إضاءات في مسيرة حياة الأستاذ الدكتور محمد عبد المنعم إسماعيل
إشراقة
ولدتُ بحي من أحياء شمال أمدرمان، يقع على الضفة الغربية من النيل، في بيت جدي إسماعيل. كان بيتاً كبيراً صديقاً للبيئة بمبانيه الطينية العالية ونوافذه الكبيرة وحيشانه. لقد كان لجدي إسماعيل مربطٌ لحِماره، ولأمي مكانٌ لثلاث معزات، ولي "برج حمام". أما دهليز البيت فيظل مفتوحاً طوال النهار كما أشاهد هنا في منازل الجيران في بركة الموز. أما أهل الحي فيمتّون لبعضهم بعضا بصلات القرابة. في هذه الأجواء الرومانسية الآمنة، والجمال اللامتناهي الذي يضفيه النيل، والحنان الأبوي الدافق، عاش الأستاذ الدكتور محمد عبدالمنعم إسماعيل طفولة سعيدة بين أشقائه الأربعة وشقيقته. وفي السطور القادمة سوف يصحبنا في فضاءات إشراقة؛ ليضيء لنا طريقاً يلتمس فيه القارئ مفاتيح نجاحه وتفوقه.
المرحلة المدرسية
دخلت مدرسة الحي الأولية، وكنت كثيراً ما أهرب منها إلى البيت في السنة الأولى. ثم اعتدتُ عليها، بعد أن أظهرت تفوقاً في الرياضيات، ولقيت تقديراً من المعلمين. وبنهاية المرحلة الأولية، قُبلت بمدرسة أمدرمان الأميرية الوسطى، وكانت المدرسة الحكومية الوحيدة للمرحلة الوسطى حينئذ، في أمدرمان. كانت مدرسة متميزة حقاً، بمعلميها المتميزين ومبانيها الجميلة، ومختبر العلوم والمكتبة. كم أنا مدين لمدرستي الأولية والوسطى للنجاح الذي حققته لاحقاً، بناءً على الأساس المتين الذي أقاموه. وفي مدرسة أمدرمان الأهلية الثانوية (وكانت حكومية حينها)، أكملت المرحلة الثانوية، فأحرزت المركز السابع على نطاق القطر في امتحان الشهادة الثانوية، ومُنحت جائزة رئيس الجمهورية، في حفل أقامه وزير التربية والتعليم.
الدراسة الجامعية
قضيت عامين بجامعة الخرطوم، في مساق الرياضيات، في برنامج مكافئ لدراسة ال (A-Level) في بريطانيا. ولما كنت من بين الطلبة الثلاثة المتفوقين في نهاية البرنامج، ابتعثتني الجامعة لدراسة الرياضيات أو الفيزياء، في جامعة ريدنج Reading University ، بالقرب من لندن؛ وذلك على نفقة المجلس البريطاني.
لا أنس لحظات الوداع عند تأهبي للمضي لمطار الخرطوم للسفر أول مرة للندن:
ما ذرفتٌ الدمعَ لما فاض من أمٍ حفية
ما تداعيتُ لقلبٍ يهبُ الحب نقيا
لم أقبّل كفك الحاني فألثمه مليا
كان روحي ثملاً بأوروبا والمروج السندسية
خلتها الفردوس أضحى واقعا عذباً ثريا
لم أجد مصاعب في الدراسة، فتخرجت بمرتبة الشرف الأولى في الرياضيات، بل وأعتقد أنني كنت أول الفصل. ثم التحقت بعدها بمعهد الرياضيات بجامعة Warwick في أواسط إنجلترا، وكانت ولا تزال من الجامعات المرموقة في الرياضيات. هناك تركزت اهتماماتي البحثية في فرع جديد آنذاك في الهندسة، يسمى Algebraic Topology، وهناك حصلت على درجتي الماجستير والدكتوراة.
أذكر أنهم في معهد الرياضيات كانوا يولون اهتماماً كبيراً لحلقات البحث، كما تشكل استراحةُ القهوة Coffee Break ملتقىً مهماً للأساتذة وطلبة الدراسات العليا، إذ يناقشون آخر التطورات في فضاء البحث العلمي، فضلاً عن أنشطة الطلبة البحثية، خاصة تلك المتعلقة برسائل الطلبة لنيل درجة الماجستير والدكتوراة.
العودة إلى دفء الأسرة
حينما غادرت السودان إلى إنجلترا، كنت في سن العشرين. هناك اكتسبت تجارب عظيمة، غير أنني كنت أعاني كثيراً من الغربة والبعد عن الأهل:
في ذلك الزمنِ، ما هزّني حتى جلالُ الأطلسي
والمركبُ الآتيَ وصوتُ النورسِ
لم يبق إلا موطني، في مهجتي لم يُطمسِ.
بعد حصولي على درجة الماجستير، قضيت شهراً في السودان فتزوجت فيه لأنعم بدفء الأسرة من جديد، وألقى السلام والسعادة بقرب ابني وبناتي الثلاث ورفيقة العمر.
رحلتي المهنية
عملت بجامعة الخرطوم رئيساً لقسم الرياضيات وعميداً لكلية العلوم الرياضية. كانت فترة ثرية بحق، وأظل أتلقى الرسائل التي تعبر عن امتنان طلبتي، فتمنح حياتي معنىً. في هذا الصباح على سبيل المثال، تلقيت رسالة من إحدى خريجات الكلية: "فخورة جداً أنني كنت تلميذتك.. لي عظيم الشرف".
وكان لي الشرف أن أعمل أستاذاً بجامعة الرياض (جامعة الملك سعود حالياً)، وعميداً لكلية العلوم والآداب بجامعة نزوى، ثم مساعداً لنائب الرئيس للخدمات الأكاديمية المساعدة. وقد قضيتُ فصولاً دراسية زائراً لجامعة السلطان قابوس وجامعة قطر.
الاهتمامات خارج نطاق التخصص
كنت أحب ممارسة كرة القدم، وحاليا أمارس رياضة المشي، وأجد المتعة في مشاهدة كرة القدم العالمية.
وإنني لشغوف بالأدب العربي والإنجليزي، خاصة مجال الشعر، ولي محاولات في كتابة الشعر من حين لآخر.
ختاماً، أرجو أن أورد جزءاً من القصيدة: "لن تنطفئ الشموع":
التقينا
أنت في روق الشباب وأنا
أحملُ الأشواقَ أنهاراً جرينَ
عابد "للحسنِ ملتاع" غريب
تاقَ للحبِ جَداولَ ينبجسنَ.
هل أُشبهٌ بضياء البدر وجهَك
بل يفوق البَدر حسنَا
ما حكى الشلالُ شعرَك
إذ تموّجَ يهمسُ الفتنةَ لحنا
ما الجُمانُ أمامَ ثغرك
والشفايفُ يبتسمنَ.
أيُ إبداع تجلّى يا حبيبي
في جمالك فافتتنا
أيُ كفٍ صاغَ يا روحي قَوامك
غصنَ بانٍ يتثنى
أيُ نولٍ ساقَ للأنفس كرْمك
فارتوت دناً فدنا.