"ونفس وما سواها"
د/ عبير فاروق البدري
عزيزي القارئ الكريم،
مرحباً بك في عالم نقي ليس به ملوثات أو مهلوسات عقلية، وأهلا بك عضواً فعالاً في مجتمعك حيث تبنى المجتمعات بأيدي أصحاب العقول الراقية.
إننا في تاريخ 26 يونيو من كل عام نحتفل مع العالم أجمع باليوم العالمي لمكافحة المخدرات، لم يكن احتفالا بالمعنى الحرفي، بل هو تاريخ للتوعية وإلقاء الضوء على الآثار الناجمة عن تعاطي المخدرات ومحاربة الجريمة، وتحليل الوضع الراهن بحثاً عن أسباب الإدمان على تعاطي المخدرات والاتجار فيها، وسعيا إلى حصر نسب الانتشار لمواجهتها والحد منها عالمياً.
ولقد جاء في كتاب الله العزيز عن النفس ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾، (الشمس: 7-10).
ونحن معاً اليوم بصدد الحديث عن كل من دعته نفسه ليطرق أبواب الجحيم، وكل من ذهب إلى النهاية مسرعا بآلام نفسية وعضوية جسيمة برغبة منه؛ دون الانتباه أو الالتفات للمستقبل المشرق، فهناك العديد من الذين تعثروا ثم أكملوا الطريق بنجاح، إلا أن السبب الرئيس للتعاطي يكمن في الأنفس الضعيفة، التي لا ملامح لشخصيتها ولا كيان، والتي لا تقوى على المواجهة، وتتهرب من مسؤولياتها، بل وعلى العكس تلقي باللوم على المحيطين، والظروف.
إن القوة الداخلية تكمن في الإيمان بالله ثم التوكل عليه حقاً وصدقاً ويقيناً، ودائماً يؤتي اليقين ثماره عند السعي للحصول على ما نريد، فكم تذهلنا قصص الناجحين لمن لا يملكون أي حيلة للنجاح، لمن لا تتوفر لديهم الأدوات أو الفرص لإثبات وجودهم بين صفوف الناجحين في مجتمعاتهم، لكنهم يملكون أعظم سلاح هو الإيمان، ثم التوكل، ثم ابتكار الطرائق التي تؤدي للنجاح، تلك المثابرة والعزيمة، أوصلت العديد من العلماء لنظرياتهم وأبحاثهم وإسهاماتهم العلمية التي قدمت كثيرا في بناء المجتمعات ولا تزال.
إن الإنسان إذا أخطأ سرعان ما يكتشف خطأه بنفسه، وهذا ما يسمى بالفطرة، إن فطرة الإنسان السليمة تتوافق مع منهج الله سبحانه وتعالى، فالنفس حينما تنحرف عن منهج الله بوعي أو بغير وعي، فإن هذه النفس سرعان ما ينكشف أمرها، فمهما حاول الإنسان خداع الآخرين أو إخفاء هذا الانحراف عنهم، يظهر ذلك الانحراف جلياً في بعض من سلوكياته أو أسلوب حياته، كما يتضح في الطرق التي يتبعها للحصول على حاجاته الفسيولوجية والنفسية، وهذا يغيب عن أذهان كثيرين ممن يتعاطون المواد المخدرة عند قرارهم بتناول الجرعة الأولى.
وتعد المواد المخدرة مواداً كيميائية تؤثر سلبا على الدماغ والجهاز العصبي، إذ تتسبب في العديد من الاضطرابات النفسية والشخصية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: الهذيان والهلاوس السمعية والبصرية، إذ تعد من جملة الأعراض الفصامية التي تظل مع المتعاطي، حتى بعد تلقيه العلاج لفترات طويلة.
كما يلازم المدمن الإحساس بالخوف والتوتر وبعض من اضطرابات القلق، إضافة إلى بعض السلوكيات الانتقامية من كل من حوله من الذين لا يتعاطون المخدرات، كما يضطر غالباً للسرقة والكذب والعنف، ويلازمه الإحساس بالاضطهاد، الذي يبرر به بعد ذلك كل سلوكياته العنيفة غير السوية.
وقد يصاب بجنون العظمة أو الهوس والاكتئاب، فيقدم على الانتحار للتخلص من معاناته مراراً وتكراراً على المستوى العقلي والنفسي، أما على المستوى الجسدي فله مظاهر عديدة تنتهي بالإصابة بسرطان الجيوب الأنفية والرئة والمعدة وفيروس سي الكبدي الوبائي والإيدز عند مشاركة أدوات التعاطي: الحقن الوريدي، وخلافه …
وقد يتصور بعضهم أن بمجرد حصول أحدهم على جرعة من المخدرات أيّا كان نوعها أو اسمها ينتهي به الحال للاكتفاء بهذه الجرعة، بل على العكس تماماً يبدأ المتعاطي في الصعود على سلم التزايد للجرعات في كل مرة، حتى يحصل على أكبر قدر ممكن من الشعور بالسعادة والقضاء وهمياً على أي إحساس بالألم النفسي، وتعد هرمونات السعادة المسؤولة عن العديد من المكافآت النفسية بشكل طبيعي، من أهمها:
-
السيروتونين: Serotonin، وهو هرمون يساعد على تعديل الحالة المزاجية ومنع الاكتئاب، كما أنه يساعد الإنسان على الشعور بالثقة في النفس.
-
الدوبامين: Dopamine، وهو المسؤول عن الشعور بالمكافآت بعد النجاح.
-
الأوكسيتوسين: Oxytocin، وهو هرمون من هرمونات الحب والإحساس بمعنى الحياة.
-
الأندروفين: Endorphins، ويسمى بـ المورفين الطبيعي الذي يصنع بواسطة جسم الإنسان، إذ يشبه في تركيبته المواد الأفيونية، التي تقضي على الشعور بالألم، فمن الطبيعي الحصول على كل هذه الهرمونات طبيعيا، ومن مواد طبيعية و عادات صحية وغذائية سليمة.
ولكن عندما يتعاطى أحدهم المخدرات يتم تحفيز إنتاج هذه الهرمونات جملة واحدة، حتى يشعر المدمن بالسعادة الزائفة التي يسعى للحصول عليها عند زيادة جرعات التعاطي، بالصعود على سلم الهزيمة والنهاية البائسة دون جدوى، فبدلا من حصوله على السعادة الزائفة تجتمع كل هذه الهرمونات الطبيعية لتتكاتف وتتحد وتتآمر على وهمه الكاذب معاً؛ لتجعله يعيش بين صراعات ذهانية، ثم تقضي على دماغه المسكين تماماً.
ولا أخفيك سراً عزيزي القارئ ...
عندما تنتهي أعراض انسحاب المخدرات من المتعافين من الذين تلقوا العلاج ومن الذين أسعدني الحظ في أن أكون ضمن فريق العمل العلاجي لهم، يسألني كثيرون منهم سؤالا يتكرر: هل سأعود لحالتي الطبيعية دون هذا الألم الذي يدق رأسي وعظمي دائماً؟
أجيبه بسؤال آخر، هل فكرت أن كل هذا الألم ستحصل عليه مع حصولك على جرعة من المواد المخدرة بعد انتهاء مفعولها في كل مرة؟
فسرعان ما يبكي ندماً، ويخبرني أنه إذا عاد به الزمن مرة أخرى إلى لحظة البدء في التعاطي؛ ما اختار أبداً أن يرى أي نوع من أنواع المخدرات حتى على شاشات التلفاز.
وبعد انسحاب المواد المخدرة من دم المتعاطي، التي تعد من أصعب الأوقات والمراحل التي يمر بها، يبدأ فريق العلاج النفسي في إشراكه في برنامج علاجي سلوكي، ومن أهم هذه البرامج برنامج علاجي يدعى- الـ "12 خطوة"- ثم المتابعة الدورية مع الفريق المعالج، فأول ما يود الفريق المعالج الاطمئنان عليه هو أن المتعافي ابتعد تماماً وبكامل رغبته عن أصحاب السوء، فيا ترى من هم أصحاب السوء؟
إن أصحاب السوء هم شخص أو مجموعة من الأشخاص الذين لديهم نفس السبب الوهمي للتعاطي، بل إنهم يعتادون حالة التعاطي فيما بعد، فهم تعودوا على هذه الصحبة السيئة، فعندما يجلسون معا يهيمون في الخرافات والضحك بصوت هستيري أو الضحك حتى البكاء، أو البكاء بلا سبب حقيقي، إذ يلتفون حول الدخان الأزرق السام المميت يكذب بعضهم على بعض، ويسعون جاهدين ألا يخرج أي من المتعاطين من هذه المجموعة السامة إلى العلاج، فلديهم -دون أن يدركوا- سلوكاً انتقامياً من كل من هم بلا مخدرات، بل ويتنافسون في إيقاع شريك جديد، هذه العلاقات تدعى العلاقات السامة، فابتعد عنهم أميالاً، بل إن استطعت أزماناً.
وهناك آثار ناجمة عن تعاطي المخدرات أو المسكرات، وكلها محرمات وكارثة على الفرد والمجتمع لا محالة، فمن جملة الكوارث: تعلم السرقة، إيذاء الذات والانتحار، بل ومن المحتمل أن يصبح الشخص الذي كان قبل التعاطي مسالما شخصا معادياً للمجتمع (Psychopathic)، وأحياناً مغتصباً، وأيضاً من شطحات عقول بعض المتعاطين أن يتحولوا إلى شواذ مثليين، أي مغتَصبين، يا لها من مصائب متتابعة، تبدأ بنصيحة سامة من شخص سام يذهب بعقل وقلب ومستقبل ويقين إنسان، بل وأسرة كاملة إلى الهاوية.
ومن الضروري متابعة أفكارنا عندما نحس بأننا ضعفاء، فالشيطان يحترف دخول وجدان كل من هو في حالة من التضاربات الفكرية، فأوجد لنفسك مكاناً وزماناً، وقلماً وورقة، وصديقا وفيّا؛ لمناقشة ألمك بشكل حقيقي، وابحث عن الحلول الواقعية، وابتعد عن التقليد الأعمى في تبني فكرة "اشرب عشان تنسى"، فلا معنى لأن تحترف النسيان، بل إن المعنى الحقيقي يكمن في المواجهة وإيجاد الحلول وبدائل الحلول، حتى تستمر الحياة على نحو صائب.
يشير التقرير العَالمي للمُخدِرات للعَام 2020 الصَادِر عَن مكتَب الأمم المتحِدة المعني بالمخدِرات والجريمة، إلى أن هناك تزايدا ملحوظا في تَعاطي المخدِرات على الصَعيد العالمي؛ إذ استخدم حَوالي 269 مليون شَخصاً المخدِرات في جَميع أنحاء العالم في عام 2018، وتقدر الزيادة بنسبة 30% عَما جاء في تقرير العام 2009، بينَما يُعاني أكثر من 35 مليون شَخص مِن اضطرابات تَعاطي المخدِرات؛ وذلك وِفقاً للتقرير العالمي الأخير عَن المخدِرات الذي صَدر بتاريخ 25 يونيو 2020، عَن مكتب الأمم المتحِدة المعني بالمخدِرات والجريمة (UNODC)، مُتَضَمِناً كذلك تَحليلاً عَن تأثير جَائحة كوفيد-19 على أسواق المخدِرات. وعَلى الرغم من أن تأثير الجائحة غَير مَعروف تماماً حتى الآن، فقَد تَسبَبت القيود الحدودية والقيود الأخرى المرتبطة بالتَصَدي لها في نَقص فِعلي في المخدِرات في الشوارع؛ مما أدى إلى زِيادة الأسعَار وانخِفاض في دَرجة النقاء.
ودائماً يراودني سؤال: كيف لتاجر المخدرات أن يهنأ بحياته دون محاسبة من ضميره على الأقل؟
بل أن هناك من يبيعون السم ويتاجرون فيه ولا يتعاطونه؛ لمعرفتهم بأنه يقضي على الدماغ؛ فهم يحتاجون أدمغتهم لذا يحافظون عليها، وعندما يقعون في الفخ تكون رؤوسهم ملتفة بحبل المشنقة، وحقيقة هذه الصورة التي نراها في الأفلام السينمائية التي تنتهي بشنق تاجر المخدرات أو سجنه إلى مماته، أتمناها في الواقع لكل من يتاجر بأرواح البشر ومستقبلهم، كما أتمنى لهم جميعاً حبل المشنقة حتى ينقذ الله البشرية من أنيابهم الدموية التي لا ترحم مستقبل الأمم.