السنة 16 العدد 146
2021/08/01

منظمة الفلج والعلاقة الاجتماعية والجغرافية العمانية

 


 

 

ترجمة: محمد بن علي الإسماعيلي

 

يدرس كتاب "Water and Tribal Settlement in South-east Arabia: A Study of the Aflāj of Oman" وترجمته بلغة الضاد: "المستوطنات المائية والقبلية في جنوب شرق شبه الجزيرة العربية: دراسة لأفلاج عُمان"، العلاقة التقليدية الموجودة في عُمان بين الأرض والتنظيم الاجتماعي؛ بما في ذلك ما تناولته في هذه المقالة عن أهمية منظمة الفلج، ودورها في استغلال تقنيات المياه، وتأثيرها المتعامد في الأيديولوجية السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وقد أوضح المؤلف جون كارفن ويلكنسون John C Wilkinson، وهو باحث وبروفيسور بريطاني متخصص في الدراسات العمانية وأقاليمها وجغرافيتها وحضورها العربي والإقليمي والعالمي منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، إذ يعد مرجعاً مهماً في مجال الدراسات العمانية وتاريخ المنطقة، أوضح تطور منظمة الفلج في عُمان وقنواتها المائية؛ متأثرةً بالمرجعية الاجتماعية والقبلية القوية والدور الإسلامي والجغرافيا البشرية العمانية؛ وذلك في تحسين وترتيب هذه المنظومة الحيوية كما سيبينه المقال الذي بين أيدينا.  

لقد فرض نظام الري الرائع (القناة / الفلج) خصائص معينة على المجتمعات التابعة له، فمن الواضح أن اهتمامات سكان تلك القرى المعزولة الذين يعيشون في الصحراء على خط حياة رقيق من المياه الجوفية سوف يُنتج تنظيمًا اجتماعيًا مختلفًا تمامًا عن ذلك، فعلى سبيل المثال، أوجد هؤلاء السكّان من أرض البئر الواحد منطقة زراعية واحدة على أقل تقدير. إنَ المتتبع سيجد أن هذه الترتيبات والتنظيمات الاجتماعية ميّزت الاستيطان العماني عن غيره، إذ كانت مختلفة بعض الشيء عن تلك الموجودة في مناطق أخرى من الشرق الأوسط وغيره، التي يتم فيها تنظيم استيطان المجتمع باستغلال الموارد المائية مثل: النهر أو الفيضانات الجارفة سريعة الزوال.

مع ذلك، ورغم أن المتطلبات الفيزيائية للقناة أو الفلج تمثل العديد من الجوانب المهمة للتنظيمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في عُمان، إلا أن الحقيقة تجعلنا ندرك أن هذه الميزات لها القليل من السمات المشتركة مع التنظيمات الاجتماعية في مناطق الاستيطان الأخرى المماثلة؛ وينطبق هذا على وجه الخصوص على بلاد فارس المجاورة لعُمان، الموطن الحقيقي للقناة. ولفهم سبب وجود مثل هذه الاختلافات، من الضروري أولاً أن ندرك كيفية تنظيم الأفلاج وقنواتها في عُمان، ابتداءً بإنشاء مخطط لمستوطنة الفلج وموقعه، ثم مبادئ المساهمة في المياه والطريقة التي يتم بها ترتيب تمويل الفلج وصيانته، وأخيراً تقسيم العمل والمسؤوليات الاجتماعية والاقتصادية في نظام الري من طريق قنوات الأفلاج.

وتعد أساليب تنظيم الري عبر قنوات الأفلاج في وسط عُمان أكثر تنظيما وعناية بكثير مما هو عليه الحال في شمالها، وقد أدى هذا الاهتمام إلى إحداث تأثيرات في رسم قنوات الفلج باختلاف تخطيط البلاد والقرية بشكل كبير من مكان لآخر في شتى ربوع عُمان. ونجد غالباً في رسم الفلج أن الجزء العلوي منه يصل أولاً إلى السطح، الذي توجد به فتحة يمكن سحب مياه الشرب مباشرةً منها، تُسمى: "الشريعة"، وهذا الجزء من الفلج يُعد أول مكان مسموح فيه استعمال مياهه، والوصول إليه مُتاح ومجاني للجميع. ومن هنا تجري المياه في قناة جيدة البناء باتجاه القرية، وغالبًا ما يكون هذا القسم مغطى جزئيًا، خصوصاً في الأفلاج الكبيرة، التي قد يحدث فيها الانقسام الأول لمياه الفلج أعلى تياره الرئيس، ويطلق عليه: "القائد، العميد"، ولكن في الفلج الصغير لا يحدث التقسيم حتى تصل المياه إلى المنطقة الزراعية.

ونلاحظ أن موقع المنطقة السكنية نفسها أو كما يطلق عليها العمانيون: "البلد" يختلف بعضها عن موقع شريعة الفلج، لكنّ مزارعها غالبًا ما تكون قريبة من نهاية المنبع، أما في تلك الحالات التي يتدفق فيها الفلج فعليًا عبر المنطقة المبنية السكنية، فيتم عادةً فيها تغذية القناة بعددٍ من نقاط الوصول الخاصة؛ لترتيب الاستعمال المنزلي لماء الفلج، الذي يمكن توفير التيار الرئيس من أجله للمرافق العامة، أهمها: أولاً مياه الشرب، ثم مرافق الاستحمام (مع فصل أقسام النساء بوضوح عن أقسام الرجال)، وأخيرًا مكان تغسيل الموتى. وفي المنطقة السكنية في عُمان لا يُسمح بتحويل الفلج للأغراض الخاصة أو العامة، ولا يُسمح بإنشاء الفلج عادةً تحت المباني، وقد يحدث استثناء أحيانًا في حال وجود حصن كبير، أو قد يكون للمساجد أيضًا وصول مباشر إلى إمدادات مياه الفلج لغرض الوضوء.

يتضح من هذا الوصف الموجز أن مياه الفلج في عُمان تعد ملكية جماعية، بل لا يوجد فرد له حقوق خاصة فيه، وسحب الماء للأغراض المنزلية وسقي الحيوانات متاح للجميع؛ ونظرًا لعدم السماح بتحويل مسار الفلج، غالبًا ما يتم حفر الآبار لتوفير مزيدٍ من المصادر التي يمكن الوصول إليها وتوفيرها للمياه المنزلية، وفي أحيانٍ كثيرة يكون للمساجد أيضًا بئر خاص بها. ومع ذلك، فإن هذه الآبار تخدم أيضًا غرضًا آخر، وهو توفير مصدر بديل للمياه في الموقع لأغراض دفاعية. ومهما كانت القرية محصنة بشكل جيد، فمن الواضح أن الفلج سيكون نقطة لا تُقاوم في دفاعاتها؛ حتى تلك الحصون الكبيرة، وعلى الرغم من إمدادات المياه البديلة، إلا أنه قد يتم تقليصها في نهاية المطاف من طريق قطع إمدادات الفلج الرئيسة، ونجد ذلك جليا ينطبق في دراسة لتاريخ قلعة الحزم التي شيدها اليعاربة لسهولة الوصول للمياه والتحكم بها.

في الواقع، غالبًا ما يكون التمكن من الروافد العليا لقنوات الفلج هو المفتاح للسيطرة على الاضطرابات الحاصلة بين السكان في المستوطنات التي يزودونها بمياه الأفلاج؛ ولهذا السبب، على سبيل المثال، قام سالم بن سويلم، المولى القوي الذي لا يحظى بشعبية لدى السلطان فيصل بن تركي (حكم بين عامي 1888 – 1913م) ببناء حصن في منطقة قارّوت السفلى؛ لأنه من هناك كان قادراً على قيادة أحد مغذيات قناة إزكي؛ لذا جعل بني ريام -الذين يعيشون في هذه المستوطنة المدافعة بشدة- تحت سيطرة الحكومة. ومنذ أن انتقل الحصن في وقت لاحق إلى أيدي بني رواحة، الذين كانوا أعداءً لبني ريام في تلك الفترة، تقاتلوا على حيازته، حتى أصبح الحصن مستوطنًا لهم. ولم يتم تدمير هذا الحصن إلا بعد استعادة الإمامة في عام 1913م بأمر من الإمام عبد الله بن حميد السالمي؛ لأنه مثّل تهديدًا دائمًا بين المسلمين.

 وتمثل قناة الفلج شريان حياة للمجتمع؛ لذا تميل بعض الأعراف إلى الالتزام بها في الحروب المحلية، وبعض الأحيان يعد قطع الفلج عملا مقبولا، في حين أن القصاص الحكومي قد يصل إلى حد قطع النخيل. إن التقارير عن مثل هذه الأعمال في التاريخ هي مؤشرات واضحة على أن الوضع السياسي قد خرج عن السيطرة آنذاك بشكل خطير، في حين أن أسوأ التجاوزات غالبًا ما تكون من عمل الأجانب. وفي العادة، لا يستمر القتال القبلي زمنا طويلا؛ لذا فإن تكتيكات تقليص الأعداء بحصار طويل، وقطع إمدادات المياه عنهم حتى تموت النخيل، لا يعد سمة مميزة. ومع ذلك، تظهر هنا أهمية وجود مصدر بديل لإمدادات المياه، عندها قد تبرز أهمية الآبار ضرورة ملحةً لبقاء سكان مجتمع الفلج على قيد الحياة.

 

 

من الواضح أن عدد أقسام قناة المياه الأولية لأغراض الري يعتمد على حجم التدفق في الفلج، وعندما يكون هناك تباين كبير في التدفق الأساسي، تُفتح بعض قنوات هذه الشبكة الأولية فقط عندما تكون المياه وفيرة. كما أن الأرض التي تُسقى بمثل هذه القنوات، ستكون لاستعمالات: (البرسيم أو الخضار)؛ بدلاً من جني محاصيل الشجر التي سوف تنمو.

 

وتتفرع من القنوات الأساسية لشبكة الري الرئيسة الأفواج التي تغذي المناطق المزروعة، أو كما يطلق عليها العمانيون: (المال، الضاحية، المقصورة)، وهذه بدورها تنقسم إلى قنوات أصغر تسقي قطع الأرضين الفردية أو كما تُسمى (الجلبة). وتقع مسؤولية صيانة الشبكة الرئيسة للقنوات الأساسية على عاتق منظمة الفلج، بينما يتحمل المُلَّاك الأفراد مسؤولية قنوات المزارع. تمامًا كما يجب تنظيف الجزء الموجود تحت الأرض من القناة (شحابة الفلج)، وتعني تنظيف الجزء السفلي منه، كذلك يجب الحفاظ على القنوات المفتوحة في حالة جيدة قابلة للإصلاح. ويمكن أن يصل فقدان المياه عبر عمليتي الترشيح والتبخر في فلج محاذٍ بشكل سيئ أو انسداده إلى ضعف ذلك في نظام مصمم بشكل صحيح، وهذا لا يعني انخفاض حجم المياه التي يتم توفيرها للمزارع الواقعة عند مصب الفلج فقط؛ بل قد يؤدي أيضًا إلى زيادة ملوحتها.

 

ويدرك العمانيون تمامًا الحاجة إلى الحفاظ على قنوات الأفلاج في حالة جيدة من الإصلاحات التي تلحقها بشكل دوري، كما هو الحال في القصة القصيرة الآتية التي حدثت في فترة الإمامة الأولى؛ إذ إنه في ذات يوم بينما كان الإمام غسان بن عبد الله اليحمدي يمشي في نزوى، لاحظ أن الطحلب بدأ ينمو في إحدى قنوات الري الرئيسة، وإدراكاً منه أن هذا كان مؤشرا على تغيرات ضارة قرر اكتشاف ذلك بنفسه؛ وذلك بالتظاهر برغبته في الحصول على قرض من أجل إقامة حرب ضد "الهند"؛ فتمكن الإمام من التعرف على الجماعات المختلفة التي قد تكون مسؤولة عن إهمال قنوات المياه. وقد اكتشف في النهاية أن فئتي التُجَّار وأصحاب الأرضين (كان يطلق على التُجَّار في الغالب وصف: "صِغار المزارعين") لم يكونوا مسؤولين عن هذا الوضع المؤسف، ولكن منظمة الفلج هي المسؤولة عن هذه الحالة المؤسفة؛ لذا فقد تغيّر الوضع، فأصبح واضحاً لدى الجميع أن تدفق المياه في القناة قد زاد. كما نقدر أهمية تدعيم قنوات الأفلاج؛ لذلك نجده من بين الأعمال المهمة التي اشتغل عليها أبو زيد عبد الله بن محمد الريامي في بهلا، إذ كان واليًا عليها مدة ثلاثين عامًا نيابة عن أئمة القرن العشرين، فقد لحقت تلك الأشغال عددًا من التحسينات الرئيسة لثلاث من قنواته الخمس، وشملت هذه التحسينات تدعيم جميع فروع أئمة القرن العشرين، بما فيها فلج الميتا (الميثاء)، الذي يدلل على النظام الهندسي الفريد للأفلاج العماني، ويمتد من "حي الخضر إلى أسوار بهلاء السفلى".

 

ومع ذلك، يجب أن نلاحظ في كل الأحوال أنه لا يجوز لمنظمة الفلج استخدام أموالها لتدعيم القنوات الجانبية داخل الأرضين الزراعية؛ تحديداً ما لم يوافق المساهمون على هذا العمل، وفي هذا الحال يجب القيام بأعمال تحسينات جميع قنوات الأفلاج، دون الاقتصار على بعضها. كما يجب معرفة أن أنظمة وطرق توزيع مياه الفلج تتسم في عُمان بالتعقيد، وذلك بسبب التوليفات المختلفة في أساليب استعمال كل قرية لهذا النظام المائي، وأيضا لوجود تنوّع في استعمال المصطلحات في مجال منظومة الفلج بين منطقة وأخرى في عُمان؛ لذا عمِد العاملون الميدانيون إلى فحص المبادئ الأساسية التي تقوم عليها كل قرية عمانية لتطوير نظامها في تنظيم المياه، وحلّ مشكلات تقسيم إمدادات المياه بشكل عادل بين عدد كبير من المساهمين؛ للتأكد من كفاءة عمل نظام الري والحفاظ عليه وسط منظومة اجتماعية تعتمد عليه في مختلف شؤونها الحيوية اليومية.

 

إرسال تعليق عن هذه المقالة