الخطابة وكأنها خلقت فيه، وحسُن كلامه عند شرائح المجتمع كلها مع الكهول والشباب، ومع الصغار والكبار، ومع النساء والرجال، ومع الحضر والبدو كل يرميه بمفاتيحه التي لا تخطئ، وطرائقه التي لا تفشل فكان محبوبا آخذا بناصية الكلام، حصيفا في اكتساب العلوم والآداب، وفهم المسائل وحل المعضلات، فلم يتخذ من الحفظ الذي لا يكاد يخرق منه شيئا، أو يخونه ساعة الجد مطية يتكئ عليها، أو طريقة يعتمد عليها بل كان حفظه وسيلة من طرق المعرفة، ومعبرا إلى التماس الحكمة، ومدعاة إلى التأمل والتعمق في العلوم.
وقد حدثني مرة عن معنى: "يا أيها الكافرون" فقد سمع أو قيل له: وصف جاء على صيغة جمع المذكر السالم، فلم يعجبه هذا الرأي، ولم يوقفه عاجزا عن بلوغ الأمل بالبحث والتقصي بل رأى الجمع يفيد التقليل من شأنهم، والتحقير من عددهم، وأنهم لا شيء أمام الحق والهدى، وإن بدوا كثرة كاثرة، وغثاء كغثاء السيل، وقد استأنس بقوله تعالى: "وما يعقلها إلا العالمون" فهم قلة قليلة.
وغيرها من اللمسات والتوجيهات التي كان وحده يصل إليها دون أن يقرأ عنها، أو يسمع أحدا قال شيئا فيها، سواء توافقت مع آخرين أم اختلفت، إلا أنه كان يتوصّل إليها بتأملاته وتدبره، وقد سألته مرة عن كتبه وأعماله التي اشتغل بها في أثناء مرضه في تايلاند؟ فقال لي: حاولت أن أتأمل في بعض الآيات، وقد كتبت شيئا مما فتح الله به علي؛ فعسى أن أستطيع إخراجه أو إكماله؛ فلا أدري ماذا حدث لهذه الكتابات؟ وهل يمكن لأبنائه أن يفتشوا عنها وينشروها؛ لتكون في ميزان حسناته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.