السنة 17 العدد 155
2022/05/01

نزوى بعيون ليبية!


 

 

خالد علي إبراهيم

 

طالب ماجستير لغة عربية في جامعة نزوى

 

 

في سبتمبر من عام 2018 استقر بي المقام في جامعة نزوى منارة العلم والرشاد،  في محضن ولاية التراث والحضارة "نزوى" العُمانية، التي تُخبِر عن تاريخ حافل بالذكريات، بساتينها الخضراء، أفلاجها الجارية، أزقتها الضيقة، حتى أصوات الدراجات فيها "غير" كما يقولون!

 

فأسوار قلعتها تحكي عن هندسة الإنسان العماني الذي شيّد حضارته بالعمران والبناء، وصومعة جامعها تروي سيَرًا عطرة لأئمة تعاقبت أسماؤهم في ذلكم المسجد الجامع، حتى حفرت مناقبهم في قلوب المسلمين شرقًا وغربًا، وأزقة حاراتها تنبئُ عن بساطة الإنسان وتواضعه، وسوقها الساحر الذي تتجمع فيه صنوف المبيعات، وتُقبل عليه الوفود من كل جانب يُبين مدى تمرّس التاجر العماني في عمله ودقة تخصصه. 

 

القاطن في نزوى تتجلى له سمات المحافظة والالتزام المرسومة في وجوه أهلها، فتعظيم الشعائر الدينية من الأسس التي ربوا عليها نشأهم، والمتردد على المساجد يتكشّف له ذلك، إذ الأب يصحب ابنه ويعلمه الصلاة والقرآن والصالح من العمل، كما يزرع فيه عادات المجتمع العماني النبيلة كالمصافحة ومناشدة الجيران والسؤال عن أحوالهم، ومثل هذا ندر في أصقاع بلاد الإسلام إن لم يكن قد اندثر!

 

صليتُ في جامع وإذا بأبٍ يعطي ابنه ورقة نقدية فيضعها في صندوق الجامع، وآخر يأمر ابنه أن يأتي بكرتون ماء فيوزعه على الناس الذين في صفه، وآخر يأتي بالقهوة وتوابعها أمام المسجد بعد أن سلمه الله من الداء، فيشكر الله على قيامه ووصوله للمسجد. علّ أمثال هذه الأمثلة تكون بسيطة وكثيرة، إلا أنّ تكرارها ورؤيتها كثيرًا ما تجعل الغافل ينتبه، والنائم يستيقظ!

 

القاطن في نزوى والمعايش لأهلها يرى مدى اهتمامهم بالعلم وطلبه، فلا أبالغ إن قلت لا يخلو بيت من بيوت نزوى من عالم أو طالب علم؛ في الشريعة أو غيرها من العلوم، إذ إجلالهم للعلم وتقديرهم له يسمو في عروقهم ودمائهم، والشواهد في ذلك كثيرة أهمها اهتمامهم بالجانب الأكاديمي، فأصحاب الشهادات فيهم كثير، وهم متمرسون في فنونهم لا متسلقين، في اللغة والشريعة والأدب والرياضيات والكيمياء وغيرها من علوم الطب والصناعة، وهذا لستُ من أحكم عليه بل ما سمعته من أصحاب التخصصات من القامات العلمية في عُمان والعالم الخارجي.

 

المقيم في نزوى يستشف مدى اعتماد أهلها على ذاتهم، وقيامهم بأعمالهم بأنفسهم، إذ هم من يحكمون زمام التجارة فيها بجميع صنوفها، لا سيما الإدارة التي هي أساس العمل ومكمن الفكرة والمسؤولية، حتى أني تعجبتُ من أحدهم زرته في بيته عندما عرّف بأبنائه أنهم لا يعملون في دوائر عامة إنما يشتغلون في تجارته، إذ كلف كل واحد في مجال وتعود إليه الإدارة العليا.

وما أقوله هنا معروف عنهم، والشواهد كثيرة وجلية؛ ولا أبالغ إن قلت أنهم تربوا على العلم والتجارة أو بالأحرى رضعوها منذ المهد!

 

فالحراك المجتمعي الذي يحفظ الهوية وينشر التاريخ بسلوك حضاري متجدد يفتخر به أي إنسان، ويكتب عنه بشموخ واعتزاز، ويصرح به ويظهر إعجابه للناس كي يروا صورة بسيطة لجمال أخفته عدسات الإعلام و"الميديا" التي أشغلت الناس في دناءات يترفع عنها العاقل الهائم بحضارة العلم والمعرفة والتاريخ.

 

 

 

إرسال تعليق عن هذه المقالة