هل نقرأ؟ ولماذا نقرأ؟
كتب: الدكتور عمر عثمان جبق – شعبة اللغة الإنجليزية
مع انتشار الحاسب الآلي والإنترنت والأجهزة الذكية وتطبيقاتها العديدة والمفيدة؛ لاسيما المتعلقة بالتواصل الاجتماعي، أصبحت وتيرة الحياة أسرع، وأخذ الناس يبتعدون رويداً رويداً عن القراءة والمطالعة بالمعنى التقليدي تحت تأثير الأجهزة الذكية وسحرها الأخّاذ الذي يخطف الأبصار ويأسر الألباب فيضعف أمامها الجيل الكبير ويُدمن عليها الجيل الجديد، جيل العالم الرقمي الذي فتح عينيه فوجد نفسه وسط عالم التكنولوجيا والإنترنت المتلألئ الساحر!
هذا العالم الذي أفرز عادات وثقافات جديدة؛ منها استبدال المطالعة والقراءة بالمشاهدة والاستماع ومتابعة أخبار المشاهير هنا هناك والتعسّف في استعمال مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقاته؛ فبدأ الكبير والصغير بالابتعاد عن القراءة شيئاً فشيئاً، وأخذ الكثير منّا -نحن المسلمين من عرب ومن عجم- يتناسى أوّل كلمة، وأوّل أمر ربّاني، نزل على رسولنا صلى الله عليه وسلّم في غارٍ مظلم موحش بعيدٍ عن أعين الناس وأنشطتهم. هذه الكلمة وهذا الأمر الذي رسم معالم الحضارة الإسلامية لقرون طويلة كانت فيها أوروبا وباقي أرجاء المعمورة تموج في ظلام الجهل والتخلّف الفكريّ والاضطهاد الديني. فالقراءة أمرٌ ربّاني قبل أن تكون هواية نمارسها في وقت الفراغ! هنيئاً لمن يفهم هذا الأمر الرباني حقّ فهمه، ويمتثل له ويقرأ فيوسّع مداركه العقلية، ويزيد وعيّه الثقافي بمختلف الشعوب والعلوم، ويحقق التقارب الفكري الثقافي مع أبناء جنسه البشري في مشارق الأرض ومغاربها!
أذكر عندما كنت طفلاً في المرحلة الابتدائية في مطلع الثمانينيات من القرن العشرين المنصرم أنني كنت مولعاً بشدّة، ولا أزال، بالقراءة والمطالعة بالرغم من ندرة الكتب من جانب، وتواضع الحالة المادية للأهل من جانب آخر. أذكر أيضاً أنني كنت أنتظر بفارغ الصبر يوم توزيع الكتب المدرسية الجديدة علينا في بداية كل فصل دراسي؛ لأبدأ طقوسي الطفولية الغريبة والعجيبة في التواصل مع الكتب، بدءً من ضمّها وتقليبها وشمّها، وانتهاءً بقراءتها حتى آخر كلمة فيها! لقد بدأت رحلة القراءة والمطالعة في سنّ الطفولة والاشتراك بمجلة "أسامة" التي كانت تصدر عن وزارة الثقافة في سوريا وموضوعاتها المتنوعة والمشوّقة للأطفال واليافعين. ثم امتدت إلى سنّ المراهقة؛ إذ تعرّفت عند إحدى المكتبات المحلية بمجلة العربي التي تصدر عن وزارة الإعلام الكويتية ومجلة العربي الصغير الرديفة لها، التي واظبتُ على جمع أعدادها وقراءتها بلهف وشغف لما فيها من تنوّع كبير في الموضوعات العلمية والأدبية والفلسفية. وفي المرحلة الثانوية أصبحت أستعير كُتباً في مختلف المجالات والعلوم من مكتبة المدرسة في بلدتنا. وكان أول ما يلفت انتباهي ويجذب حواسي كلّها رائحةُ الكتب؛ لاسيّما القديمة ذات الورق الأصفر العتيق. وكأنّ عبق الماضي وعطره وطبيعته العذراء تأبى إلا أن تأخذني معها في رحلة عبر الزمن حيث يجتمع الخيال بأبطال التاريخ وأحداثه السعيدة والحزينة!
وفي المرحلة الجامعية، ومع التخصص في اللغة الإنجليزية وآدابها، وجدتُ نفسي محاطاً ومحاصراً بقوافل وأساطيل غربية من الكُتب في مختلف المجالات مكتوبة بلغة إنجليزية قديمة وحديثة جذّابة تخاطب العقل والقلب معاً. وكأنه مقدر لي أن أقرأ وأطالع في كتب عربية وإنجليزية، وأن يبقى ظمأ القراءة والمطالعة عندي في ازدياد، رغم عدم توقّف عادة القراءة والمطالعة قطّ! يبدو أنّ هذا العطش والنّهم لا يمكن إشباعه، بل إنه يزيد ويشتدّ كلما زادت القراءة والمطالعة! صدق المتنبي عندما قال:
أعزُّ مكانٍ في الدُّنى سرجُ سابحٍ .............. وخيرُ جليسٍ في الزمان كتابُ
ولابدّ من تنويع مصادر القراءة؛ بحيث تكون من أكثر من بلد وفي ميادين معرفية عديدة أيضاً؛ لإثراء مختلف الجوانب الفكرية وتطوير مهارات التفكير التحليلي والتركيبي والناقد، التي يحتاجها كلّ إنسان على اختلاف المراحل العُمرية. ومن الأخطاء التي يقترفها بعض القرّاء عدم تنويع مجالات قراءاتهم ومصادرها، فنراهم يلزمون أنفسهم بالقراءة في مجال واحد فقط ولفئة محددة من الكُتّاب دون اكتشاف ذلك المجال من وجهات نظر مختلفة ومتنوعة لمختلف الكتّاب من جنسيات ومشارب مختلفة؛ حتى تتشكّل لديهم فكرة أكثر شمولية عن ذلك المجال تساعدهم على استخلاص واستنباط ما هو منطقي ومفيد وصحيح. وهذا بدوره قد يصحّح بعض المفاهيم والمعلومات المغلوطة التي نتجت عن أُحادية القراءة، أو القراءة في مجال واحد لفئة واحدة من الكُتّاب. من منّا لم تتغير بعض المفاهيم والمعلومات التي حصل عليها من طريق القراءة الأحادية، ثم اكتشف أن تلك المفاهيم والمعلومات كانت مغلوطة بعدما اطلّع على كتب أخرى في ذات المجال كتبها آخرون من جنسيات ولغات أخرى؟! وكيف نحقق كلام الله عزّ وجلّ: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليمٌ خبير" ( الحُجُرات: 13)، إذا لم ننوّع قراءاتنا ومجالاتها ومصادرها؟ كيف نتعرّف على الشعوب الأخرى وعاداتها وعلومها وثقافاتها وتفكيرها وتحديّاتها وإنجازاتها إذا لم نقرأ عنها ونتواصل معها؟ كانت، وما تزال القراءة، أداة ثقافية مؤثرة وفعّالة للتعرّف على الشعوب الأخرى في هذا العالم الرحب المليء بالعجائب والغرائب والمعارف التي تثري الفكر البشري وتشبع فضوله، وترتقي بالروح البشرية إلى مستويات عالية، حيث الرؤية أشمل وأعمق وأكثر وضوحاً، وهذا ما يحتاجه المرء إذا كان يسعى لتحقيق التوازن في الشخصية والاعتدال الفكري والسلوكي الذي بات مطلباً عالمياً لكلّ البشر على اختلاف ألوانها ومشاربها ومذاهبها.
إن القراءة في مجالات تنمية الشخصية ومهارات التواصل الاجتماعي والنجاح المهني والسعادة والتحفيز وإدارة الوقت والغضب والتوتر والمال وغيرها من المجالات الحياتية المهمة؛ لاسيّما في وقتنا الراهن، إذ يعاني معظمنا من ضغوطات الحياة على الصعيد الأسري والاجتماعي والمهني والاقتصادي، هذا النوع من القراءة يسهم إسهاماً كبيراً في تحقيق التوازن في الشخصية، وتهذيبها وصقلها، إذ تطوّر المهارات الضرورية في المجالات آنفة الذكر التي تحتاجها وتعزّز المهارات التي تتمتع بها في هذه المجالات. كما أنّ مطالعة الكتب الفكرية والدينية المتنوّعة في أكثر من لغة تجعل الإنسان أكثر انفتاحاً على الآخر المختلف عنه في اللغة والثقافة والفكر والدِّين والمذهب على مستوى الدِّين الواحد، فيعتدل فكره وتزداد مرونته الفكرية أيضاً ويقلّ التعصّب الفكري والدّيني عنده وقد يتخلّص منه كلياً، ولابدّ أن ينعكس ذلك إيجاباً على السلوك والمعاملة فتزداد المحبّة ويسود السلام والتسامح العالم. ومن فوائد القراءة أنها دواء فعّال لحالات نفسية كثيرة؛ فوِفقاً لدراسات وأبحاث عديدة في فوائد القراءة على صعيد الصحّة النفسية، فإن الأشخاص الذين يقرؤون باستمرار أكثر تفاؤلاً وإيجابية وحماساً من الأشخاص الذين لا يقرؤون. وقد تكون القراءة في مجال معيّن علاجاً ناجعاً لبعض حالات الاكتئاب والضغط النفسي.
ومن المعلوم أنّ كثرة المطالعة وتنوّعها من العوامل المعززة للتأليف والكتابة أيضاً؛ فكثير من الكُتّاب والمؤلفين هم بالأساس قرّاء نهِمون لا ينقطعون عن القراءة نهائياً؛ لأنّها تشكّل مصدر إلهامهم وبنات أفكارهم. ولو سألت أي كاتب في أي مجال عن أهم العوامل التي دفعته إلى الكتابة والتأليف لقال دون أي تردد إنّ القراءة المتواصلة من أهم تلك الدوافع. وقد يبدو ذلك منطقياً؛ لأنّ كثرة القراءة تنمّي المهارات اللغوية الضرورية للكتابة أيضاً، فيتهيّأ المرء للكتابة بعد تأثّره بما يقرأ ولمن يقرأ. ولقد عبّر الله سبحانه وتعالى عن هذه العلاقة بين القراءة والكتابة أفضل تعبير على الإطلاق عندما خاطب رسولنا، صلى الله عليه وسلّم، قائلاً: "اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم علّم الإنسان مالم يعلم" (العلق: 3- 5). وبهذه الكلمات البسيطة والبليغة يتبيّن لنا أنه لولا الكتابة لما وصل إلينا شيء من العلوم والمعارف، قديمها وحديثها، ولولا القدرة على القراءة، بأي لغة كانت، لما تشكّلت لدينا تلك العلوم والمعارف أيضاً.
ومن أسرار القراءة وعجائبها أنّها تزيد المرء ظمأً ونهماً كلما كثرت قراءته ومطالعته. والأغرب من هذا أيضاً شعور المرء بقصور علمه وقلّة معارفه كلّما زادت قراءته ومطالعته فيدرك حينها معنى المقولة الإلهية "وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً" (الإسراء: 85). وهذا الشعور الملازم للقرّاء يدفع القرّاء للاستمرار بالقراءة إلى آخر العُمر، وقد يكتشف بعضهم لاسيّما غير المسلمين، ومن المواظبة على القراءة هنا وهناك في مجالات مختلفة، مفهوم الآية الكريمة "وفوق كلّ ذي علمٍ عليم" (يوسُف: 76) فيدخل الإيمان في قلوبهم ويسارعون في اعتناق الإسلام، دين الأنبياء والرسل كافّة. نَعمْ، جُلّ من اعتنق الإسلام، ويعتنقه، في الشرق وفي الغرب، فعل ذلك بعد المطالعة والقراءة التي قادته إلى حقيقة وجود خالق واحد لا شريك له لهذا الكون الواسع، بكل ما فيه من مخلوقات وعجائب، ألا وهو الله لا إله إلا هو. ويغدو هؤلاء سفراء في بلادهم وبين قومهم يدعون للإسلام ويدافعون عن المُسلمين في كلّ محفل ومناسبة. ومن الأشياء التي يمكننا القيام بها لتعزيز القراءة وترغيبها في نفوس الأهل والأقارب والأصدقاء والزملاء تقديم كُتُبٍ لهم هدايا نختارها بعناية بالغة في مناسبات عديدة كالنجاح والتخرّج والخطوبة والزواج والتفوّق والترقية وغيرها من المناسبات الاجتماعية والمهنية المتكررة. ومن يدري لعلّ كتاباً أهديناه لقريب أو صديق كان سبباً لإدخاله إلى عالم القراءة المليء بكل ما هو مفيد ومُسلٍّ!