الجزء الثالث: قراءة تأمُّلية في كتاب (القيادة الجماليِّة في المؤسسات التعليميِّة)
داؤد بن سليمان الظفري
إنّ التصوُّرَ الإسلامي للجمال نابعٌ من نظرة الإسلام إلى الكون والحياة؛ فهو تصورٌ متكامل للوجود بمادِّياته، ومعنوياته، وروحانيِّاته، وما يدبُّ كُلهُ على هذا الكون سواءٌ في الأرض أم السماء. ونجد القرآن الكريم يدعو الإنسان إلى النظر في آيات الله في الكون مع استشعار القدرة المُبدعة التي تُوقِظ النفس من عاداتها؛ قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون}، وقال تعالى: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}.
فالمُتأمل في القرآن الكريم يُلاحظ عَرض الظواهر الكونية بما يُحقّق إحساس الإنسان بالجمال لِيُكوِّن إحدى سمات شخصيِّته، وليُؤكد أنّ الفطرة الإنسانية ذوّاقة للجمال، ومُحِبة للترفيه، والتمتع بمكونات الكون؛ فالجمال فطرةٌ طبيعة، وسمة من سِمات الوجود: "الله جميل يحب الجمال"، وقد لفت القرآن الكريم النّظر إلى الجمال بالحديث عن آثاره في العين أو النفس؛ قال تعالى:{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}. والجمال سِمةٌ واضحة في الصنعَة الإلهية؛ قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ}، فالجمال مقصودٌ قصدًا في بناء هذا الوجود وتصميمه. ومنهج القرآن دائمًا يدعو الإنسان إلى أن يستمتع بالجمال في شتَّى صوره؛ لذلك نجد تكرار الدعوة إلى التأمُّل والنّظر في هذا الجمال.
وقد تَحّدَّث القرآن الكريم عن عالم السماء، ولَفَت النّظر إليه ووَجّه النّفس إلى جمال السماء؛ قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ۖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ}. والقرآن الكريم في دعوته إلى النّظر إلى السماء لا يَنفي العيوب عنها فقط بل يدعو إلى تكرار النّظر في محاولة إن استطاعوا إيجاد شيء من العيوب أم الخَلل في ذلك، ومن هنا نستنتج أنّ معاني الجمال أن يكون الشيءُ خاليًا من العيوب بعيدًا عن الخلل والتنافر. وأشار القرآن إلى عملية التَّزين الإلهية ؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ}، وقال عز وجل: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ}. والزينة المقصودة في الآيات هي آياتُ إبداع الله.
وقد تعدَّدت جوانب اهتمام الإسلام بالجمال؛ فمنها ما يخُصُّ الملبس والمأكل والمظهر وحسن الهيئة والتعامل والسلوك واختيار الصاحب وأداء العمل وأداء الأمانة والسلام وحُسن الجوار والصفح والعفو والهجر والصبر. إن جمال السلوك الإنساني أحد جوانب الجمال بمفهومه الإسلامي، فالحكم على أدب السلوك لا يَتمُّ إلا بتطبيق مبادئ الجمال في ميدان العلاقات الإنسانية وآداب السلوك الحميدة، وأنماط السلوك المُلَائمة في مواقف مُعيّنة؛ لذلك دَعا الإسلام إلى رؤية الجمال والمُتعة به وممارستِهِ في السلوك؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. فمن خلال تَأمُّل الآية نَجِد أنّ المسلم شخصٌ حسّاسٌ صاحِبُ ذوقيِ فهو لا يُقدم على إزعاج أحَدٍ حَتَّى لو كان قريبًا؛ فالمسلمُ حريصٌ على جمال سُلُوكِه وتعامُلِه مع الناس وفي حسه وشعوره، والسنة النبوية تدعو المسلم إلى إتقان العمل، يقول الرسول ﷺ: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذا عَمِلَ أحدكم عملًا أَنْ يُنْقِنَه". وإتقان العمل يعني أن تصل به إلى أفضل حال ممكِن وهنا يتحقق الجمال.
ودعا الإسلام الإنسان أيضًا إلى التَّجَمُّل والزينة في الملبس والشكل وحُسنِ الهيئة والهندام الجميل؛ وأنكر على الذين يُحرِّمون اتخاذ الإنسان للزّينة، وَوَضَّحَ الإسلام أَنَّ اتخَّاذَ الوسائل كافة لِصُنع الجمال أمر مطلوب ومرغوب فيه. ووَضَعَ الرَّسول ﷺ أيضًا معايير وضوابط للجمال من أجل تربية المسلم على حب الجمال والإحساس به والبعد عن الجمال الزائف الذي يجعل صاحبه مُتَكَبرًا مُتَعَاليا بَطِرًا.
فالإسلام في مضمونِه توجيهٌ أخلاقيٌ، فلا نكاد نقفُ عند أمرٍ أم توجيهٍ إلا للجمال فيه نصيب؛ فَنجد أوامر القرآن التي تُوجِّه المسلم لإحسان العمل والقول، وتُوجّهُه إلى العمل الصالح؛ قال عز وجل: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، ودعا الإسلام المسلمُ إلى خفض الصوت؛ فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}، كذلك يكرهُ الإسلام قُبح القول؛ يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ}.
وجَّه الإسلام أيضًا العناية بالجمال حتّى وقت الشّدِّة ليكون الصّبر جميلًا، والصّفحُ جميلًا، والهَجر وإن لم يكن جميلًا لكنَّه سيؤدّي إلى الجمال عندما يكون الفِراق على وفق تَذكّر حُسن العِشرة، وعدم إنكار الفضائل، والبُعد عن الأذى؛ قال تعالى: {وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ۚ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ}، وقال سبحانه: {وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا}، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ۖ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}.
يَنُصُ تعريف الإسلام للتربية الجمالية على أنَّها:"هي التي تُرَبِّي في الإنسان سُموَّ الذوق الذي يتجسَّد في أنماط السلوك، والعلاقات الاجتماعية، كما تتجسَّد لدى الإنسان، وتشدُّه إلى مبدع الخلائق والجمال في هذا الوجود؛ هو الله تعالى ودليل عظمته، والتربية الجمالية الإسلامية تدعو إلى التّأمُّل في عظمة الخالق، والتأمل في جمال الكون، وإبداعات الخالق؛ فَتَقْوَى صلة الإنسان به وتزداد حاسّتُه الجمالية".
إنَّ من أهداف التربية الجمالية في الإسلام أنها تقوم بتهذيب سُلُوكات الفرد الأخلاقية للتعايش مع الآخرين، وتُرقّيهِ حضارًة وثقافة؛ فتنمِّي فيه روح الإبداع والتّحضُّر ليرتقي بمجتمعهِ، كما أنّها تسير جنبًا إلى جنب مع التربية العامّة، فقد أصبحت ضِمن المنهجين التعليمي والتربوي، ليوجد فردًا متكامِلًا ومُتوازنًا. فتعريف الجمال في الإسلام يتضمن ثلاثة معانٍ: الأول هو جمال الصورة، ويمكن أن نُعبّر عنه بجمال الظاهر، عندما يكون الإنسان جميلًا أم وسيمًا، كشكله وما يتبع ذلك، والمعنى الثاني هو جمال الباطن؛ الذي يُقصد به جمال الصورة الباطنية، فالإنسان ليس جسدًا فَحَسْبُ ؛ بل يُقْصَد به أيضًا جمال الأخلاق الباطنة منها: حُسنُ النيِّة، والطيبة، والصِّدق، والصلاح، والسلامة من الحِقد والكُره والبغضاء، والمعنى الثالث هو جمال الفعل؛ الذي هو أثر من الصورة الباطنة في الغالب، لكنّه الشَّيءُ المُشَاهَدُ؛ كتصرُّفَاتِهِ وأقواله وأعماله وعلاقاته مع الآخرين.
المرجع:
الذهلي، ربيع بن المر. (2025). القيادة الجمالية في المؤسسات التعليمية. دار المسيلة للنشر والتوزيع.