السنة 15 العدد 137
2020/11/01

 

د. سليمان بن سالم الحسيني
مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات العربية والإنسانية
salhusseini@unizwa.edu.om

أثبتت عُمان، قيادة وشعبا، قدرة وتميزا على تجاوز الأزمات، والوقوف صفا واحدا في أوقات الشدة والمحن والتحديات. وفايروس كورونا -كوفيد 19- الذي ضرب العالم أجمعه، وأثر على كل دول العالم وأبرز هشاشة أو متانة قدراتها ونظمها وبرامجها وأنشطتها التعليمية والصحية والاقتصادية والتجارية والاجتماعية والبحثية، أثبت أنه تجربة لا يمكن أن تمر مرورا عابرا دون الاستفادة من انعكاساته على المستوى الوطني، ودون  أخذ العبرة والدروس منه للمستقبل. وفي تجربتنا العمانية، يمكننا أن ننظر إلى فايروس كورونا من زواياه الإيجابية، ونستفيد منه منحة خرجت من رحم المحنة، ودروسا وعبرا ولدتها التجربة على أرض الواقع وميدان الحياة عاشها الجميع: قيادة وشعبا، ومخططين، وصناع قرار، ومنفذين، ومفكرين، ورواد أعمال، وأصحاب رؤوس أموال، وتربويين وأكاديميين وباحثين، ومؤسسات أهلية وحكومية، نحمل هم الرقي بالوطن وتجاوز المحن، والسير إلى المستقبل بخطى واثقة قوية مستنيرة مستبصرة. 

حديثي عن تجربة كورونا -كوفيد 19- على مستوى الوطن، وما علمنا إياه من تجارب ودروس وعبر نخطو بها نحو مستقبل عمان، أرضا وشعبا، يدور في أربعة محاور: التعليم، والبحث العلمي، والتصنيع، والتصدير والاستيراد.

لقد فاجئنا كورونا ونحن نتبع أسلوبا تقليديا في التعليم؛ فأصاب نظامنا التعليمي بالربكة، وأصابنا، نحن الأكاديميين والمربين وأولياء الأمور، بحيرة من أمرونا. وإذ أتحدث هنا كوني أستاذا جامعيا، وبشيء من الصراحة والأريحية، فإن أرقى ما كنت أستعمله في مهنتي الأكاديمية من وسائل تعليم معاصرة، هو الحاسب الآلي؛ وذلك أضعف الإيمان في هذا العصر الذي يسمى عصر التكنولوجيا والفضاء المفتوح. أعرض من طريق ذلك الجهاز في أثناء التدريس بعض شرائح البوربيونت، والتسجيلات اليوتيوبية التي أنزلها من مواقع الشبكة المعلوماتية؛ لتسهل عليَّ تقديم المعلومة إلى طلبتي، وتدخل في جو الفصل شيئا من المتعة وتكسر حاجز الرتابة المعهودة. وأما طلابي فإن الكتاب المدرسي لا يزال بالنسبة لهم الأداة الأقوى في التعلم والحصول على المعرفة. وكثير منهم اتخذ الحاسوب وسيلة للحصول على المعلومة من مواقع الإنترنت بصيغة (قص- لزق) التي أتقنوها بكل براعة. وفي البيت وقفت عاجزا أمام أبنائي، لا سيما ممن هم في سن المدرسة، من أن أوجد لهم بيئة تعليمية مقنعة ومفيدة ومثرية؛ تكون بديلا عمليا وفاعلا عن الصف المدرسي، حيث يكون المعلم فارس الميدان، والسبورة والقلم والكتاب المدرسي سلاح المعلم وأدوات التعليم والتعلم. فلم أستطع كوني ولي أمر من أن أخلق بيئة تعليمية في البيت، وأربط أبنائي وهم في البيت بأي بيئة تعليمية خارجه تكون بديلا عن المدرسة والصف الدراسي، فضاعت أيام الجلوس في البيت وأسابيعه وأشهره هباء منثورا إلا من نزر يسير من علم ومعرفة.

ما يمكن أن نتعلمه من هذا الدرس الذي قدمه لنا كورونا على مستوى التعليم العام والجامعي، أن الحاسوب وشبكة الإنترنت، لا تمثل إلا جزءا بسيطا مما يحتاجه التعليم المعاصر، وأنها ليست سوى بعض الأساسيات في مكونات البنية التحتية الكبيرة والشاملة التي يحتاج إليها التعليم المعاصر. فما نحتاج إليه: عقلية مجتمعية تؤمن بالإبداع في التعليم، وبنية تحية متكاملة تدعم التعليم غير التقليدي ومهيئة لمواجهة التحديات غير المتوقعة، ومعلم خلَّاق، أُعد لحمل رسالته في جامعات تجاوزت مساقاتها وبرامجها المرحلة الكلاسيكية في إعداد وتأهيل المعلمين، ويتدرب في أثناء الخدمة وفق رؤى تنمي الإبداع وحل المشكلات وروح المبادرة، وتلميذ أو طالب جامعي يعتمد على الذات، ووسائل تعليم تتعدى الكتاب المدرسي والسبورة والبوربوينت. بيئة تعليمية بهذه المواصفات والقدرات والإمكانيات هي القادرة على مواجهة التحديات وتقلبات الزمن وستنقل البلد إلى واقع طموح وسام.

البحث العلمي، دائما أهميته حاضرة، في أوقات الأزمات وغيرها، لكن في أزمة جائحة كورونا أصبح للبحث العلمي أهمية خاصة؛ فقد توجهت الأنظار إلى الدول المتقدمة بحثيا وصناعيا، وإلى المختبرات والجامعات البحثية لحل المشكلة وإيجاد الدواء وصناعة، العقاقير، والبحث عن أسباب المشكلة وطرق تفاديها والحد من انتشارها وعلاجها.   الجامعات والمراكز البحثية والباحثين والمخترعين والمكتشفين كانوا هم أبطال المشهد في عصر كورونا الذين عولت عليهم الشعوب والحكومات في إيجاد الحلول والخروج من النفق المظلم الذي دخلت فيه البشرية. وكم رأينا من زعيم ورئيس دولة ظهر على وسائل الإعلام ليدلي بتصريح إعلامي عن كورونا وهو محاط بمجموعة من علماء الفيروسات وأساتذة الجامعات والخبراء والباحثين؛ ليثبت أن لبلده قدم السبق في مواجهة الجائحة علميا وتقنيا وتكنولوجيا، وأن ما يتزعمه من جهود وما تقوم به حكومته من إجراءات لمكافحة الوباء لها أصولها العلمية وأسسها وقواعدها التخصصية.

وفي بلدنا الحبيب، أُعطي البحث العلمي مكانة ودورا لحل الأزمة والتصدي للجائحة؛ فتصدر مجلس البحث العلمي الواجهة، وتبنى عديدا من المشاريع البحثية مع الجامعات العمانية، وظهرت عديد من المشاريع البحثية التي عنيت بالفيروس وتركيبته الجينية، وآثاره الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية. وتعاون الباحثون العمانيون مع بعض الجهات الدولية للإسهام في الجهد العالمي علميا وبحثيا لمواجهة هذا الوباء.

فمن هذا المنطلق تأتي أهمية البحث العلمي، لا سيما البحوث الابتكارية، وضرورة العناية بالباحثين والمؤسسات البحثية، وتوجيه الجامعات لتكون جامعات بحثية وبيوتات خبرة في سائر مجالات البحث العلمي وميادين الحياة المعاصرة. فالبحث العلمي ضرورة وليس ترفا في الحياة المعاصرة، ومؤشر على مدى التقدم الحضاري، والمفتاح السري للولوج إلى الحلول لكثير من التحديات التي تواجهها البشرية، وطريقة مرموقة ومقبولة ومحترمة للإسهام الحضاري وخدمة البشرية. 

التصنيع، ووجود قاعدة صناعية قادرة على توفير الحد الأعلى من متطلبات البلد من المنتجات والأجهزة والآلات، ظهرت جلية وواضحة منذ الأيام الأولى لتفشي الوباء عالميا، وإغلاق الدول لحدودها ومنفذها الدولية، وتعطل حركة التصدير والاستيراد، وتوقف الإنتاج في العديد من المصانع بكثير من الدول، وظهور الحاجة إلى منتجات بعينها أكثر من سواها مثل الكمامات وأجهزة التنفس الصناعي، والمطهرات والمحاليل وأدوات المختبرات. فوجود قاعدة صناعية واسعة ومتينة يجعل البلد قادرا على تصنيع وإنتاج ما يحتاج إليه من منتجات في أوقات الأزمات والمحن، بل وتصدير منتجاته إلى الآخرين، وتقديم يد العون إلى الدول والشعوب الأخرى، وخدمة الإنسانية من طريق المنتجات الصناعية أسوة وقدوة بما تقدمه من خدمات دبلوماسية في خدمة السلام العالمي، وترسيخ مبادئ التعايش والاحترام المتبادل.

ومما يشجع على المضي قدما في اتجاه الصناعة والتصنيع، ظهور عدد من المنتجات المحلية استجابة للحاجة التي فرضتها الجائحة، وقيام عدد من المؤسسات بدورها وواجبها في التصنيع؛ لا سيما في تصنيع المعقمات والمطهرات وغيرها من المواد ذات المركبات البترولية المتوفرة في البيئة العمانية. وظهر في أثناء هذه الجائحة كذلك عدد من الشباب العماني الذين أثبتوا قدرة على الابتكار والتصميم والتصنيع؛ مما يؤكد على وجود العقول والكوادر العمانية التي يمكن أن تأخذ بزمام المبادرة في التصنيع والابتكار. لذلك من الضرورة بمكان أن توجه العناية إلى هؤلاء الشباب الطموح والمبدع لترتقي بهم الصناعات، وتظهر على أيديهم المنتجات، وتسهم الصناعة المحلية في رقي البلد وازدهاره. وهنا لا بد من التأكيد على التكامل والتعاون بين الجامعات البحثية لا سيما في مجال البحوث الابتكارية، والمؤسسات الصناعية، وأصحاب رؤوس الأموال للنهوض بالقطاع الصناعي والرقي بقدراته وإمكانياته.

المجال الآخر الذي أثبتت جائحة كورونا أهمية العناية به، هو الاستيراد والتصدير المباشر. وقد ظهر عدد من المسؤولين وأصحاب القرار في وسائل الإعلام الرسمية ووسائل التواصل الاجتماعي وهم يبشرون بأن الجهات المختصة في الموانئ والمطارات المحلية قد اتخذت الإجراءات الضرورية لتسهيل عمليات الاستيراد المباشر، وأكدوا بأن المؤشرات تدل على ارتفاع نسبة الاستيراد المباشرة، وأن الدلائل تبشر بأن الاستيراد المباشر أفضل من الاستيراد من طريق دول الجوار وأكثر جدوى وأسرع، وأكثر كسبا للوقت، وله عوائد وفوائد اقتصادية لا تعد ولا تحصى للبلد. وخير ما يقال في هذا الموضوع، أن الاستيراد المباشر من طريق المنافذ البحرية والجوية والبرية، خيار وطني يجب عدم التهاون فيه، ويجب وضع التشريعات والقوانين التي تسهل الاستيراد المباشر وتشجع عليه، وتجرم من يعرقله ويخالفه. فبلد يطل بشواطئه الطويلة على بحر العرب والمحيط الهندي، شريان التجارة العالمية منذ الأزل، وتعبر من خلال مياهه الإقليمية السفن المحملة بالبضائع والسلع إلى الموانئ الإقليمية والعالمية، وإنشاء منافذ برية وبحرية وجوية بمواصفات عالمية، وتتمركز في جنوبه ووسطه وشماله ثلاث موانئ عملاقه، وبينها كثير من الموانئ والأرصفة البحرية القادرة على استقبال السفن والمراكب، جدير بأن يكون معتمدا على ذاته في حركة الاستيراد والتصدير، وأن تكون موانيه ومطاراته مراكز نشطة لاستيراد السلع من دول المصدر، وتصدير المنتجات المحلية مباشرة إلى الدول التي تربطها بعُمان علاقات استيراد وتصدير. 

إرسال تعليق عن هذه المقالة