إعداد: د. عبدالفتاح الخواجه / جامعة نزوى/ أستاذ مشارك في الإرشاد النفسي في قسم التربية والدراسات الإنسانية / كلية العلوم والآداب
تم تقديم مصطلح (الإيثار) بواسطة أوغست كونت (Auguste Comte) لوصف التفاني لمصالح الآخرين؛ إذ حُدد الإيثار البشري بوصفه فعلا مقصودا طوعيا، يتم إجراؤه لصالح شخص آخر باعتباره الدافع الأساس، دون توقع على مستوى الوعي الشخصي بالحصول على المكافأة نتيجة لهذا السلوك الإيثاري.
بدأ ينمو الاهتمام العلمي بالإيثار لدى البشر منذ ستينيات القرن الماضي، وقد أوجدت الأدبيات النظرية والتجريبية تضاربا وانقساما في تناولها لهذا المفهوم من الناحية النفسية؛ إذ إن الأدبيات المتعلقة بعلم النفس الاجتماعي في نظرية الإيثار عند البشر تشير إلى تقديم حججًا نظرية متضاربة في نهج الإيثار الزائف، الذي يرجع إلى دوافع ذاتية ويسمى بـ (الدافع الأناني)، والنهج الإيثاري الحقيقي الذي يعد الإيثار دافعا طوعيا أساسيا قائما بذاته.
وكانت الاختلافات في بلورة مفهوم الإيثار قد تحددت في ماهية الدوافع الكامنة وراء الإيثار؛ فهناك من حدد قواعد لتعريف الإيثار، التي يجب أن تفصل سلوك المرء الإيثاري عن الأنانية المعاكسة له. وفقًا لذلك، فإن الإيثار والأنانية هما حالتان تحفيزيتان منفصلتان ومختلفتان من حيث اتجاه الدافع؛ الموجه نحو الهدف (للذات أو للآخر)؛ أي هل اتجاه الدافع وراء السلوك الإيثاري موجه نحو ذات الفرد، أم أنه موجه نحو الشخص الآخر الذي وقع عليه سلوك الإيثار؛ بحيث يتمثل الهدف النهائي للإيثار في زيادة الراحة النفسية عند الآخر، ولكن من المحتمل أن تكون الأنانية والإيثار (Egoism & Altruism) من الدوافع المختلفة المتناقضة، إلا أنهما يمكن أن يحدثا معًا.
وفي هذا الجدال عن دوافع وبواعث هذا السلوك الإيثاري، نجد أن بعضهم يرى أن الإيثار له دوافع أنانية فقط، والهدف الأساس من ورائه يعود إلى الفرد المتمثل بحصوله على الراحة النفسية نظير قيامه بالسلوك الإيثاري.
هذا ويمكن تعريف الإيثار على أنه إما معياري أو مستقل؛ ويقصد بالاستقلالية هنا؛ أي أن الفرد هو بذاته من يحدد ما يفعله بنفسه، وليس نتيجة عوامل أو تأثيرات أخرى، وبشأن الاستقلالية يشعر بعض من الفلاسفة بالقلق بشأن ما إذا كان بإمكاننا معرفة أن شخصًا ما يتخذ خيارًا خاصًا به، دون عوائق الإكراه أو القهر أو الوعي الزائف أو نتيجة لحالات ذهنية أو جسدية أخرى قد تتعارض مع الرغبة الذاتية واتخاذ قرار الاختيار.
أما الإيثار المعياري؛ فإنه يشمل أعمال المساعدة العامة التي تحكمها المكافآت والعقوبات الاجتماعية؛ في حين لا يتأثر الإيثار الاستقلالي بهذه الأمور. كما يعد الإيثار المعياري ذو مخاطر وتكلفة منخفضة بالنسبة للشخص القائم بالسلوك الإيثاري، بينما الإيثار الاستقلالي غالبًا ما يكون عالي المخاطر وذا تكلفة عالية.
كما يتفق الباحثون الذين قدموا حججًا في نهج الإيثار على أن السمات الأساسية للإيثار تشمل فعلًا يتم إجراؤه طوعًا وعن قصد بهدف أساس هو إفادة شخص آخر؛ أي أن الدافع الأساس هو ما يفصل بين نهج الإيثار الحقيقي ونهج الإيثار الزائف.
ويمكن القول إن ما يميز بين الفعل والسلوك؛ هل هو سلوك إيثاري أم سلوك إيثاري زائف! هو من طريق معيار قاعدة الدوافع عند الفرد؛ فإن كان يتوقع مكاسب شخصية، سواء أكان ذلك في شكل مكافآت داخلية أم خارجية، فهنا يمكن اعتباره سلوكا إيثاريا زائفا.
وقد أثر تطور النظريات البيولوجية والتطورية على بعض النظريات النفسية المبكرة التي تهتم برعاية الوالدين والتضحية بالنفس، كذلك أثرت على الحجج النظرية النفسية القائلة إن الإيثار البشري هو في النهاية دوافع أنانية، كما تأثرت كثير من النظريات النفسية المبكرة، حال نظرية التحليل النفسي لـ فرويد؛ بافتراضها أن كل الدوافع البشرية هي بطبيعتها أنانية (Selfish) أو ذات طبيعة أنانية، نتيجة لذلك، كما أشار فرويد (Freud) بأن جميع الأفعال تحدث في النهاية لتلبية احتياجات الذات (Egotistical). لذا؛ فإن الطبيعة البشرية تهدف إلى الحصول على المتعة وتجنب الألم. ولطالما سادت الفرضية القائلة إن كل الدوافع البشرية هي أنانية بطبيعتها، لكن الافتراض البديل بــ وجود دافع غير أناني (موجه نحو إفادة "الآخر" وليس "الذات")؛ تمت الإشارة إليه من قبل أوغست كونت.
ورغم هذا، إلا أن منهج الإيثار الزائف ظل مهيمنا بقوة في النظرية النفسية؛ أي أن السمة المميزة للسلوك الإيثاري تعود في النهاية إلى دوافع أنانية، وأن كل عمل يقوم به الإنسان يكون لخدمة ذاته، ويُنظر إلى الإيثار على أنه مدفوع بتحقيق المكافآت الداخلية حتى لو لم تكن هذه المكافآت ظاهرة أو كبيرة.
وعطفا على ما تقدم يمكن القول إن لمفهوم الإيثار تاريخ طويل في الفكر الفلسفي والأخلاقي، وقد صيغ هذا المصطلح وأصبح موضوعا رئيسا للاختصاصيين النفسيين، لاسيما علماء علم النفس التطوري، وعلماء الأحياء التطوريين، وعلماء السلوك، في حين أنه يمكن لأفكار حقل علمي واحد التأثير في الحقول الأخرى بخصوص تعريف الإيثار، إلا أن الطرق والتركيزات المختلفة لهذه العلوم تؤدي دائمًا إلى وجهات نظر مختلفة عن الإيثار. بعبارات بسيطة، يهتم الإيثار برعاية الآخرين والعمل لمساعدتهم.
وفي سياق تفسير الآلية التي تحدث فيها السلوكيات الإيثارية؛ فإن مشاهدة معاناة شخص آخر يُسبب انزعاجًا تعاطفيًا لدى الشخص المراقب (المرشح لتقديم السلوك الايثاري الفرضي)، وأن سلوك المساندة فيما يتعلق بسبب المعاناة يؤثر على رغبة المراقب في اتخاذ قرار المساعدة.
إن نموذج قرار تدخل الشخص المراقب أو المتفرج يقترح أن قرار المساعدة يعتمد على خمسة عوامل؛ الأول والثاني يعتمدان على مدى تحديد التغيير السلبي الحاصل في ظروف الشخص الضحية والاعتراف المبدئي بالحاجة إلى المساعدة، والعامل الثالث والرابع هما تحمل المسؤولية الشخصية ثم اتخاذ القرار بشأن نوع المساعدة المطلوبة، ويكون العامل الخامس والأخير في عملية صنع القرار وهو قرار تقديم المساعدة.
أما إذا فشل الشخص المراقب أو المتفرج في أي مرحلة في تلبية أي من العوامل، فإنه لن تتم مساعدة الضحية. كما يمكن أن تؤثر المؤثرات الخارجية؛ مثل: جوانب البيئة المادية والاجتماعية على تفسير الموقف على أنه سلبي، ويقترح بعض الباحثين أن المساعدة تكون أقل في المدن عنها في القرى؛ نتيجة لزيادة المدخلات والمؤثرات البيئية. كما يمكن أن تؤثر الحالة العاطفية الداخلية للمراقب على قراره بالمساعدة؛ لذا فإن الحالة المزاجية الداخلية الإيجابية تسهل عند الفرد ظهور السلوك المساعد (الإيثاري) بشكل أكبر من الشخص ذي الحالة المزاجية السلبية.
ونشير ختاما إلى أنه لم يعد الإيثار (الحقيقي) مستحيلًا، بل أصبح منتشرًا في كل مكان، وأصبح الحديث عن وجود سمة من الإيثار ونوع من الشخصيات هي: (الشخصية الإيثارية) ممكنًا. كما تكمن وراء هذه الشخصية الإيثارية دوافع مثل: التعاطف، ومعايير السلوك المناسب، والميل لتجربة التعاطف المعرفي والعاطفي، وإمكانية توفر قدرات أخذ الأدوار؛ كالقدرة العالية على التعاطف، وتفهمها لمعايير السلوك الجيد، وتوجيه الأحكام الإيجابية أيضا ممكنا. ومع أن هذه الدوافع هي (بنيات افتراضية)؛ فإن مؤيدي (الشخصية الإيثارية) يصفون الشخص ذا السلوك الإيثاري بأنه شخص يتمتع بمعايير أعلى للعدالة، والمسؤولية الاجتماعية، ولديه أنماط عالية من التفكير الأخلاقي، وهو أكثر تعاطفاً مع مشاعر الآخرين والرغبة في تخفيف معاناتهم.