السنة 17 العدد 153
2022/03/01

المواطنة الرقمية


 

الدكتور محمود بن زهران الوائلي

 

لم تعد الجغرافيا الضيقة والمحدودة بخطوط تضاريسية أحيانا ووهمية أحيانا أخرى تحدد ماهية هويتنا وثقافتنا وتشكيلهما. لقد سقطت أو تقلصت كثير من الحدود والحواجز أمام إنسان القرن الواحد والعشرين، فبات جزءا من كل، وفردا من جماعة، ومواطنا أمميا في عالم مترامي الأطراف أكثر من أي وقت مضى، فهو في الغرب صباحا، وفي الشرق ظهرا، وفي الجنوب عصرا، وفي الشمال مساء، ويقضي ليلته حيث أناخت به رحال التكنولوجيا.

 

لقد تحرر إنسان القرن الواحد والعشرين من قيود الجغرافيا، فالتقمته قيود التكنولوجيا؛ إذ أصبحت التكنولوجيا وطنا للسواد الأعظم من البشر، فيها يحيون، ومنها يتواصلون، ومن طريقها يتبضعون، كل هذا وأكثر، ومن ناحية أخرى تفرحهم تارة، وتحزنهم تارة أخرى. وكما أن للوطن هوية، وللعيش فيه أعراف وقواعد وقيم تعارف عليها منتسبوه، فالحال سيان بالنسبة للتكنولوجيا وعالمها الرقمي البعيد عن الواقع ومسلماته، فالعيش بين جنباتها يقتضي سلوكا مختلفا عما هو سائد، ويستلزم قيما مغايرة لما هو مألوف، فهي بيئة مختلفة نوعا وكما؛ لذا فالنجاح فيها يستدعي التكيّف معها والاستعداد الجيد لها.   

 

إن مفهوم المواطنة الرقمية يعني قواعد السلوك المناسبة والمسؤولة فيما يتعلق باستخدام التقنيات الرقمية؛ بحيث يتم استخدامها بشكل صحيح دون الإساءة لأحد أو إلحاق الضرر بالآخرين. إنها تلك القواعد والآداب التي يتوجب على الفرد التقيد بها حينما يبحر في عوالم الإنترنت ويستخدم وسائل التواصل الاجتماعي؛ وذلك يستوجب فهما وإدراكا لآليات وأخلاقيات استخدام مختلف التقنيات الرقمية في عالم تكنولوجي متلاطم الأمواج؛ كما عرفها المجلس الأوروبي بأنها تلك الكفاءات التي تحدد آلية وطريقة التصرف والتفاعل عبر الإنترنت، بحيث تشمل القيم والمهارات والمعرفة والفهم النقدي اللازمة للإبحار بمسؤولية تامة في ذلك العالم الرقمي المتجدد باستمرار؛ كي تصبح للجميع فرصا متساوية وعادلة للاستخدام الآمن والمسؤول للتقنيات الرقمية.

 

يعيش شبابنا اليوم في عالم غيرته التقنيات الرقمية بشكل تام، وعليه، إن للمؤسسات التعليمية دور ريادي في غاية الأهمية لتوعية الأطفال بالقواعد والقيم والمحاذير التي يحتاجونها من أجل تحقيق تفاعل إيجابي آمن، ولحماية أنفسهم من كل ما من شأنه إيقاع الظلم عليهم، أو الإساءة لهم، ومن فعل كل ذلك على غيرهم في نفس الوقت. إننا بحاجة لتسليط الضوء بشكل تفصيلي في موضوع المواطنة الرقمية وماهيتها وقواعدها في المناهج التعليمية لمختلف المراحل التدريسية. نعتقد بأن تضمين دروس تتعلق بالمواطنة الرقمية مثل: تعريفها، ومناقشة العالم الرقمي بمكوناته المختلفة، إيجابياته وسلبياته، والقواعد والقيم الواجب معرفتها، وأساليب وطرق حماية الأطفال لأنفسهم من خطر الابتزاز، وكذلك معرفة حقوقهم وواجباتهم تجاه هذا الوطن الرقمي، بالإضافة إلى المهارات والمعارف الضرورية لاستخدام تلك التقنيات والانفتاح على الآخر دون التخلي عن الأسس والمبادئ الدينية والمجتمعية، إذ هي مواضيع ينبغي أن يتم الحديث عنها بإسهاب. أضف لذلك تزويد الطلبة بمهارات الاتصال والتواصل الفاعل والمأمون، وكل ما يتعلق بخصوصياتهم وطرق حمايتها من تدخل الآخرين. كلها مواضيع نرى أن من الأهمية تضمينها على شكل وحدة دراسية منفصلة، أو على شكل مواضيع متفرقة في منهج تقنية المعلومات على سبيل المثال. 

 

ثمة رسالة مهمة يمكن للمعلم أن يقوم بها ولو لم تسعفه المناهج الدراسية التي بين يديه، وهي أن يتسلح بالمعرفة العميقة في المواطنة الرقمية؛ بحيث تتشرب أساليبه التعليمية صبغة تقنية توازي تلك التي أتقنها طلبته، ويغرس فيهم، من طريق ممارساته الفعلية، أساليب وطرق الاستخدام الصحيح للتقنيات الرقمية، وهذا لن يتأتى إلا بمعلم مطلع ومدرك ومجرب للتقنيات ومفعل لها بأفضل الطرق والأساليب. إن دور معلم القرن الواحد والعشرين مختلف، لم يعد دوره إتقان مادته ومجاله فقط، إنما إتقان استخدام التقنيات وتوظيفها  بأفضل الطرق وأنجعها؛ لأن المعلم أصبح في سباق مع تلاميذه في مجال التكنولوجيا. 

 

دون شك، تربية الأطفال وتنشئتهم ليست حكرا على المؤسسة التربوية، بل يتقاسم المجتمع معها هذا الدور المهم، فهو يضطلع بمهمة تنشئة الطفل أيضا؛ ولأن عالم التكنولوجيا عالم تختفي فيه الحواجز والحدود، فالطفل موجود فيه باستمرار حتى وهو في منزله؛ لذا فمن واجب ولي الأمر أن يثقف نفسه في موضوع المواطنة الرقمية عبر الانخراط في الحوارات والفعاليات المتعلقة باستخدام الانترنت وطرق استخدامها بشكل آمن. أضف لذلك إن على ولي الأمر أن يسعى لتحقيق توازن لدى طفله بين حضوره الاجتماعي وحضوره الافتراضي في العالم الرقمي دون أن يطغى الأخير، فتصبح نتائج ذلك كارثية عليها معا. إن التحاور المستمر مع الأطفال في تجاربهم واستخداماتهم للعالم الرقمي يضمن لك -كونك ولي أمر- قربا واطلاعا على ما يقوم به طفلك؛ ومنه تفادي الأسوأ قبل وقوعه.

 

إن عالم اليوم مختلف تماما، عالم رقمي افتراضي، يزداد ساكنوه باستمرار، وتتوسع دائرة سطوته وحكمه بلا توقف، وتستفحل آثاره باطراد، فهل نقف مكتوفي الأيدي؟ علينا الإسهام بما نستطيع لنجعل انخراط أبنائنا في دهاليزه تجربة آمنة ومسؤولة وثرية بالعلم والمعرفة. وهذا لن يتأتى إلا بتضافر جميع الأطراف بفعالية وإيجابية للحيلولة دون وقوع المجتمع في المحاذير والمشاكل التي هي جزء لا يتجزأ من هذا العالم الرقمي. 

 

إرسال تعليق عن هذه المقالة