السنة 19 العدد 182
2024/08/14

بين مسقطي الرأس والروح ومنازل أخرى ...

تنقّل خدمة للغته العربية، فأبدع في لسانيّاتها الحديثة في محطات أغنت مسيرته

 


 

 

حين تقرأ أعماله تجده ملتصقا بواقعه المعيش، فكل دراساته ومؤلفاته ومقالاته تمتاز بدلالات عميقة المعنى؛ ولا ريب أنها نِتاج بصماته الخاصة في مجال تخصصه في اللسانات الحديثة والنصوص المسرحية وتحليل الخطاب. لقد كرّس جهوده خدمة للطالب والمجتمع على حدّ سواء؛ لذا أضحت أعماله فكرة، والفكرة لا تموت؛ بل كانت صنوه داخل وطنه سورية وخارجه.

 

 

في ضيافة شخصية عدد "إشراقة" 182 الأستاذ الدكتور محمد إسماعيل بصل، إذ نناقشه في عدد من الأفكار لنحصل على انطباعاته ورؤاه التي تُلخص جانبا من الإبداع الفني والأدبي الذي يستضيء بمشاهد لغة المجتمع وثقافته التي سار عليها في مشواره.

 

س1 عرًف بنفسك، نشأتك والأسرة والمجتمع؟

 

ج1: أوافقكم على أن يكون السؤال الأول منصبا على الأسرة والمجتمع والنشأة، لما تشكله الخطوات الأولى في كنف الأسرة من نواة مركزية ومبدئية في بناء شخصية الفرد، وانخراطها بعدئذ في بناء المجتمع.

 

ولدت في مدينة صغيرة تتموضع على كتف البادية السورية، متكئة باسترخاء قدري في غرب محافظة حماة، وتابعة إليها مدنيا وإداريا، إلا أن طبيعة عمل والدي فرضت على العائلة المكونة من ثمانية أبناء -كنت خامسهم عمريا- أن ننتقل إلى العيش في محافظ تبعد عن محافظة حماة 155 كم، وهي محافظة اللاذقية الساحلية التي يطلق عليها أهل سورية عروس الساحل، وهكذا انتقل الطفل -الذي كنته– ذو الأعوام الثلاثة من بيئة تواجه الصحراء إلى بيئة ترنو قرب البحر، و ما زلت منذ ذلك التاريخ عام 1961م حتى يوم الناس هذا من سكان اللاذقية، فتتلمذت في مدارسها الابتدائية والإعدادية والثانوية، ثم تخرجت في جامعتها عام 1980م، وبعد أديت واجبي الوطني في خدمة العلم لسنتين وثلاثة أشهر، درست في الأرياف، وانتقلت في عام 1984م إلى فرنسا للتحصيل العلمي في درجتي الماجستير والدكتوراة، وعدت في عام 1992م إلى مدينتي وعُينت في قسم اللغة العربية بجامعة تشرين (اللاذقية) مدرسا لعلوم اللغة واللسانيات ... وإلى كل من يسألني عن نشأتي وإلى أي مدينة أنتمي أقول: إن سلمية مسقط رأسي، واللاذقية هي مسقط روحي.

 

س2 ماذا عن مساركم التعليمي؟ كيف كان طريقه من المدرسة إلى الجامعة وصولا إلى الدراسات العليا؟

 

ج2:  لمًا دخلت سنة 1964 ميلادية كنت تلميذا في الصف الأول الابتدائي بمدرسة سيف الدولة الحمداني، وفي الحي الذي تقطن فيه عائلتي، ومع مطلع عام 1980م كنت قد تخرجت في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة اللاذقية، وما بين هذي التأريخين مرت أعوام الدراسة والتعليم موفقة وناجحة بعون الله ورعايته، وكون الشغف والحافز كبيران لدي في التحصيل العلمي، فإنني تابعت في مسيرة التعلم، والتحقت بجامعة ليون2 في فرنسا لأكمل مسيرتي العلمية وأتابع في مرحلتي الماجستير والدكتوراة مفعما بشغفي الذي ولدت شرارته الأولى منذ كنت طالبا في السنة الثانية بقسم اللغة العربية، وأعنني مجال العلوم اللغوية واللسانية الحديثة، التي أستطيع منها وعبرها وبوساطتها أن أقدم خدمة للغتي العربية الجميلة والشريفة.

 

 

وكان لا بد من الاطلاع على آخر ما قدمته اللسانيات، التي لا تستهدف لغة دون غيرها، بل إن اللغات جميعها تشكل مادتها وموضوعها، وكانت اللسانيات قد بدأت تزدهر في الجامعات العربية مع نهاية السبعينيات من القرن المنصرم، واستغرقت دراستي في فرنسا منكبا على البحث في العلوم اللسانية ثماني سنوات نلت في نهايتها درجة الدكتوراة نظام حديث بمرتبة الشرف الأولى، ولاقت رسالتي -ولله الحمد- صدى طيبا، واستحسانا خاصا من لجنة الحكم التي كانت تضم أسماءً لامعة ومؤثرة في عالم اللسانيات الحديثة، أذكر منها: الباحثة الفرنسية كاترين أوركيوني، والباحث الفرنسي شارل فيال، والباحث السويسري من أصل مصري أنور لوقا، وتم اختيار بعض الفصول من رسالتي -خاصة تلك المتمثلة بالجانب التطبيقي في سيميائيات النص الإبداعي وتحديدا المسرحي- لتكون مادة مرجعية لطلبة الدراسات العليا في جامعة ليون 2، وأشرفت على تدريس هذه الفصول قبل أن أغادر فرنسا وأرجع إلى وطني سورية وألتحق في جامعة تشرين باللاذقية.

 

س3 أطلعنا على تكوينكم البحثي والأكاديمي واهتماماتكم بهذين المجالين ونشاطاتكم بهما؟

 

ج 3: بدأت الأفكار تتبلور في ذهني عندما كنت في السنة الثالثة بقسم اللغة العربية وآدابها عام 1979م، وبالتحديد في أثناء كتابة الأبحاث التي يطلبها الأساتذة متممات للمقررات الدراسية، ويتطلب هذا العمل زيارة المكتبات العامة والخاصة للعثور على المصادر والمراجع التي تتصل بأبحاثنا، ولعل هذا التقصي عن الكتب، ثم قراءتها، هو ما أطلق شرارة التكوين البحث لدي، فوجدتني أقترح ذات يوم على أستاذ مقرر علم اللغة واللسانيات موضوعا لبحثي أدهشه وأعجبه في آن معا، إذ إن معظم الطلبة كانوا يختارون موضوعات سهلة المنال مثل تلخيص الكتب، أو ما يختاره الأستاذ لهم، بينما اقترحت على أستاذي يومئذ أن يكون بحثي ميدانيا تطبيقيا في دراسة لهجة صيادي الأسماك الموجودين على الساحل الممتد من رأس ابن هانىء إلى مصب النهر الكبير الشمالي في اللاذقية بمساحة لا تقل عن ثلاثين كيلو متر، وكاد أستاذ المقرر الدكتور سمير كجو -رحمه الله- ألا يصدق ما سمع مني، ولكنه شجعني وحفزني وسألني إذا ما كنت قادرا على القيام بهذا البحث بمفردي أو أحتاج إلى فريق عمل، فقلت له لا بأس أن يكون معي اثنان أو ثلاثة من زملائي أختارهم أنا، فاخترت ثلاثة من أصدقائي يساعدونني في هذه المهمة البحثية، وبالفعل قمنا وقتئذ بعمل بحثي ميداني استغرق أسابيع عدة، جمعنا فيها الألفاظ والعبارات والمصطلحات التي يستخدمها الصيادون على هذا الساحل الذي أشرت إليه، وتوصلنا إلى نتائج علمية ذات قيمة أرضت أستاذنا الذي راجع البحث ونقحه ونشره بإشرافه في مجلة جامعة تشرين.

 

منذ ذلك التاريخ لم أبتعد قيد أنملة عن مجال البحث في علوم اللغة، الذي قمت لاحقا بتدريس المقرر لأعوام طويلة في الجامعات السورية والعربية، وألّفت في ميادينه أبحاثا وكتبا، ومثلت الجامعات- ولم أزل- التي أنتسب إليها في محافل ثقافية عربية ودولية، وفي شهر تشرين أول القادم سأمثل قسم اللغة العربية بجامعة نزوى، التي أتشرف بأنني أحد منسوبيها، في مؤتمر دولي محكم في دولة الإمارات العربية المتحدة ببحثي الموسوم: (العربية وثنائية الفصيحة والعامية في ضوء اللسانيات الحديثة)، ناهيك عن الإشراف على عشرات الرسائل الجامعية في مرحلتي الماجستير والدكتوراة، والمشاركة في عضوية لجان الحكم التي ينوف عددها على المائة، وجميعها في مجال اللسانيات وتحليل الخطاب، وفي آخر ما أنتجته اللسانيات الحديثة من نظريات ومناهج.

 

س4 استرجع معنا أبرز إنجازاتكم وبصماتكم وذكرياتكم في الجامعات التي انتسبتم إليها؟

 

ج4: ينداح من هذا السؤال مدارات كثيرة ومتشعبة، ومن الصعب أن أخوض فيها وأعطيها حقها، فالمسيرة طويلة وفيها من الذكريات ما تعجز الذاكرة عن استرجاعه ... ولكن يمكن أن أتوقف عند بعض المحطات التي أغنت تجربتي في التعليم الجامعي، ومنها تلك التي امتدت إلى أكثر من ثلاثين عاماً في جامعة تشرين بسورية، عملت فيها أستاذاً لمقرر اللسانيات، ونائباً لعميد الكلية لأربعة أعوام، ثم عميداً للكلية لأربعة أعوام، واستطعت، ولله الحمد، أن أترك أثراً طيباً في نفوس طلبتي وذويهم، ما يزال يتردد صداه وما زلت أفخر وأعتز به؛ إذ إنني كنت منخرطاً تماماً، ليس في التدريس الجامعي والعمل الإداري وحسب، بل كان لي نشاطات واسعة ومتعددة في مجال الثقافة عامةً، وفي مجال العمل المسرحي خاصة. فلقد أسست، مع مجموعة من الزملاء، فرقة المسرح الجامعي عندما كنت طالباً، وتابعت بعدئذ في مجال التأليف والإخراج المسرحي، وقدمت عشرات المسرحيات في الجامعة وخارج الجامعة، وكان لفرقتي صدى طيباً في الأوساط الثقافية وفي الإعلام وفي الدراسات النقدية. أفدت إفادة عظيمة من علم اللسانيات لأطبق بعض نظرياته ومناهجه على المسرح نصاً وعرضاً، وهذا ما قادني فيما بعد لأُدَرِّس في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، ولأكون مديراً للمسرح القومي في اللاذقية، بندبٍ جزئي من وزارة التعليم العالي إلى وزارة الثقافة. كما ترأستُ لجنة قراءة النصوص المسرحية، ولجنة مشاهدة العروض المسرحية لأعوام طويلة، وشاركتُ في مهرجانات كثيرة، بالإضافة إلى عضويتي في لجان التحكيم.

 

حملت معي هذا الشغف إلى المملكة العربية السعودية التي عملت في جامعاتها -الرياض وبيشة- وأسست فرقتين مسرحيتين في الجامعتين المذكورتين، واستحقت مسرحيتي الموسومة: (الشرك) جائزة أبها، ومسرحيتي (حكاية صادق) جائزة المسرح الجامعي لعام 2004م ... وكلي أمل وحماس لأن أنقل تجربتي هذه إلى جامعة نزوى، وسيكون لي فيها بإذن الله أنشطة ثقافية ومسرحية متنوعة، بالإضافة إلى كوني أستاذاً لمقرر اللسانيات في قسم اللغة العربية بكلية العلوم والآداب.

 

س5: ما توجيهكم لنقل العملية التعليمية والبحثية نقلة نوعية كبيرة في مختلف المجالات ... خصوصاً في ظل الثورة الصناعية والتكنولوجية الحديثة؟

 

ج5: لقد بات من المسلمات القول إننا نعيش في عصر أصبح فيه العالم قرية صغيرة، وإن ما يتم إنتاجه في مجال التكنولوجيا العلمية يذهل العقل، ويبلبل الفؤاد، فيحار المرء في خياراته حيال هذه المستحدثات المدهشة. هل يتلقاها؟ هل يرفضها؟ هل يتلقى بعضها ويرفض بعضها؟ هل يمكنه أن يرفضها؟ هل يستطيع أن يتخير منها ما يخدم مجتمعه، ويعارض ما يمكن أن يكون خطيراً وضاراً على مجتمعه؟ في الحقيقة إن إنسان هذا العصر محاط بجملة من المخاطر، وغارق في أزمة أزوم، وهي أزمة السؤال عن الهوية. كيف يمكننا أن نحافظ على هويتنا الوطنية دون أن نكون منعزلين عما يجري حولنا؟

 

يجب علينا أن نكون أصحاب فكر حر منفتح على كل التجارب الإنسانية، نتأثر ونؤثر من دون تعصب أو مركبات نقص. يجب أن نقف من الآخر موقف الند، ويجب أن نكون جديرين بما لدينا من حضارة. ومن هذا المنطلق لا بد أن يبدأ الحوار، ومهمتنا أن نظل مستغربين بفطريتنا، أي مستوعبين لعلاقتنا بالغرب ونحن واثقون بأنفسنا، فنحاوره محاورة الند للند. يجب ألا نشعر بالدونية تجاه الآخر الغربي، وأن نستلهم من التراث ونؤصله ونفيد مما ينتجه هذا الغربي، مع التذكير بأن هذا الغربي اتكأ في الماضي على لغتنا التي كانت جسراً لنقل المعارف من الحضارات القديمة إليه، ويجب ألا يغيب عن أذهاننا أن العالم أفاد من علومنا الطبية والفلكية والرياضية وغيرها، وقدم للبشرية علوماً ومعارف شتى ... لا ضير أن نمتح من علومهم اليوم وندمجها بعلومنا، فالعالم اليوم يعيش ثورات علمية هائلة لا يجوز البتة أن نقف حيالها مكتوفي الأيدي، بل يجب أن نسهم في تقدمها وتطورها وتصنيفها. العلم نوعان، أحدهما ابتكاري واختراعي، والثاني تصنيفي، وإذا كنا غير قادرين على خوض غمار النوع الأول، لا بأس أن يكون لنا شأن كبير في النوع الثاني، ولا يحتاج ذلك سوى للمتابعة والمثابرة والاجتهاد والله الموفق.

 

إرسال تعليق عن هذه المقالة