الأمية وأثرها على الصحة النفسية للفرد والمجتمع
الدكتورة/ عبير فاروق البدري
أستاذ مساعد الصحة النفسية
استشاري الصحة النفسية والعلاج النفسي
مديرة مركز الإرشاد الطلابي بجامعة نزوى
abeerfarouk@unozwa.edu.om
عزيزي القارئ
كما تعودنا في كل رحلة فكرية بحثية، أن نبحر معا بسفينة النجاة ونجدف بمجداف العلم؛ حتى نصل إلى المعرفة التي بدورها تنير الدرب وتملأ العقل بهجة وثراء. اليوم سنبحر معا في معنى الأمية، وكيف أن العالم يحتفل أجمع في يوم 8 سبتمبر من كل عام بمحو الأمية، وكيف أن للأمية أثرا سلبيا في نفس الإنسان الذي لا يعرف القراءة والكتابة، بل حتى سنوضح أن هناك فرقا كبيرا بين الجهل والأمية؛ إذ ينعت أحدهم شخصا بالجاهل، ويختلط عليه المعنى والمفهوم، ويتحول الناعت إلى منعوت بالجهل هو الآخر، وهل نحن في عالم أمية القراءة والكتابة فقط؟ وهل هناك أنواع وأشكال متعددة للأمية؛ حتى لمن يتقنون القراءة والكتابة؟!
والآن يا صديقي هيا لنبحر معا في بحر الإثراء المعرفي ...
إن الأمية تعني: "عدم قدرة الشخص على القراءة والكتابة في سن معينة وبأي لغة كانت"، ولقد أوصى المؤتمر الإقليمي لتخطيط وتنظيم برامج محو الأمية في العالم العربي في عام 1964م الدول العربية بتبني مفهوم" المستوى الوظيفي" في جهود محاربة الأمية، إذ يُعرف الأمي بهذا المفهوم أنه: "كل شخص تجاوز سن العاشرة ولم يكن منتظما في المدرسة، ولم يصل إلى المستوى الوظيفي في القراءة والكتابة".
كما أن محو الأمية بناء على تعريف دائرة المعارف البريطانية: "معرفة الشخص لكل من القراءة والكتابة، وقدرته على التواصل مع الأشخاص الآخرين؛ وذلك عبر استخدام العلامات أو الرموز المكتوبة والمطبوعة أو الإلكترونية، وهي بشكل عام تمثّل ما يُسمي لغة التواصل"، ويستهدف محو الأمية التواصل الفعال لفهم ما يدور في الوسط المحيط بالمتعلم".
يأتي اليوم العالمي لمحو الأمية في الثامن من سبتمبر، ويحتفل العالم أجمع باليوم العالمي لمحو الأمية بتسليط الضوء على أهمية القراءة والكتابة لكل إنسان في كافة المجتمعات الإنسانية، إذ إن انتشار الأمية ينعكس بدوره سلبا على النمو النفسي للأفراد والمجتمعات، وكذلك النمو الاقتصادي، ولقد أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة اليونسكو في 24 يناير 2019م بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للتعليم في تقريرها أن هناك حوالي 617 مليون طفل ومراهق على مستوى العالم لا يعرفون القراءة والحساب، كما ذكرت ماريا بومر - رئيسة اللجنة الألمانية باليونسكو، أنه لا يزال المستوى التعليمي للأبوين يمثل عاملا حاسما للوصول إلى مؤهل التحاق الأبناء بالجامعة".
الآثار الناجمة عن الأمية وتأثيرها السلبي على الصحة النفسية للفرد والمجتمع
إن للأمية أثرا سلبيا على كافة المستويات لكل فرد لا يعرف القراءة والكتابة والحساب، إذ إن الإنسان الأمي يتعامل مع ذاته بالدونية، ومن المحتمل أن يتسم بالحساسية العالية التي تجعله يرى كل من حوله من المتعلمين أنهم أفضل منه، بل ويتخيل أنهم ينظرون إليه بالنظرة الدونية، كما أنه يتجنب المشاركات الاجتماعية على المستوى الشخصي والعام، ومن الممكن أن تتسبب الأمية في بعض من السلوكيات السلبية أو المضادة للمجتمع.
كما أن الأمية تتسبب في:
-
انعدام الثقة بالنفس.
-
عدم الثقة في الآخرين.
-
عدم القدرة على اتباع تعليمات الأمن الصناعي والصحة والسلامة.
-
عدم القدرة على قراءة اللافتات المهمة لاتجاه السير؛ مما يسهم في إحراج الأمي عند السؤال في كل مرة.
-
عدم القدرة على التعلم في المواقف الحيوية المتعددة.
-
عدم القدرة على التعلم من النماذج المطروحة في وسائل الإعلام المقروءة والكتب.
-
عدم التمتع بالوعي الكافي للذهاب للطبيب عند الحاجة، وبدلا من ذلك التوجه إلى الدجالين والمشعوذين ومن يطلقون على أنفسهم معالجين روحانيين.
-
عدم تقدم ورقي وحضارة المجتمعات؛ إذ إن العلم سلاح ونور وحياة.
-
تؤثر أمية الوالدين وبخاصة الأم على تعليم الأبناء غالباً.
-
عدم استثمار واستغلال الموارد البيئية في المجتمعات المحلية.
-
الإسهام في نشر البطالة والفقر.
يتجلى الفرق بين الجهل والأمية في قوله تعالى في كتابه العزيز: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا على مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (الحجرات: 6).
لقد تناولنا عزيزي القارئ معنى الأمية، والآن دعنا نرى الفرق بين الأمية والجهل أو الجهالة؛ حتى لا يتحول الناعت بالمنعوت جهلاً، ففي معجم (المعاني الجامع) الجهل (اسم) صوت غليان القدر، وفي اصطلاح (أهل الكلام): اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه، الجَهْلُ البَسِيطُ: عَدَمُ الْمَعْرِفَةِ بِالشَّيْءِ، الجَهْلُ الْمُرَكَّبُ: الاِعْتِقَادُ الجَازِمُ بِمَا لاَ يَتَّفِقُ مَعَ الحَقِيقَةِ، إِذْ يَعْتَقِدُ الرَّجُلُ عَاِرفاً عِلْماً وَهُوَ عَكْسُ ذَلِك والجَهْلُ البسيط: تعبيرٌ أُطلِقَ على من يُسَلِّم بجهله، والجَهْلُ المرَكَّب: تعبيرٌ أُطلِقَ على من لا يسلِّم بجهله، ويدَّعى ما لا يعلم.
أمثلة على تعريف معنى الجهل في المعجم الوسيط:
-
جهل بحقيقة الشيء، لم يعلم به، لم يعرفه.
-
كثير من الناس يجهلون أمورَ دينهم.
-
جهِل بمعرفة القانون.
وهكذا عزيزي القارئ
هناك فرق ملحوظ بين الجهل بالشيء وعدم معرفته والأمية؛ وعليه لا ينبغي أن نطلق على الأمي جاهل؛ لأن هذا نعت يعد صفة مطلقة، إذ إن الأمي قد يعلم كثيرا في الحياة؛ لكنه يجهل القراءة والكتابة فقط، وقد يكون متسرب من التعليم في الصغر نظرا لظروف (نفسية، اقتصادية، أو اجتماعية) تسببت في ذلك، وقد يكون لديه تاريخ من المعاناة في الصغر من صعوبات التعلم الأكاديمية، أو الدسلكسيا Dyslexia، وهي كلمة يونانية تعني صعوبة القراءة أو عسر القراءة،وهناك العديد من التعريفات التي وصفت اضطراب الديسلكسيا، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: "أنه اضطراب في القراءة ذي منشأ عصبي خارج نطاق أي إعاقة عقلية أو حسية وغير مرتبط بعوامل ثقافية أو بيئية أو بعدم الرغبة في الدراسة، ويكون معدل الذكاء لدى الشخص الذي يعاني من هذا الاضطراب عاديا أو فوق العادي".
كما أن هناك من الأسباب ما لا يمكن حصره في عدم الإلمام بالكتابة والقراءة ومعرفة الحساب، وقد يتفرع إلى أن يصل إلى الكثير من التخصصات منها: (النفسية والعصبية، المعرفية السلوكية، الأسرية، الاجتماعية، الثقافية،،،،،،،، الخ)، وهو أمر كبير يطول شرحه، قد نتناوله في وقت لاحق، ونظرا للتطور التكنولوجي السريع ونحن في عصر المعلوماتية يهتم كل من: الهيئات والحكومات على المستوى المحلي والعالمي بمحو الأمية؛ إذ اتسع المفهوم الآن ولم يعد فقط أمية القراءة والكتابة والحساب، بل أن هناك أمية (أبجدية، الكترونية، رقمية، أمية صحية، أمية وظيفية، ثقافية، معرفية،،، الخ)، ونحن في عصر الذكاء الاصطناعي والثورة الرقمية، كم تتعدد أنواع الأمية ومفاهيمها حتى لمن يعرفون القراءة والكتابة والحساب، وأصبح على الهيئات والمؤسسات المعنية بتعليم الكبار، والحكومات عبء اقتصادي كبير مع كل تطور تكنولوجي علمي جديد، كان الله في عون هذا الكوكب، من كل جديد قادم.
أوصيكم ونفسي بالإصرار على العلم والتعلم، والتطور العلمي والمهني، وإفادة كل من حولنا على قدر المستطاع؛ كل في محفله العلمي يسهم في نشأة وتطور المجتمعات، تقبل الله منا ومنكم كل سعي وجهود مثمرة تثري المعرفة والعقل الإنساني.