مستقبل الملابس التي نرتديها ... إلى أيــن؟
"علـــم ... وقصـــة"
كتبته: أ.د/ رحاب رجب محمود حسان
أستاذ تصميم الأزياء بجامعة نزوى
تنتقل الحضارة الإنسانية من مرحلة إلى أخرى نتيجة لحدوث تحولات ثقافية واجتماعية عميقة، كذلك نتيجة لتطور نمط الإنتاج السائد في المجتمع، مرورا بثلاث ثورات صناعية، منذ اختراع الآلة البخارية ثم الكهرباء ثم الحاسوب، ووصولا للثورة الصناعية الرابعة حيث الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا النانو والتقنيات الحيوية. وكما تطور الإنسان بالمثل، تأثرت المظاهر الثقافية بهذا التطور، منها: الملابس التي يرتديها الإنسان؛ وذلك عبر التاريخ القديم مرورا بالحقب المتعاقبة، ووصولا لوقتنا الحاضر.
من طريق هذا المقال، نعرض بعض قصص الثائرين في عالم دراسات الملابس وإنتاجها، أو المجددين إن صح التعبير، أولئك المحلقين ليس بخيالهم فقط، بل بالعلم والمثابرة للوصول إلى ما وراء الأفق لصناعة المستقبل.
نبدأ قصتنا الأولى مع الباحث المصمم الإسباني "مانويل توريس" Manel Torres الذي دفعه الشغف لاستشراف المستقبل إلى لقاء المتنبئين وعلماء الاجتماع في محاولة منه لتصور ما سوف يكون عليه المستقبل؛ وذلك عندما كان يخطط لتصميم مجموعة التخرج عام 1994م، التي جاءت بعنوان: "الحياة عام 2020م". نظر "توريس" للملابس على أنها منتج لا يمكن الاستغناء عن إنتاجه واستخدامه، إلا أن هذا المنتج يتطلب العديد من الخطوات المتتابعة التي تستهلك كثيراً من الوقت و الطاقة و المال، فإنتاج الأقمشة وكافة مستلزمات إنتاج الملابس الأخرى: الخيوط والأزرار وغيرها، خطوات لابد من المرور بها في الإنتاج بالأسلوب التقليدي، ولم يغفل عن التلوث الكبير الذي تحدثه الأقمشة في أثناء تصنيعها، حيث عمليات التجهيز والصباغة والطباعة، بل إن محاولة الحد من هذا التلوث كان دافعا قويا للبحث عن البدائل.
وقد لعبت الصدفة؛ أي التوفيق الإلهي، دورا كبيرا ليجد الباحث المصمم ضالته، فقد تمت دعوته لحضور حفل زفاف أحد أصدقائه، وقد لاحظ المصمم في أثناء الاحتفال أن المدعوين يقومون برش العروسين بخيوط هشة بيضاء عبر عبوات خاصة بذلك كنوع من المرح، فتبادر لذهن "توريس" تساؤل: ما المانع أن يتم رش القماش كما ترش الخيوط؟
من بعدها بدأ "توريس" محاولاته الجادة الحثيثة لتحويل الخيال إلى واقع ملموس، وكان هذا هو موضوع الدكتوراة التي أعدها وحصل عليها من الكلية الملكية للفنون بلندن. وكان أستاذه والمشرف على دراسته البروفيسور "بول لوكيم" Paul Luckem - أستاذ تكنولوجيا الجسيمات - الذي نصحه بالتركيز على إعداد التركيبة السائلة أولا؛ أي اختراع السائل الذي سوف يتم تعبئته بعبوات الرذاذ، ثم التفكير لاحقا في التحول من سائل إلى رذاذ ثم التحول إلى حالة صلبة متماسكة بالأخير، بالفعل قام "توريس" بتجارب عديدة إلى أن وصل لأفضل الطرق، وهي فرم الألياف أم المنسوجات القديمة، ثم خلطها مع البوليمرات والمذيبات معا. وفي العام 2000م تمكن "توريس" من رش طبقة رقيقة من تركيبته الجديدة على مانيكان صناعي بواسطة أنبوب طلاء السيارات؛ ليحصل - في دقائق معدودة - على قطعة ملابس قابلة للارتداء والتبديل والغسيل، دون حياكة و دون أي من عمليات التشغيل التي تمر بها صناعة وإنتاج الملابس بالطرق التقليدية.
من "توريس" ننتقل إلى إبداع من نوع آخر، المبدعة هذه المرة تدعى "سوزان لي" Suzan Lee، أمريكية الجنسية، تعرف في عالم أبحاث و صناعة الموضة بأنها (ساحرة بيولوجية)، التقت عام 2003م بعالم الخامات "دافيد هيبورث" David Hepworth الذي وجهها إلى التفكير في إنتاج خامات طبيعية بنمط غير زراعي كالقطن والكتان، بعد عشر سنوات من التجارب معا، جاءت ولادة مشروعها الـ Bio couture أو (الموضة البيولوجية)، إذ اعتمدت على البكتيريا لإنتاج السيليلوز البكتيري الذي وصفته "سوزان" بالجلد النباتي.
المشروع أقرب منه لصناعة الغذاء عن صناعة الملابس، إذ يعتمد على التخمير بشكل أساسٍ لبعض السوائل الطبيعية غالبا، مثل: الشاي الأخضر مع السكر الأبيض، التي يتم وضعها في أحواض في ظروف خاصة وتركها لأيام، ثم يتم حصاد السيليوز البكتيري المتكون على السطح في صورة تشبه التعفن، ثم تجفيفه وصباغته وقصه بأشعة الليزر وحياكته؛ ليصبح موضة بيئية مستدامة.
هذه الخامات المبتكرة ليست خيالات ومحض بدعة أو إنتاج عبقري لبعض الثائرين على النمطية، بل أنها تصنف ملابس مستدامة للاستخدام في المستقبل، ملابس نصممها وننتجها ونرتديها في خطوة واحدة بكبسة زر على عبوة رذاذ وأخرى تصنعها البكتريا في مخازن منازلنا، كل هذا يجعلنا نتسائل إلى أي مدى سيصل العلم بمستقبل الملابس التي سوف نرتديها؟
ويجعلنا أيضا نشمر سواعد الجد والعمل لمواكبة هذه المستوى من البحث العلمي، وأيضا هذا التوجه من الحرص على الاستدامة.