السنة 16 العدد 150
2021/12/01

المواطنة الصالحة ودور وسائل التواصل الاجتماعي في تعزيزها

 


 

د. بدر بن هلال اليحمدي 

 

"المواطنة" مصطلح ذو مدلول واسع لا يقتصر على حب الوطن كما هو معروف في مفهوم "الوطنية"، ولكن له مفهوم يعكس العلاقة المتبادلة بين الوطن والمواطن أو بين المواطن والمواطن، فهو يحمل معنى المشاركة، ويحمل معنى الأخذ والعطاء ومعنى الحقوق والواجبات، وبالرغم من كون الوطن مصدر عطاء حسب العرف الشائع؛ باعتباره يشكل المحضن الدافئ والتاريخ التليد والهوية والثقافة والحضارة ... إلخ، إلا أن المواطن ينتظر منه عطاء آخر يلبي له احتياجاته الأخرى من حرية وكرامة وعيش رغيد ينعم به مع أسرته وأقاربه وخلانه، ولما كان الوطن له ممثلون يمسكون بزمامه، ويتولون أمره ويسوسون شأنه، فإن ممثليه هم من يمنحون تلك الحقوق ويلبون تلك الاحتياجات؛ لأن إدارة شؤون الوطن ومقدراته بأيديهم، فهم ينظمون الحياة فيه وفق رؤية معينة، وقد تكون صائبة لحفظ الوطن وثرواته ومكانته، وقد تكون قاصرة لا تلبي طموحات المواطنين، ومنه تفتح مجالا للنقاش والحوار حولها بين مؤيد ومعارض، وهذا ما يولد حراكا وطنيا بين شرائح الوطن الرسمية والشعبية، التي تهدف في النهاية إلى مصلحة الوطن بشكل عام والحرص على رُقيّه وتقدمه.  

  وقد نلاحظ أن هناك تداخلا بين الوطنية والمواطنة، لكن الوطنية مبدأ أساس لا ينبغي أن يختلف عليه اثنان؛ سواء في معناه أم في تحقيقه؛ لأنه يقتضي الحب والانتماء والبذل والتضحية من أجل الوطن، أما المواطنة فهي محل نقاش وتجاذب يتفاعل معه الجميع، ففي الوقت الذي يرى فيه المواطن أنه ملزم بواجب الوطنية، هو في الوقت ذاته يبحث عن حقوقه التي يضمن بها مواطنته الكاملة التي لا يضام فيها، إنه لا يكتفي بقضية كون الوطن مُستقَرا وأمانا ورصيدا كبيرا من التاريخ، إنه ينتظر حقوقا أخرى ينعم بها مثل التعليم والصحة والوظيفة والمسكن والخدمات الأخرى التي تواكب معطيات العصر، هذا بالإضافة إلى ما يطمح إليه من كرامة وعدالة ومساحة كافية للتعبير عن الرأي؛ ولذا فإن بعضهم يرى أن أداء الواجب الوطني مرتبط بقدر ما يحصل عليه من ميزات يطمح إليها وتحفظ له حقوقه التي يرنو إليها، ودون تحقق هذه الميزات فإن مبدأ الوطنية قد يضمحل لديه أو يتلاشى، وهذا هو مكمن الخطر الذي يجب أن ننبه إليه ونحذر منه.  

   إن مبدأ الوطنية ليس محل مساومة بين أمرين بتحقق هذا يتحقق ذاك؛ لأنه مبدأ ثابت لا يتزعزع لدى المواطن مهما كانت الظروف المحيطة به، ومهما كانت هناك أخطاء في إدارته؛ لأن التخلي عن الوطنية يعني التخلي عن الوطن، ولنا في ديننا الحنيف ما يؤكد هذا المبدأ، فقد يعتبر الإسلام الوطن شيئا مقدسا يجب الذود عنه ولو اقتضى ذلك التضحية بالنفس والنفيس من أجله، وقد جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية ما يدل على حب الوطن والتعلق به والدعاء له مما هو معروف لدى الجميع؛ لذلك يأتي هنا دور المواطنة التي تتمسك بالوطنية وتشارك في الوقت نفسه في طرح الرؤى الجديدة التي تصب في صالح الوطن، وتسعى إلى تقويم الأخطاء المرتكبة في حقه، وتطالب في الآن نفسه بالحقوق المنتظرة، وبهذا تتحقق المواطنة الحقة، لأن الوطن للجميع والميدان مفتوح لتقديم كل ما أمكن لرقي الوطن وتقدمه.

  ومن أجل ذلك فُتحت المشاركة الشعبية في إدارة الوطن حتى لا تُحتَكر من قبل جهة واحدة، ووجدت المؤسسات البرلمانية التي تمثل الشعب ليدلي بدلوه في السياسات المطروحة وتقويمها وتسديدها، كما وُجدت المنابر الحرة التي من طريقها يطرح المواطن أفكاره ورؤاه بما يخدم الصالح العام، وما أجمل أن نرى في وسائل التواصل الاجتماعي أطروحات كثير من المثقفين الذين يقدمون بين الفترة والأخرى أفكارا قيّمة تنم عن وطنية صادقة وحب راسخ للوطن، مما يصب في صالحه ويعود عليه وعلى أبنائه بالخير والنماء. 

  وإن السعادة لتبلغ أوجها حينما نرى رصدا لهذه الرؤى واستجابة لتلك المقترحات البناءة والمطالبات الإيجابية، وهذا ما يفرض علينا احترام وتقدير هذا التوجه الذي يعكس المشاركة والمواطنة الإيجابية بين الحكومة والشعب، فالكل يسعى إلى تحقيق الغايات السامية للوطن ليكون في مصاف الدول المتقدمة. 

  ومن هنا فإن مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة من المثقفين مدعوون إلى أن يُحسنوا الاستفادة من هذه المواقع بما يعود على الوطن بالنفع والخير والتطور، وأن يُبدعوا في طرح الأفكار والرؤى البناءة التي ينعكس أثرها الإيجابي على المجتمع والوطن، وأن يتحروا في ذلك المصداقية في الطرح والدقة في المعلومات، بما يبعدهم عن الشائعات والادعاءات الباطلة التي لا تستند إلى دليل وإنما غايتها إثارة البلبلة أو القدح والتجريح. 

  إن وسائل التواصل الاجتماعي سلاح ذو حدين، فبقدر ما تحصل منها على الشهرة بقدر ما تكون أسهمت في البناء أو الهدم، لذلك يحتاج مستخدمها إلى مزيد من الوعي والترشيد، ليعلم ما يحسن نشره وما لا يحسن، فقد تكون المعلومات صحيحة لكن الحكمة تقتضي عدم النشر، فليس كل ما يُعلم يُنشر، لأن هناك متربصين بالوطن يستغلون بعض الهفوات كي ينفُذوا منها للنيل منه لتكون العاقبة وخيمة على الجميع؛ لذا فإن الحكمة في الطرح وحسن الأسلوب والعرض ينبغي أن تكون كلها حاضرة لدينا ونحن نسطر تغريدة أو نكتب مقالا أو نبث مقطعا لنتأكد من فائدة ما نبث وننشر، سواء على مستوى الفرد أم المجتمع أم الوطن بأكمله. 

وبهذا تتحقق المواطنة الصالحة التي نهدف إليها؛ لأن صلاح المواطنة يعني الالتزام بثوابت الوطن والتمحور حولها وعدم مغادرتها تحت كل الظروف، كما يعني النضال من أجله وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، مع اليقظة بعدم الإضرار به سواء بقصد أم بغير قصد، ومن المؤسف أن نجد من يفرط في وطنيته بمجرد عدم حصوله على بعض الحقوق أو الامتيازات، بينما لا يلتزم بشيء من الواجبات الوطنية، أو لا يتجنب بعض المحظورات الضارة بالوطن، فيقع فيما يسيء إلى سمعته ومصالحه العليا. إن المواطنة الصالحة ليست مناكفات بين طرف وطرف، بل هي تنافس شريف لخدمة الوطن وليست أخذا فحسب، بل هي عطاء بالدرجة الأولى. 

  كما أن المشاركة الفاعلة في بناء الوطن هي أفعال قبل أن تكون أقوالا، فليس البناء مجرد نقد فحسب، بل رؤية وتخطيط وعمل رغم كل الظروف، وفي المثل المشهور "أن توقد شمعة خير من أن تلعن الظلام"؛ ولذلك فإن المعلم الذي ينير عقول أبناء الوطن، والتاجر الذي ينمي اقتصاد الوطن، والمزارع الذي يسعى إلى الاكتفاء الغذائي للوطن، وغيرهم ممن يعطون بسخاء هم أكثر وطنية من أولئك الذين لا يملكون سوى التذمر والنقد السلبي وهم لا يقدمون شيئا ذا قيمة يعود بالنفع على الوطن وأبنائه.

   ولا نعني بذلك أننا نطالب بالسكوت المطبق تجاه القضايا المهمة التي ينبغي الإدلاء فيها بالرأي والمشورة، ولكن نقصد أن المواطنة الصالحة تقتضي العمل المخلص من أجل الوطن أولا ثم النقد البنّاء ثانيا، حتى يكون للنقد قيمة مجدية وقبولا مقنعا، ولا شك أن كل من تصدى للعطاء الفكري فسوف يواجه سيلا من الرفض والتجريح في بداية الأمر، خصوصا من أولئك الذين ليس لهم بُعد ثقافي ونظر ثاقب يمكنهم من الحوار أو الاستماع للرأي الآخر، لكن بالصبر وبيان الحجة والمنطق فإن تلك العقبات ستتلاشى مع الزمن، خاصة إن ثبت أن لتلك الأفكار مصداقية علمية ونتائج مفيدة. 

  ثمة أمر آخر يحتم على المواطنة الصالحة أن تتصدى له، هو ما تشكله العولمة الجديدة من تذويب للهوية الوطنية وتهديد للقيم الإيمانية والخلقية التي تمثل ثوابت المجتمع؛ مما يشعرنا بوجوب المحافظة على هذه الثوابت، وألا نسمح بعبور ما تفرضه العولمة من أفكار هدامة وسلوكيات سيئة لتتسلل إلى المواطن صغيرا كان أم كبيرا، حتى لا تكسر لديه المبادئ التي تصوغ هويته وتشكل شخصيته المستقلة.

   إن للدول العظمى بلا شك خططا بعيدة المدى وأجندة واضحة الأبعاد تنطلق منها لصهر الدول الضعيفة في بوتقتها، وجعلها تسير في فلكها، بحيث تذوب شخصيتها وتختفي هويتها، وما لم يكن لتلك الدول الضعيفة إرادتها المستقلة ورؤيتها الوطنية المبنية على مبادئها وقيمها فإنها مع الزمن مهددة بالانقراض؛ ولذا لابد من تضافر الجهود من قبل الجهات الرسمية والجهات الشعبية الحريصة على الوطن وثوابته؛ كي يوحدوا الجهود لصد كل غزو فكري وأخلاقي، ليبقى الوطن نظيفا، ولتستمر هويته الخالصة للأجيال القادمة. 

  وإن خير من يقوم بهذا الدور هم أهل الفكر والبصيرة النافذة ممن لهم قدرة على التأثير، ولهم رؤية بعيدة النظر يحمون بها هويتهم وقيمهم المرتبطة بالوطن، فالوطن ليس مجرد أرض نعيش عليها، بل هو تاريخ وقيم وحضارة وثقافة وإنسان تفاعل مع تلك الأرض عبر الحقب الزمنية حتى اختلط بدمه وعظمه فأصبح مكونا أساسا من مكوناته لا ينفلت منه إلا مضطرا، وإن بَعُدَ عنه فإن الشوق والحنين يلازمانه حتى يعود إليه، ولأجل ذلك تفدى الأوطان بالأرواح ويضحى من أجلها بالغالي والنفيس.

 

إرسال تعليق عن هذه المقالة