مكتبة عابرة للبلدان... شاهدة على ستة عقود من شغف عالمٍ أعاد للحضارات صوتها
زارها: محمد الإسماعيلي
في بيتٍ هادئ من بيوت نزوى العريقة، تقف مكتبة الأستاذ الدكتور نائل حنون كأنّها مدرسة صغيرة للمعرفة؛ مكان يفوح بعطره الخاص، رائحةٌ دافئة تجمع عبق الورق العتيق ونَفَس الزمن الطويل الذي مرّ على صفحات الكتب، فتُشعر الداخل أنّه لا يدخل غرفة، بل يعبر بوابة نحو ذاكرة تمتد لأكثر من ستة عقود. ألوان المكتبة، بتدرّجات الخشب والورق وأغلفة المراجع، تنسج لوحة بصرية أخّاذة؛ لوحة تشبه حياة صاحبها: هادئة في ظاهرها، عميقة في باطنها، ومضيئة بما تختزنه من كنوز.
على أيديه وبين أنامله، تبرز مسبحة الدكتور نائل حنون؛ ليست مجرد مِسبَحة للتسبيح، بل قطعة تنطق بلسان حضارة بلاد الرافدين، تحكي أصداء العصور البابلية والآشورية والسومرية. كل حبّة فيها كأنها امتداد لرقيم طيني مسماري، أو جزء من ذاكرة عالمٍ عاش نصف قرن بين النقوش القديمة ولغاتها المندثرة.
في رفوفٍ وترحال
وهذه المكتبة لم تولد في نزوى؛ بل بدأت رحلتها الأولى في العراق، حيث تأسست من كتب ومراجع الدراسات المسمارية، ثم انتقلت بصاحبها تدريجيًا إلى كندا، ومنها إلى سوريا، حتى استقرّت أخيرًا في سلطنة عُمان. هي مكتبة هاجرت مثلما يهاجر العلماء: تحمل معها تاريخًا كاملاً، وتترك في كل محطة أثرًا ومعرفة وذكرى.
بدأت قصة الدكتور نائل مع الكتب منذ الصف الثالث الابتدائي في أواخر خمسينيات القرن الماضي؛ ومنذ ذلك الوقت ظلّ الكتاب رفيقًا وملاذًا ونافذة لا تتوقف إطلالتها عن الإشعاع. لم تكن مكتبته مجرّد تجميعٍ لمجلدات، بل مشروعَ عمر، تشكّل لبنة لبنة حتى تجاوزت اليوم ألفي كتاب باللغات العربية والألمانية والإنجليزية، تتجاور فيها المراجع الأكاديمية، والكتب النادرة، والقصاصات التي تنتظر أن تُبعث إلى النور.
تحفظ ذاكرة
ولعلّ من أجمل ما يلمسه الزائر في هذه المكتبة تلك الكتب التي تحمل إهداءات بخط اليد، ورسائل صغيرة دوّنها أصحابها على الصفحات الأولى، كالشهادات التي ظهرت في بعضها؛ مما يضفي على المكتبة روحًا إنسانية خاصة، ويجعل الكتاب ذاته قطعة من ذاكرة مشتركة بين مؤلّفه ومالكه. إنها كتب لا تُقرأ فحسب، بل تُصافح القارئ برسالة قبل أن تفتح له أبواب المعرفة.
لكن الكنز الحقيقي في هذه المكتبة ليس عدد كتبها، بل ما تخفيه من مسودات ودفاتر ومشاريع غير مكتملة؛ فهذه المسودات، متى لمسها قلمه، تتحول إلى بحوث تُغني دراسات علم الآثار، وتضيف للمعرفة الأكاديمية حول اللغات القديمة، ولا سيما اللغة السومرية التي برع فيها وتميّز بعلمها.
وتحمل المكتبة قيمة أخرى لا تقل أهمية: دورها في تعليم الباحثين كيفية التعامل مع المصادر الأصيلة. فمراجعها تحوي رموزًا ولغات حضارات اندثرت منذ آلاف السنين، لا يستوعب مفاتيحها إلا المتخصص. ولذلك استفاد من هذا المكان طلبة العلم من جامعات عديدة، كانوا يجدون فيه مدرسة صامتة تُعلّمهم كيف يُقرأ أثرٌ قديم، وكيف يُترجم رمز موغل في القِدَم، وكيف يُعاد بناء معنى من نقشٍ أو رقيم.
تاريخًا يمشي على أوراق
وفي زوايا المكتبة ملفات تحتوي على قصاصات وملاحظات لم تُنشر بعد، لو خرجت إلى عامة الباحثين لأصبحت مراجع فريدة في توثيق أعمال الحفر والتنقيب والتحقيق العلمي؛ مشاريع تنتظر فقط أن يُكتب لها الوقت، لتتحول إلى فهارس مرجعية ومصادر تأسيسية.
أما ترتيب المكتبة وتصنيفها فهما جزء من جمالها الداخلي؛ فهي منظّمة بأبواب دقيقة، من بينها خزانة تُعنى بالحضارات العربية، وأخرى بعلوم اللغة العربية، وفي مقدّمتها (لسان العرب) لابن منظور بطبعته الموسوعية الفاخرة، كأنّه يقف شامخًا يتوسط هذا العالم الكبير من المعارف والألسن.
إن زيارة مكتبة الدكتور نائل حنون ليست زيارة لرفوف وكتب فحسب؛ إنها درس في معنى أن يُكرّس الإنسان عمره للعلم، وأن يحوّل رحلته الشخصية إلى إرث معرفي يستفيد منه الباحثون والطلبة ودارسو الحضارات. إنها مكتبةٌ تُلخّص روح عالمٍ حمل المعرفة معه أينما ارتحل، حتى استقرت أخيرًا في نزوى، لتضيف إلى إرثها إرثًا جديدًا، وإلى تاريخها صفحة مضيئة من صفحات العلم.