السنة 16 العدد 148
2021/10/01

الأفلاج والنظام الاجتماعي

دور الأفلاج في تنظيم الحياة الاجتماعية في عمان

 

د. ناصر بن عبدالله الصقري

زهرة بنت سيف العبرية

كرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج


 

كانت الأفلاج قديما – وما زالت – شريان الحياة في المجتمع العماني، تعدى دورها الظاهري كونها مصدرا للري، إلى أدوار أخرى شكلت نظام الحياة في القرية أو المدينة العمانية. فهي إلى جانب كونها نظاما هندسيا أبدع فيه العمانيون، كانت أيضا نظاما اقتصاديا يقوم عليه اقتصاد الحياة قديما في عمان. أما في الجانب الاجتماعي فقد كان للأفلاج دور واضح في تنظيم حياة الناس الاجتماعية؛ وذلك بإرساء العديد من التفاهمات والعادات والنظم الاجتماعية داخل الحارات والقرى والمدن العمانية، فكانت الأفلاج نظاما متكاملا للحياة في مختلف جوانبها في عمان.

ونظرا لما يتطلبه أي اجتماع بشري من تنظيم لشؤون حياتهم؛ فقد كان للفلج دور مهم في تنظيم الحياة الاجتماعية في عمان. بل إنه صاغ حياة الناس وفق نظام اجتماعي راعى كل متطلبات وظروف الحياة في ذلك الوقت. سيسلط هذا المقال الضوء على هذا الجانب موضحا الدور الذي قامت به الأفلاج في تنظيم الحياة الاجتماعية في عمان قديما بإبراز العديد من الجوانب والأمثلة في ذلك.

 

كان للأفلاج دور منذ المراحل التاريخية المبكرة في نشوء المستوطنات البشرية، فقد نشأت بسببها العديد من القرى والمدن في عمان. وشكلت بذلك عاملا (ديمغرافيا) في توزيع السكان في أماكن متناثرة في القرى والمدن. كما أسهمت في توطين الأفراد القائمة حياتهم على التنقل والترحال سعياً للماء والغذاء، إذ أوجدت لهم بيئات متكاملة زراعياً واقتصادياً قائمة على الحِرف والصناعات والأعمال المرتبطة بالزراعة التي تضمن لهم اكتفاء ذاتياً من الغذاء،  وهو ما أدى بطبيعة الحال إلى النمو الحضري لهذه المجتمعات والاستقرار السكاني بها، ومنه نشأت تجمعات قائمة على التعاون والتكاتف خصوصاً في مواسم الحصاد والعمليات التي تسبقها وتتبعها، منها عملية حصاد القمح أو بما يعرف محلياً "بالتصييف"، التي يتشارك فيها أبناء القرية وسط الأهازيج التي تضفي جوا من الحماس للعمل، وشكلت تظاهرة اجتماعية في غاية الروعة والجمال. 

أيضا يبرز دور الفلج في الجانب الاجتماعي منذ المراحل الأولى في شق الفلج وإنشائه، فهو يحتاج إلى جهد كبير وشاق يستلزم التكاتف والتعاون بين المنتفعين، وما يتطلبه بعد ذلك من شق وبناء القنوات المائية التي توصل الفلج إلى المزارع والمناطق التي سيسقسها الفلج. كما يتطلب الفلج  صيانة دورية ومستمرة، لا سيما بعد هطول الأمطار وما قد تحدثه من تلف في قنوات الفلج ومجاريه، وكل ذلك مدعاة لتعزيز التكاتف والتعاون، وتعزيز الروابط الاجتماعية بين أبناء القرية.

بعد ذلك يظهر الجانب الاجتماعي في تخصيص أماكن محددة لاستعمالات خاصة في قنوات الفلج، فمن ذلك أن الفلج بعد ظهوره على سطح الأرض – في حال كان الفلج من الأفلاج العدية -  وهي المنطقة التي تسمى محليا (الشريعة) فيكون مكانا مخصصا للسقيا والارتواء لمياه الشرب؛ وذلك كون الماء نقيا وصافيا ولم يتعرض لأي تلوث أو استخدام بشري. بعد ذلك تمتد قنوات الفلج في الحارات والمزارع، مراعيا العديد من الجوانب الاجتماعية لعل أبرزها تخصيص أماكن للاغتسال والاستحمام للرجال، وأخرى خاصة للنساء. إلى جانب وجود أماكن أخرى تخصص لغسيل الملابس والأواني المنزلية، التي غالبا ما تجتمع النساء فيها لهذا الغرض، وإضافة لذلك تشكل هذه الاجتماعات فرصة لتبادل أخبار القرية، ومعرفة أحوال الناس في القرية وما يستجد من أخبار. أيضا توجد أماكن أخرى مخصصة لغسل الموتى. ومن الجوانب التي تسترعي الانتباه في هذا الجانب أن الفلج تمر قنواته في الأماكن العامة في الحارة أو القرية ولا يسمح بأن يمر بالمساكن الخاصة إلا نادرا، ولكنه يمر بالمساجد لأغراض الاغتسال والوضوء والأماكن العامة الأخرى التي تمت الإشارة إليها سابقا. وهذا يفسر لنا قاعدة مهمة في هذا الجانب وهي أن مياه الأفلاج ملكية عامة لا حقوق للأفراد فيها.

لقد عزز نظام الأفلاج أيضا الإحساس بالمسؤولية المجتمعية لدى أفراد المجتمع؛ وذلك من طريق شعور كل فرد بدوره في الحفاظ على هذا النظام الذي يعد شريان الحياة في المنطقة. فعندما يحتاج الفلج إلى صيانة أو تنظيف يتم الإعلان لذلك بطرق مختلفة، ومن العادات الاجتماعية أن يتم دق الطبول وسيلة لإعلام الناس. وعند الانتهاء من أعمال الصيانة أو التنظيف يعبر الناس عن فرحتهم بذلك بإقامة وليمة يبتهج الناس بالاجتماع عليها، ويعبرون عن فرحتهم في الانتهاء من تلك الأعمال، وهذا بلا شك مدعاة لتقوية الروابط الاجتماعية بين أفراد القرية.

أسهم نظام الأفلاج أيضا في توفير العديد من فرص العمل في القرية، إذ ارتبط الفلج بمجموعة من الوظائف التي تشرف عليه بشكل مباشر، والوظائف الأخرى التي ارتبطت بالنظام الزراعي؛ فمن هذه الوظائف مهمة "وكيل الفلج" المسؤول الأعلى عن الفلج، والعريف "مساعد الوكيل"، وأمين الدفتر أو القابض " المسؤول عن أموال الفلج " ، والبيادير "العاملون في المزارع"، إذ إن لهم حصة من المبالغ المُحصلة للفلج أو من غلّة النخيل. كذلك وفّر نظام الفلج وظائف للنساء على سبيل المثال النساء العاملات في الإشراف على طحن الحبوب باستخدام رحى الماء (أداة بسيطة تتكون من حجرين وتدور باستخدام القوة الهيدروليكية لمياه الفلج وتستعمل لطحن حبوب القمح)، وأجرتهن جزء بسيط من الطحين أو بضع بيسات. ومن الوظائف التي وكلت للنساء أيضاً، وظيفة حراسة الفلج، إذ تقف مجموعة منهن بجانب مشرع الفلج عند تجمع النساء للغسيل والاستحمام لمراقبة الفلج ومنع رمي المخلفات في ماء الفلج. كذلك خصصت مبالغ من دخل الفلج لمجموعة من الرجال القائمين على خدمة الفلج وتنظيفه فيما يسمى بـ "الشحابة" .ومن المهام التي يتشارك بها النساء والرجال مقابل مبالغ زهيدة، وظيفة نقل ماء الشرب من شريعة الفلج للبيوت مقابل أجرة بسيطة يتم الاتفاق عليها.

أما من حيث توزيع حص مياه الأفلاج بين المستفيدين من أهالي القرية، فهي بحد ذاتها تمثل أنموذجا فريدا للتفاهم الاجتماعي بين الأهالي على أسس عادلة في ضبط المواقيت وتقسيمها ممثلة بآلية توزيع مواقيت الري وضمان الحقوق المتعلقة بالماء والأرض. وعلى الرغم من تعقيداتها وعدم توفر أجهزة قياس الوقت في الماضي، إلا أن العمانيين أوجدوا العديد من الطرق لقياس حصص مياه الأفلاج بشكل دقيق، وقد تنوع ذلك ما بين استخدام اللمد (الساعة الشمسية)، وما بين استخدام النجوم في الليل، وأيضا استخدام ما يسمى بالطاسة (عبارة عن إناء نحاسي مثقوب بدرجة معينة يوضع في حوض صغير). ويتم تقسيم الوقت وحصص مياه الأفلاج بناء على مدة دوران الفلج بين المستفيدين، ومناطق الاحتياج. كل ذلك كان يتم في جو من الود والتفاهم والتعاون الذي أوجده الفلج بين أهالي القرية. 

ويرتبط بتوزيع مياه الأفلاج أيضا نظام تداول حصص مياه الفلج بين المستفيدين، وهي عادة تأخذ ثلاثة أشكال، هي: التملك بالشراء أو الإرث والاستقعاد (الاستئجار) والوقف. ويتم بيع وشراء حصص مياه الأفلاج، سواء تلك الحصص التي لها ملكية خاصة لأفراد معينين، أم حصص الماء التي تكون ملكا للفلج ويتم بيعها أو تأجيرها لمدة معينة. ويتم ذلك بطرق تقليدية متعارف عليها وتتخذ أشكالا مختلفة في كل منطقة. 

وفيما يخص الجانب الوقفي، فقد أسهمت أوقاف الأفلاج في إيجاد مجتمعات قائمة على التعاون والتكافل، ومساندة لبعضها بعضا، مما كان له أطيب الأثر في تعزيز التكافل الاجتماعي بين أبناء القرية. وهناك أمثلة عديدة لأوقاف الأفلاج يمكن الرجوع إليها في مقال خاص عن وقف الأفلاج في العدد 143 من مجلة إشراقة للسنة 16.  

وسنختم هذا المقال بما أوردته الكاتبة الفرنسية "جينيفر بيدوشا" في كتابها (الماء صاحب السلطان) إذ قالت: "الماء هو الذي يتحدث أحسن عن المجتمع، فالمجتمع يحكي أولا وقبل شيء عن الماء، كما أنه يتحدث عن نفسه من طريق الماء".

 

المراجع: 

  • ولكنسون، جى. رسى. الأفلاج ووسائل الري في عمان، ترجمة: محمد أمين عبدالله، 3، وزارة التراث والثقافة، مسقط: 2003م.

  • السليمي، محفوظ بن عبدالله. تنظيم وإدارة الأفلاج في سلطنة عمان، معهد الإدارة العامة، مسقط: 1997م.

  • الحضرمي، مسعود بن سعيد؛ العزيزي، أحمد بن عبدالله. نظام تقسيم مياه الأفلاج عند العمانيين، وزارة التراث والثقافة، مسقط: 2018م.

  • الحجري، محمد بن ناصر. نظام الأفلاج في عمان ودوره في التنمية، مسقط: 1998م.

إرسال تعليق عن هذه المقالة