جسر العلوم والمعارف
مقال: الدكتور سالم بن علي البوسعيدي
الحمد لله الذي أنزل القرآن بلسان عربي مبين، والصلاة والسلام على أفصح العرب والعجم -محمد صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه أجمعين:
يزهو يوم الثامن عشر من ديسمبر في كل عام بتاج عظيم غال على نفس كل مسلم عربي، ألا وهو اليوم العالمي للغة العربية اليوم الذي خضع فيه العالم واعترف بعظمة هذه اللغة وجلالتها، هذه اللغة التي كانت وما زالت الجسر الذي عبرت منه الحضارات بعلومها وإنجازاتها عبر الأجيال، ولم تعرف الضعف والتقهقر بتوالي الأزمان وصراعات الوجود بين بني الإنسان.
هذا، وعلى الرغم مما يوحي به اعتراف المنظمة العالمية بالعربية لغة عالمية حضارية ارتقت بالإنسان العربي وغير العربي عبر الزمن، فإنّ هذا الاعتراف لا يفي بحقها وقدرها في نفوسنا؛ إذ اللغة العربية عندنا ليست مجرد وسيط تفاهم، وسبيل تواصل فقط، بل هي الحاضنة العقدية والفكرية والتراثية والتاريخية للأمة العربية والإسلامية، هي الهوية والكيان. وأي إقصاء لها هو إقصاء لوجودنا.
لقد شُرّفت العربية من بين لغات العالم يوم أن ارتضاها الخالق وعاء لكتابه الكريم، فهي حيّة كل ساعة وكل يوم وكل سنة، وما اليوم العالمي المرسوم لها إلا تذكير بعظمتها ودليل على إدراك العالم وخضوعه لجلالتها.
ولا أنسى اليوم الذي عرضت فيه نصاً قصصياً للكاتب الإنجليزي وليم شكسبير "WilliamShakespeare" (1616م) على أساتذة اللغة الإنجليزية؛ لنقله إلى العربية، فقدموا أسفهم واعتذارهم بأن لغته لغة قديمة عتيقة، غير مستعملة الآن، وأن اللغة الإنجليزية قد تطورت وتغيرت، ولا بدّ من نقله إلى الإنجليزية الحديثة أولاً، ثم يُترجم إلى العربية. وهذا الوضع هو صيرورة كونية تجري على جلّ لغات العالم.
كم أنت عظيمة أيتها العربية! فما زلنا نقرأ نصوصاً كُتبت قبل عشرة قرون ونتفاعل معها وكأن كاتبها يعيش بيننا، قوة داخلية عجيبة تمثل في ألفاظها وبنيتها، ومرونتها في استيعاب الجديد عبر الأزمان رغم التكتلات الهادفة إلى الإقصاء والإبعاد.
وعليه، فاعتزازنا بالعربية يدفعنا إلى إيجاد مكانة تليق بلغتنا في تفاعلها مع الحياة والمعرفة المعاصرة، متخذين من الترجمة والتعريب جسراً للولوج إلى كل حديث، هذا الجسر الذي سارت عليه العربية قديماً ولم تسقط، فكانت هي الوعاء الكبير الذي اتسع لإبداع الإنسان ومنجزه الحضاري في شتى حقول المعرفة، ونقلته من جيل إلى جيل بكل جدارة وثبات. كذلك ستكون اليوم الجسر نفسه عبر الحقب الزمنية المتعاقبة.
وإذا كان ثمة قصور في جهد أهلها فإن الله قد يسّر لهذه اللغة من أدرك عظمتها وعرف قدرها من غير بني جلدتها، إذ هي مساق دراسي في أكثر جامعات العالم الحديث في أوروبا وآسيا. فهل ستكون العربية شبيهة بثروة النفط والغاز الذي تملكه بيئة العرب وأرضهم ولم يعرفوا قدره وقيمته إلا من غيرهم؟!
إن الوفاء للغتنا يقتضي منا المزيد من الجهد في الكشف عن أسرارها، والاستفادة من حيويتها، والتنقيب عن فضلها في متون الكتب، وفي هذا الصدد ينبغي أن نستبعد من منهجيات دراساتنا ما يقلل من شأن علمائنا الأفذاذ الذين لم يدخروا جهدا في الحفاظ عليها، وتبسيطها لتكون في متناول طلبة العلم؛ فنربط تراثنا بحاضرنا، ونرنوا إلى مستقبلنا، فلا نعيش في التاريخ وننسى يومنا ومستقبلنا فتضعف هممنا ولا نستطيع الترويج لسلعتنا.
ألا إن اللغة العربية سلعة غالية ولا يمكن أن ننال من شرفها إلا بأن تكون ذات الصدارة بيننا.