السنة 20 العدد 194
2025/11/14

سيرةُ التحوّل الهادئ في الإنسان

تأمّلٌ في الرحلة: من الانضباط الذي يُقهَر إلى الانتظام الذي يُحرِّر

 

 

كتبت: زينب بنت عبدالله التوبية

 

 

ليس الانضباطُ غايةً في ذاته، بل هو القوّةُ الغاشمة التي تدفع البابَ بعزمٍ لتفتح الطريق. قوّةٌ تُستنزَف مع كلِّ قرار، وتتآكل تحت ضغط الإرهاق وتراكم الاِلتزامات؛ فإذا خبت جذوتُها، تخلّى المرءُ عن عهوده وعاد إلى عاداته الأولى. أمّا الانتظامُ فهو فنّ البقاء في الميدان: نحّاتٌ صبورٌ يَمسحُ بإزميل التكرار على صخرِ الدماغ، فَيصوغ منه مساراتٍ أوضحَ وأشدّ متانة. أن تحضرَ مرّةً بعد أخرى - وإن لم يكن حضورك تامًّا - فأنت لا تُصارع دماغك؛ بل تُعيد تشكيله، ولا تُغالِب نفسك؛ بل تُصادِقها على إيقاعٍ جديد.

 

تُخبرنا علومُ الأعصاب أن قشرةَ الفصّ الجبهي - وهي مقرُّ المفاضلةِ والكبحِ واتّخاذِ القرار- عاليةُ الكلفةِ أيضيًّا؛ تُنهكها الضغوطُ المتراكمة، ويُثقِل أداءَها "إرهاقُ القرار". حين نُعلِّق التغييرَ كلَّه على عاتق الانضباط، كأنّنا نُقحِم أنفسَنا في ماراثونٍ يوميٍّ من الجهد الواعي: نَستهلك الجلوكوز والناقلات العصبية - في مقدّمتها الدوبامين - إلى أن ينفد الوقود، فينهار العزمُ انهيارًا مدوّيًا تعقبه لحظةُ عارٍ ولومٍ للذات، فتضيع الخطوةُ الآتية قبل أن تولد. هنا يتقدّم الانتظامُ بحلٍّ أقلّ صخبًا وأعمقَ أثرًا: يبني "التلقائية" لبِنةً لبِنة، حتى يصير ما كان يتطلّب انتباهًا كاملاً ضجيجًا خلفيًّا لا يكلِّفك شيئًا يُذكَر.

 

في قلب هذا التحوّل تعملُ قاعدةٌ عصبيةٌ بسيطة: "التقويةُ طويلةُ الأمد" تربط بين العصبونات كلّما تآزر إطلاقُها العصبي (تنبيهُها الكهربائي)، فتغدو الإشارةُ أسرعَ وأوثق. ومع التكرار يتحرّك السلوكُ تدريجيًّا من قشرة القرار إلى البُنى الأعمق في الدماغ - أي إلى العُقَدِ القاعدية، حيث تُخزَّن خرائطُ العادات وإشاراتُ الإجراءات. هناك، في حراسةِ المخطَّط (Striatum)، يُصبح الفعلُ مسارًا ممهّدًا: تتمرّنُ لأنّك متمرّن، تكتبُ لأنّك كاتب، تتأمّلُ لأنّك ممّن يلتقون أنفسَهم في الصمت. ليس تبدّلًا في "ما تفعل" فحسب، بل هو انعطافٌ في "مَن تكون": انتقالٌ من هويةِ مَن يُجبِر نفسَه على الفعل، إلى هويةِ مَن يفعله لأنّه جزءٌ أصيلٌ من بنيته العصبية.

 

من ينتظر الدافعَ ليبدأ، يُفوّتُ اللحظة التي تخلق الدافع. فالدافعُ زائرٌ لطيفٌ لا يُراعي المواعيد، والانضباطُ وقودٌ ينفدُ كغيره.


أمّا الانتظامُ فخُطّةُ بناء: تكرارٌ استراتيجيٌّ يراكم فوائدَ صغيرةً لا تُرى في اليوم، وتتكشّف في الشهر والعام. تفويتُ يومٍ لا يهدم جسرًا بُنيَ على امتدادِ أسابيع وأشهر، كما أنّ يومًا بطوليًّا لا يُقيم صرحًا لم توضع له أساسات. الأفعالُ الصغيرة، عشرُ دقائق من قراءةٍ مركّزة، تمارين يوميّة، جولةٌ قصيرة، إذا أنك اصطحبتها كلَّ يوم، أضحت قانونًا من قوانينك الأصيلة، وفتحَت لأفعالٍ أكبر أبوابَها.

 

ومن ثمرات الانتظام أنّه يُحرِّر طاقةَ العقل من كلفة "مجرد الحضور" إلى قدرة "الحضور المُجدي". حين يتحوّل الدخول إلى مكتبك، وفتحُ الدفتر، وارتداءُ حذاء الجري، إلى سلسلةٍ تلقائيةٍ لا تحتاج تفاوضًا.

كما تُستعادُ مساحةٌ واسعةٌ في ذاكرتك العاملة لاشتغالٍ أنفع، لتفكيرٍ أبعد، لحلِّ مشكلاتٍ أعمق، ولاِستغراقٍ في عملٍ ما بلا ضوضاء داخلية. يَهوى الدماغُ الأنماط، ويُكافئ قابليةَ التنبّؤ بمقاومةٍ أقل؛ فإذا استقامَ الإيقاعُ قلَّ الاحتكاك، وإذا قلَّ الاحتكاكُ اندفع العزمُ في مسارٍ أوضحَ وأكثر استدامة.

 

ولكي يُترجَم هذا الفهمُ إلى ممارسة، نُصمِّم عتبةَ البدء إلى حدٍ منخفض يجعل البدءَ أسهلَ من التأجيل: صفحةٌ واحدة، خمسُ دقائق، تمرينان. نُحاذي الوقتَ نفسَه والمكانَ نفسَه قدر المستطاع؛ فالثباتُ الظرفيّ يثبّت المسار العصبيّ. إذ نزهو بالتقدّم لا بالكمال، ونُعامل التعثّر جزءا من المنحنى لا حُكما نهائيّا. ومع الأيام، يُصبح السؤالُ: "ما الآتي لِأُدرِّب دماغي عليه؟".

 

ليس في هذا انحياز ضدّ الانضباط؛ فالانضباطُ شرارةُ البدء حين تغيبُ الشمسُ عن مزاجنا؛ لكنه ليس وقودَ المسير. الشرارةُ تُوقِد؛ والانتظامُ يُبقي. وإذا كان الانضباطُ يضغط على الباب ليُفتح، فإنّ الانتظامَ يُبدِّل مفاصلَ الباب حتّى ينفتحَ دون عناء فيما بعد. وإذ تُتقن هذا الميزان؛ فلن تقضي عمرك في ساحةِ صراعٍ مع ذاتك؛ ستنتقل إلى ورشةِ البناء، لبِنةً صغيرةً في مكانها الصحيح في كل يوم، مطمئنًّا إلى أنّ الصرحَ يعلو ولو لم يلحظه عابر.

 

لا يُغيِّر الانتظامُ جدولَك فحسب، بل يُعيدُ كتابةَ شيءٍ منك في دماغك. إنّه وعدٌ صامتٌ بأنّ ما كان مستحيلاً بالأمس، إذا وُضع على سكة العادة، يغدو في الغدِ أمرًا حتميًّا. فاِمضِ إلى ما تريدُ أن تكونه، بخطىً صغيرة متتابعة؛ واتركْ للبِنْية العصبية أن تتكفّل بما تبقى. وما أن تلتفت بعد حين، ستلحظُ أنّك لم تعُد الشخصَ الذي يُهذّب نفسَه ليتمرّن أو يكتب أو يتأمّل؛ لأنّ هذا ما استقرَّ عليه جوهرك.

إرسال تعليق عن هذه المقالة