ثراء البيئة وقوة العزيمة أزاحا اللثام عن تحديات الواقع
نشأت في مدينة نزوى العريقة، إذ ترعرعت في جنبات مزارعها الخضراء وسط أسرة أحفتها بمعاني التألق والنجاح، فقد كان العلم أول ما يشغل أسرتها. تقول ضيفتنا في لقاء ذكريات خريج للعدد 149 من صحيفة إشراقة: "حرص والدي كل الحرص على تنشأتي على القراءة ومعرفة ما يجول حولي في العالم، ومن الطريف في الأمر أنه كان دائما يجعلني أستمع إلى آراء الآخرين عبر شاشات التلفاز؛ ليستمع بعدها إلى وجهة نظري للأمر، لم أكن حينها أدرك لماذا؟".
فوق العادة
تستهل سلوى بنت سعيد العنقودية، المشرفة على مركز أنجز بجامعة نزوى، حديثها قائلة: "لم يكتفِ والدي بذلك؛ فقد أصبغني بقراءة كتب متنوعة من مختلف العلوم التجارية والسياسية والاقتصادية والأدبية والفنون والدينية وغيرها الكثير. ولم تكن طفولتي التي أذكرها وأنا بعمر التاسعة مليئة بأنشطة اللعب مع أقراني أو زيارة أماكن جميلة، كالحدائق بنهاية كل أسبوع، فبينما كنت أرغب بشدة في قضاء وقتي في اللعب مع أقراني، واكتشاف الصخور والنباتات في الجبل الذي يقع خلف بيتنا، كان والدي يقف خلفي مع مزيد من الكتب والنقاشات، وكأنه وضعني ضمن خطة تطويرية يرسمها بنفسه، ولم يكن حينها عقلي الصغير يفهمها جيدا آنذاك". وتضيف: "لا أخفيكم حقيقة أني كنت أعيد قراءة بعض الكتب مرات عدة؛ لعدم فهمي مضمونها العميق، بل أدركت بعدها بسنوات أن الوعي درجات، ولكل مرحلة عمرية درجة يستطيع القارئ استيعابها كلما ازداد معرفة، وبنفس الوقت كانت القراءة الطريق المختصر للحصول على مختلف المعارف في وقت قياسي مقارنة بعمري الصغير، الأمر الذي لم أفهمه وأنا بنت التاسعة".
ارتباط وهواية
بدأت سلوى منذ الصغر في علاقة وطيدة مع الطبيعة، بين الجبال والسيوح والأودية، تقول: "كنت أحب تطبيق فنون الطبخ التي أدرسها في المدرسة في السيح (مساحة من الأرض، ذات غطاء نباتي قليل جدا)، فقد كنت أمارس فيها حياة البساطة، أتلذذ بطبخ الطعام على حطب السمر المشتعل الذي أقضي فيه بعض الوقت لجمعه من السيح، وبالمناسبة لا أنسَ أني كنت أتسلل لأخذ بعض الأدوات البسيطة للطبخ من المنزل حال خروج أمي من البيت لاحتساء القهوة مع جاراتها؛ لأعد بعدها وجبة غداء شهية غالبا ما تحترق، ومع ذلك كنت أتناولها بسعادة لأنها من صنع يدي! وكم هي كثيرة تلك المرات التي وبختني أمي لفعل ذلك ... بعد اكتشافها أن أواني الطبخ الفاخرة لديها اكتست بلون الدخان الأسود القاتم".
وتضيف العنقودية: "الطبيعة لم تكن فقط لممارسة هواياتي الطفولية، إنما كانت رحلة لاستكشاف الذات، فقد كنت أحمل كراسة الرسم وألواني وقلم الرصاص، فأزاول مهنة التدريس على أقراني؛ مقلدة دور المعلمات في المدرسة. بعدها بدأت أنزوي على زوايا الطبيعة، لأكتب ما يجول في خاطري من كلمات ... وهنا بدأت قريحة كتابة الشعر والقصص القصيرة والخواطر تنساب من ذاكرتي على أوراق الحياة".
شعلة التعليم
مراحلي التعليمية هي من صقلتني على ما أنا عليه اليوم، فقد أنهيت جميع المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية في مدارس نزوى؛ لتنتهي مسيرتي العلمية بقبولي في جامعة نزوى طالبة في البعثات الجزئية في تخصص إدارة المشاريع الترفيهية عام 2005م، ولم يكن شغفي ذلك قط، فقد كنت أعشق تعلم اللغة الإنجليزية وتدريسها للآخرين كان محور اهتمامي؛ فلذلك عملت جاهدة لتغيير تخصصي إلى الترجمة -اللغة الإنجليزية- إذ لم يكن آنذاك يسمح لطلبة البعثات بدراسة التخصصات التربوية، فأكملت سنة الدبلوم في تخصص الترجمة وأتبعتها بخبرات تدريبية في مؤسسات ومكاتب عدة؛ لأجد أن رغبتي تتجه إلى مهنة التدريس أكثر من الترجمة، وأيقنت بعدها أن شغفي أن أكمل دراسة البكالوريوس في تدريس اللغة الإنجليزية، ولكن؟!
التحدي وورقة اليانصيب
تشاركنا سلوى العنقودية قصة عدّتها نقطة الانطلاقة في السلم التعليمي لديها، تقول: "شاءت الأقدار أن أنهي درجة الدبلوم في تخصص الترجمة - اللغة الإنجليزية، إلا أنني لم أحظَ ببعثة كاملة لأكمل درجة البكالوريوس في الترجمة، ومنها اتخذت قرار إكمال دراستي التعليمية على حسابي الخاص؛ كي لا يتوقف طموحي في أن أكون معلمة لغة إنجليزية. وأكاد أذكر حينها أنني ذهبت إلى والدي وأنا على ثقة تامة بقبوله لقراري قائلة بالعامية: (باه أنا قررت أكمل دراستي ... لقد أعطاني الضوء الأخضر، مؤكدا: دربك خضر -عبارة تدل على الموافقة- أنا معك في هذا القرار إذا تتمكني تتحملي تكاليف الدراسة). كنت أعلم أن والدي لم يكن لديه المال الكافي لتحمل أعباء دراستي، ولكن هو على استعداد أن يقترض المال من أجل أن أكملها، وسيعمل المستحيل لجعلي أتعلم. هنا انطلقت لساني لأعاهد والدي أني سأتكفل بدفع كافة مصاريف دراستي بنفسي، فقط سأحتاج إلى مصروفي اليومي لشراء وجبتي الإفطار والغداء ... بدت على وجهه علامات التعجب والاستفهام، ولم يعقب سوى بعبارة الله يوفقك".
تشير سلوى إلى مدلول حديثها سابقاً بقولها: "لم يكن تعهدي لوالدي بالأمر السهل أبدا، فقد كان لابد لي من إيجاد طريقة حتى أستطيع التسجيل في الجامعة لإكمال دراستي، حينها كان ملاذي الوحيد ورقة اليانصيب التي سأكتبها لرئيس الجامعة الدكتور أحمد الرواحي المحترم، الذي طالما زرته مرارا وتكرارا طالبة في مواضيع عدة تخص زملاء الدراسة، فقد التمست منه حينها حبه لمساعدتهم، وتفهمه لأوضاعهم واحتياجاتهم، ولم نخرج قط من مكتبه بخفي حنين؛ لهذا السبب أخذتني الشجاعة لأوجه رسالتي له دون تردد ليسمح لي بالدراسة والعمل معا من أجل دفع تكالف دراستي".
تكمل العنقودية حديثها: "قد يتبادر إلى أذهانكم لمَ أسميتها (ورقة اليانصيب)؟ لأني لم أكن أعلم ما إذا كان ذلك اليوم هو اليوم الذي سيكتب فيه نصيبي لإكمال دراستي، أم لا؟. لم أنتظر كثيرا، فرسول الخير لا يأتي إلا بالخير، لقد قُبل طلبي وبدأت انطلاقتي في تخصص التربية - اللغة الإنجليزية. وهنا سجلت ساعات النجاح والتحدي؛ إذ كان لابد لي من موازنة الساعات الدراسية مع ساعات العمل، وضمان قدرتي على دفع تكاليف دراستي في كل فصل، الأمر الذي مهّد لي العمل طالبة إسناد في أقسام عدة، منها: مركز مهارات الكتابة ومكتبة الجامعة وكلية الهندسة والعمارة وكلية العلوم والآداب ونظم المعلومات. إنّ العمل تحت الضغط كان له عامل إيجابي كبير في قدرتي على تخطي درجة البكالوريوس آنذاك، وكذلك في إكمالي لدرجة الماجستير على نفس المنوال حاليا .. أسأل الله ألا تتوقف مسيرتي العلمية عند هذا الحد؛ بل تتسع لنطاق ما بعد ذلك".
صيباً نافعاً
لم أتمكن من دفع كافة مستحقات الدراسة لدرجة البكالوريوس، فكان لابد لي بعد تخرجي من أن أعمل على تصفية كافة مستحقات دراستي لجامعة نزوى، هكذا تحدّثت مشرفة مركز أنجز عن فترة ما قبل التحاقها موظفة في الجامعة، تقول: "كنت قادرة على طلب المساعدة من أسرتي لدفع ما تبقى عليّ من مصاريف دراسية، ولكن تعهدي لوالدي ألزمني بإكمال المشوار دون القيام بذلك، وقد ساعد شغلي لوظائف مختلفة في الجامعة كوني طالبة إسناد، وكذلك التحاقي ببرامج تدريبية ودورات تعليمية عدة؛ لصقل مهاراتي وقدراتي للانخراط في سوق العمل، إذ قُبلت للعمل مساعدة في إعداد بعض البرامج الأكاديمية للغة الإنجليزية في أحد المعاهد التعليمية قبيل التحاقي موظفة في الجامعة. لم أكن حينها أعلم أن القدر كان يعدني لشيء أكبر من ذلك، وخبرتي تلك لم تكن سوى تمهيد لما سيأتي بعد ذلك، فبعدها بفترة وجيزة قدمت لشغل وظيفة بجامعة نزوى، وشاءت الأقدار أن أُعيّن مساعدة لمدير برامج اللغة الإنجليزية بالجامعة في معهد التأسيس، وقد كانت من أجمل المراحل العملية والعلمية التي قضيتها متنقلة بين الخبرات الأكاديمية والإدارية ... تارة معلمة، وتارة مرشدة، و تارة أخرى مشرفة".
لقد كان التحاق سلوى بمعهد التأسيس غير مقتصرٍ فقط على برامج اللغة الإنجليزية، إنما فتح لها الأبواب للالتحاق ببرامج آفاق عالمية للطلبة الدوليين - برنامج دولي مرتبط بمكتب العلاقات الخارجية سابقا يبتعث طلبة الجامعة للدراسة في الخارج - وكذلك حضور المؤتمرات العالمية، وإكمال دراستها العليا؛ ليتوج نجاحها بعد ذلك لتكون المشرفة على مركز أنجز، مركز تنمية مهارات اللغة الإنجليزية لطلبة السنة التأسيسية بجامعة نزوى، تقول عن ذلك: "عملي الآن في منظومة النجاح -مجموعة مراكز خدمية تعليمية لطلبة الجامعة- ما هو إلا بداية لمستقبل مشرق آخر تتخلله العديد من التحديات التي تحتاج إلى مزيد من الصبر والعطاء".
ثقافة وحداثة
تقول سلوى العنقودية: "وجب أن أسلط الضوء على أهم الموارد التعليمية الذي أثار شغفي نحو تعلم الثقافات ومعرفة شعوبها في موضوعنا هذا؛ فقد كان لسفري في البرامج الدولية طالبةً وموظفةً الأثر الكبير في نحت مفاهيمي عن تعلم اللغات وثقافة الشعوب والقيادة، منها كان منطلقي للسفر لبعض دول العالم: (بريطانيا، أمريكا، ماليزيا، الأردن، مصر...الخ)، والعيش بين شعوبها ... الأمر الذي أثار دهشتي ومعرفتي لاختلاف الثقافات بشكل كبير؛ الذي وجدتها مختلفاً تماما عمّا تكتبه الصحف، وما نشاهده في التلفاز. وكان دور عائلتي داعما لي دائما للسفر للخارج لاستكشاف كل جديد، ولم يكن بالنسبة لي استجماما؛ إنما كان دراسة لمفاهيم بشرية وعادات وتقاليد وأسس عقائدية مختلفة؛ جعلتني في كثير من الأحيان أتساءل عن حكم الشافعي في قصيدته عندما قال:
تغرب عن الأوطان في طلب العلى
وسافر ففي الأسفار خمس فــوائد
تفـــــــريج هم واكتساب معيـــشة
وعلـــم وآداب وصحـــــبة ماجـــــــد
أيضا تعلمي للغة الإنجليزية لم يمكن فقط مربوطا فقط استماعا لحروفها، أو تحدثا بكلماتها، إنما ارتبط بشكل مباشر في رغبتي بتعلم ثقافة مَن حولي، التي بلا شك جذبت لي كثيرا من الفرص للعمل بين طاقم أكاديمي متنوع الثقافات والدول والأعراق ... أنا حقا ممتنة لذلك، فهناك الكثير من الصفحات التي سأتركها فارغة لقراءات أخرى، لعلني أرجع إليكم ببعض منها في المستقبل القريب، ولا تزال للسطور بقية".