أمجد بن سالم الرواحي
وحدة بحوث الأفلاج
الأفلاج هبة من الله حبا بها عُمان وبعض دول العالم، التي تستعمل هذا النظام الفريد من نوعه. ولقيام المجتمعات والحضارات، كان لابد من وجود سبب يزيد من ترابط المجتمع المحلي وتآلفه، فالأفلاج ليست مجرد سواقي وقنوات، بل تعد نظاما بيئيا وإنسانيا من أهم دعائم قيام الحضارات ومرتكزاتها.
لقد فرض نظام الري هذا في الأفلاج وجود عدالة في توزيع المياه، سواء أكان في عمان أم الدول التي يوجد بها هذا النظام. ومنذ القدم اخترع الإنسان العماني طرقا وأساليب عدة؛ من أجل تحقيقها وتوزيع المياه بين المستفيدين منه؛ حتى يتسنى للجميع أخذ حقه من تلك المياه. وقد استعمل العمانيون النجوم في جدولة الري ليلا، كما استعمل اللمد أو الساعة الشمسية في النهار لتحقيق تلك العدالة. كما اسُتعملت الطاسة أو الساعة المائية لتوزيع المياه بين المستفيدين. وفي هذا المقال سوف نتحدث بالتفصيل عن الطاسة، وأهم الدول التي تستعمل هذه الطريقة في توزيع مياه الأفلاج وطريقة العمل بها.
الطاسة عبارة عن وعاءين للماء، تُصنع غالبا من الألمنيوم أو معدن النحاس؛ إذ يُطلق على الوعاء العلوي بـ: الطاسة، التي توضع في أناء أكبر مملوء بالماء. كما يوجد فيها ثقب صغير في الأسفل ليملأها ببطء إلى أن تغرق، وبعد غرقها تنتهي حصة المستفيد من مياه الفلج. [i]
وكما أن مصطلح "الساعة" يُطلق على آلة لقياس الزمن، وهي وحدة زمنية تعادل ستين دقيقة، يُطلق مصطلح "الطاسة" على الساعة المائية، وتُعد أيضا وحدة للوقت؛ إذ يستعمل المزارعون الوقت الذي يأخذه الماء ليملئ الطاسة وحدةً زمنية لتقسيم الماء، وهذا يعادل أثرا واحدا (30 دقيقة). إلا أن بعض الدول التي تستعمل هذا النظام في توزيع المياه، تختلف مدة تفريغ الماء لديها من الطاسة؛ وذلك حسب الاتفاق الذي يتم التداول به في تلك المنطقة، فعند اتفاق أصحاب الفلج على طاسة معينة، يجب ألا يتغير بتعاقب الأجيال؛ إذ يجب دائما استعمال ذات الطاسة أو نفس الأبعاد الهندسية. كما أن الوقت الذي تحتاجه الطاسة لتغطس في الماء، ومعدل الغطس، يعتمد على عوامل كثيرة، أهمها: نوع المادة المصنوعة منها، وحجمها وشكلها، واتساع الثقب، ودرجة حرارة الماء ونوعيته؛ فكلما كانت المادة أثقل، قلّ الزمن، وكلما كان الماء باردا وملوثا كان الزمن أكبر. وبطبيعة الحال، كلما زاد اتساع الثقب، قلّ الزمن اللازم لغطسها. كما أن معدل غطس طاسة اسطوانية الشكل يختلف عن طاسة مسطحة.
هل تحتفظ الطاسة بمفردها المحلي بين أفلاج العالم؟
وتعد سلطنة عمان من الدول التي تستعمل هذا النظام، إضافة إلى المغرب وإيران وتونس والجزائر، إلا أن مسمياتها تختلف كلٌ حسب دولته. ففي عمان وإيران يطلق عليها اسم (طاسة)، أما في المغرب فتسمى (تناست)، وفي تونس تسمى (القادوس) بينما يطلق عليها (العالية) في الجزائر. [ii]
واستعملت الطاسة في سلطنة عمان في العديد من الأفلاج، لاسيما أفلاج الجبل الأخضر، تحديدا فلجي العزيزي بقرية سيق وفلج الشريجة. وقد صُنعت طاسة فلج العزيزي من معدن الألمنيوم، بينما طاسة فلج الشريجة مصنوعة من معدن النحاس. وعلى سبيل المثال: وزعت أنصبة المياه في فلج العزيزي على النحو الآتي: لفلان كذا طاسة، ولوقف المسجد الفلاني ثلاث طاسات وهكذا، وبمجرد امتلاء الطاسة بالماء ينتهي نصيب الفرد من الماء ويقدر ب "أثر".
وقد استعملت الطاسة في فلج العزيزي في زمن ليس ببعيد من الآن، إذ كانت تستعمل حتى نهايات القرن الماضي، فكان حجم طاسة فلج العزيزي أكبر بأضعاف من طاسة فلج الشريجة. وقد نشر الدكتور محمد عبد الله القدحات هذا العام 2020م، كتابه: (نسخة فلج العزيزي ببلدة سيق في الجبل الأخضر)، الذي تحدث فيه عن نسخة فلج العزيزي في توزيع حصص المياه للمستفيدين. أما ما يخص طاسة فلج الشريجة؛ فإنها لا تزال تستعمل إلى يومنا هذا، خصوصا في فصل الصيف حين تكون الحاجة إلى المياه أكثر، وكمية المياه المتدفقة أكبر. وتشير القياسات إلى أن قطر طاسة فلج الشريجة 12 سنتيمتر، بينما عمقها يصل إلى 6.5 سنتيمتر، وحجمها 452 سنتيمتر مكعب، وتستغرق حوالي 5.23 دقيقة لتمتلئ بالكامل.
وأخيرا، لعبت الطاسة دورا فعالا قديما وحاضرا في توزيع أنصبة المياه بين المستفيدين منها، وإعطاء كل ذي حقا حقه. فكانت ساعة إلكترونية، أما الآن تلعب الدور ذاته في ضبط عملية الوقت والقياس. وندلل على أن اختراع العمانيين، بشكل خاص، لهذا النوع من الأنظمة لتوزيع حصص المستفيدين من مياه الفلج؛ لَدلالة واضحة على براعة الإنسان العماني وعبقرتيه، لاسيما لو علمنا أن الظروف في تلك الفترة الزمنية كانت صعبة جدا. لقد ناشد العماني تحقيق العدالة هدفا مرجواً في مثل هذه الاختراعات؛ حتى يتسنى للفرد الحصول على نصيبه من مياه الأفلاج والانتفاع منها؛ للحصول على غذائه، وتأمين لقمة عيشه. وحفاظا على هذه الاختراعات؛ استوجب توثيق كل ما يتعلق بهذا الموروث التراثي العظيم الذي لطالما سهر عليه أجدادنا، وتعبوا عليه كثيرا وضحوا بأرواحهم من أجل بناء الحضارات والمجتمعات المحلية التي نعيش عليها اليوم.