ثقافة نشر اللغة العربية في أنحاء العالم
د.بشير راشد الزعبي
أستاذ محاضر بمعهد الضاد
لا تزال العربية لغةً باقيةً ما بقي ديننا الحنيف، لارتباطه الوثيق بها، فلا خوفَ على العربية أبداً في أمر بقائها واستمرارها، لكنّ انتشارها يبقى رهن ما يعُمُّ من أحداث مرتبطة بالصراع الحضاري القائم بين الأمم والشعوب، فالعربية كانت أكثر اللغات انتشاراً في العالم قبل بضع مئات من السنين، في زمن كانت اللغات الأوروبية لا يعرفها إلا أهلها، فقلّ تأثير العربية بسبب ضعف أصحابها وعظُمَ تأثير لغات مثل الإنجليزية والفرنسية بسبب قوة أصحابها، بل أصبحت هذه اللغات تنافس العربية لدى الشعوب الإسلامية، حتى إن بعض الشعوب اتّخذت من حروف هذه اللغات وسيلة لرسم لغتها، وتركت الرسم العربي الذي كانت تستخدمه مثل التركية والمالاوية، وبينما أصبحت العربية في حال لا تُحسدُ عليه كانت بعض الشعوب تُجدِّدُ لغاتها القديمة الميتة حتى أعادت استخدامها اليوم، كاللغة العِبرِيّة وكل هذا بسبب قوة هذه الشعوب وعِظمِ تأثيرها.
وقد واجهت العربية، ولا تزال تواجه إلى اليوم، تحدياتٍ عديدةً تحولُ دون انتشارها وتوسُّعِها، بل تسعى إلى تحجيمها ووأدها في دارها بفِعل أثر المستعمرين، وبفعل دورِ بعض أبنائها الذين لا يملكون أيَّ شعور تجاه هذه اللغة العظيمة.
ومن أهم التحديات التي تواجه العربية وجود أزمةٍ حضارية ثقافية في نفوس أبنائها أمام الزحف اللغوي الغربي الداهم، واستسلامهم في مجال العلوم للغات الأجنبية، بحيث قد تكوَّنت في العالم العربي جبهةٌ عنيدة تجاهد للإبقاء على العربية بمعزل عن مجال العلوم والتكنولوجيا، فما دامت صفوة المشتغلين بالعلوم تعرف الإنجليزية أو الفرنسية مثلاً، فلا بأس في عزل العربية، بل وتركها، فأصبحت هذه اللغات تزاحمها وتهددها في عقر دارها،
ومن التحديات أيضاً: خطر اللهجات العامية المحلية التي ينادي باستخدامها بعض المتأثرين بالثقافة الغربية، والتي بدأت تجد مكانا لها الآن في العالم العربي، حيث يرى بعض العلماء أن خطراً داخلياً عظيما يواجه اللغة العربية هو الأشد وقعاً والأكثر تأثيراً يتمثّلُ بالدعوات التي يُردِّدُها البعض إلى تبنّي العامية، ونبذ الإعراب وترك الحرف العربي.
ويرى بعض المهتمين أن التحديات التي تواجه العربية لا تتمثل في حشود الألفاظ والمصطلحات الوافدة من عالم الحضارة المعاصرة إلى عالمها، بل في وجود أزمة حضارية ثقافية نفسية لدى أبنائها أمام هذا الزحف اللغوي الداهم، واستسلامهم في مجال العلوم الحديثة للغات الأجنبية.
والذي يُرجى – اليومَ - من أهل العربية والغيورين عليها إبداء ردة فعل مُعاكسة للذود عن هذه اللغة الشريفة، بنشرها وزيادة تأثيرها على المستوى الدولي، ومن أهم الوسائل التي تساعد في ذلك: اعتبار العربية لغة تواصل عالمية، فيتم إنشاء مراكز تعليمية بمناهج ومقررات معاصرة ومبسطة، شأنها شأن مراكز تعلم اللغة الإنجليزية والفرنسية وغيرها. ومن ذلك: اهتمام سفارات الدول العربية بها أينما وُجِدت ودعمُها، والسعي إلى نشرها. ومن ذلك العناية تطوير هذه اللغة وجعلها لغة عظيمة تتواكب مع الحضارة والإبداع والتقنية المعلوماتية. ولا شكَّ أن هذا يتطلب ميزانيات وخططاً وإيماناً بالمشروع، فيلزمه دعم حكومات ومؤسسات حريصة على تحقيق ذلك الهدف.
ومن أهم هذه الوسائل: نقل الوعي باللغة من مستوى النخبة إلى مستوى الجماهير، فيصبح العربيُّ المغترب – أياً كان مستواه الثقافي أو تخصصه العلمي – سبباً في نشر هذه اللغة العظيمة.
ومن ذلك أيضاً: استثمار وسائل الإعلام خاصة الفضائية، ويتم ذلك بتنمية الكفايات اللغوية لدى المذيعين ومقدمي البرامج، وتنقية ما يُبثُّ من شوائب الأخطاء، اللغوي، وربط المؤسَّسات الصحفية بمجامع اللُّغة العربيَّة، عن طريق مكتب اتِّصال لغوي يتولَّى تعميم ما يستجدُّ من قرارات المجامع اللغوية، وتقديم دورات خاصَّة بالصحفيِّين تركِّز على الأخطاء اللغوية الشائعة وردِّها إلى الصواب، وكذلك العناية بالترجمة السليمة.
ومِمّا لا شكَّ فيه أنَّ تبنيَ ثقافة نشر العربية يحتاج إلى تبنّي فِكرٍ حضاري أصيل قائم على تعظيم هذه اللغة، لا بُدَّ أن تتظافر فيه جهود الإنسان والمؤسسات، الإنسان الغيور عربياً كان أو غير عربي، والمؤسسات حكومية أو أهلية، ولا بُدَّ أن عودة العربية لمكانتها السابقة يحتاج إلى جهد كبير، فعَسى أن يعيَ القائمون على هذا الأمر أهميته، فيستعدوا له كما يجب ويُولوه الاهتمام المُستحقّ.