السنة 20 العدد 193
2025/10/22

حوكمة مياه الأفلاج في عمان: إرث حضاري، تحديات معاصرة، واستدامة مستقبلية

 

 

أمجد بن سالم الرواحي

كرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج وعلم المياه الاجتماعي 

 

 

تعدُّ المياه موردًا أساسا للحياة والتنمية، ويزداد الاهتمام اليوم بإدارة هذا المورد الثمين بأسلوب مستدام وعادل. ومن بين النماذج الرائدة في هذا المجال، يبرز نظام الأفلاج في سلطنة عمان كونه أحد أقدم وأكفأ الأنظمة التقليدية لتوزيع المياه وإدارتها. وهي ليست مجرد قنوات لنقل المياه من المصدر إلى منطقة الاستخدام بل منظومة اجتماعية وثقافية واقتصادية متداخلة ومترابطة ارتباطا وثيقا فيما بينها. ويقدر عدد الأفلاج في السلطنة بأكثر من 4,000 فلج يستخدم لري المحاصيل الزراعية والاستخدام الآدمي. ونتيجة للتغيرات مثل: قلة الأمطار والطلب المتزايد على الموارد المائية، تواجه الأفلاج ضغوطا تتطلب حوكمة فعالة تضمن استدامتها.

 

ويهدف هذا المقال إلى عرض مفهوم الحوكمة في سياق الأفلاج والتحديات، ومقترحات السياسات. 

مفهوم الحوكمة في السياق المائي 

حوكمة المياه تعني مجموعة القواعد، والمؤسسات، والسياسات، والممارسات التي تنظم من يملك المياه، ومن يديرها، ومن يستخدمها، وكيف توزع، مع ضمان الشفافية والعدالة والكفاءة والمساءلة.

 

أما إذا ما طبّقنا الحوكمة في حالة الأفلاج، فقد تمتد لتشمل:

 • القوانين أو الأعراف التي تنظم أوقات التوزيع (الدور / التناوب) بين أصحاب الحصص.

 • حقوق الملكية أو الاستخدام (من يملك حصة في الفلج، وكيفية توزيع الحصص مثل الأثر أو البادة أو غيرها من الوحدات المتعارف عليها في توزيع حصص الماء. 

• الصيانة المشتركة لقنوات الأفلاج، ومصادر المياه بالتعاون مع المجتمع المحلي. 

• دور الدولة أو الجهات الحكومية في التنظيم، والتشريع، وإصدار تراخيص التمديد أو التحديث، وإصدار الخرائط، وحفظ البيانات.

 

التحديات المعاصرة في حوكمة الأفلاج

 

الأفلاج كانت ولا تزال مصدرا مهما للمياه في القرى والمناطق الزراعية؛ لكنها اليوم تواجه صعوبات عدة تجعلها أقل قدرة على تلبية احتياجات الناس، وسوف نتعرف على أهم هذه التحديات:

  1. النمو السكاني وتغير نمط الاستهلاك: ازدياد عدد السكان وتوسع المدن يزيد الطلب على الأراضي السكنية ومياه الشرب، مما يضغط على الموارد. كما أن استخدام المياه أحيانا لا يتناسب مع قدرة الفلج التقليدية.

  2. التغير المناخي وقلة الأمطار: الجفاف وقلة هطول الأمطار يؤديان إلى ضعف تغذية الأفلاج ونقص منسوب المياه الجوفية.

  3. الصيانة والتكلفة: الأفلاج تحتاج إلى صيانة مستمرة تتطلب جهدا ومالا وخبرة، لكن في الغالب لا تتوفر ميزانيات كافية، أو تتأخر الجهات المختصة في تنفيذ أعمال الصيانة. 

  4. التحول الرقمي والحاجة إلى بيانات دقيقة: كثير من الأفلاج غير موثقة بشكل كاف، وهناك حاجة إلى تحديث البيانات والخرائط، ومعرفة حصص المياه وتوزيعها الزمني بدقة.

  5. التشريعات والتنظيم: وجود قوانين تنظم إدارة الأفلاج مهم لضمان حقوق الجميع؛ لكن بعض التشريعات تتأخر أو لا تشمل الجوانب التقليدية والعرفية.

  6. التغير الاجتماعي والثقافي: انتقال وخروج الأجيال الشابة من القرى إلى المدن، وتراجع الاهتمام بالزراعة وصيانة الأفلاج، أدى إلى نقص الخبرة التقليدية في إدارتها.

 

مبادرات حاليا في سلطنة عمان لدعم الحوكمة 

• نظام إدارة الأفلاج الإلكتروني (LAMD): تعاون بين وزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه، وكرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج في جامعة نزوى؛ لتوفير موقع وتطبيق ذكي لمعرفة أوقات الدور، والحصص وتحديث البيانات.

 • تحديث الأوامر التشغيلية لتأهيل الأفلاج في محافظات، مثل: شمال الشرقية بتكلفة مميزة، وإصدار تراخيص صيانة وترميم. 

• ندوات ومؤتمرات مثل "اقتصاديات الأفلاج: إرث حضاري وتنمية مستدامة" دعمت توصيات لتقوية الدور المؤسسي والمجتمعي، ومراجعة التشريعات، ووضع دليل استرشادي هندسي، وتحديث الخرائط.

 

مقترحات لتعزيز الحوكمة والاستدامة 

1. التشريعات والسياسات

من المهم وضع قوانين واضحة تنظم حصص المياه وتحدد أوقات استخدامها، وتوضح الطريقة القانونية لبيعها أو انتقالها بين الأفراد. كذلك يجب تطبيق عقوبات على المخالفين وتشجيع الملتزمين بهذه القوانين، حتى تسود العدالة ويستمر استخدام الموارد المائية بطريقة مستدامة تفيد الجميع.

2. المؤسسات والتنظيم

يعد تقوية دور وكيل الفلج والمجالس المحلية للأفلاج أمرا مهما لضمان إدارة فعالة ومستدامة، وذلك بمنحهم صلاحيات أكبر في اتخاذ القرارات وتنفيذها. إلى جانب أن تعزيز التعاون بين الجهات الحكومية المعنية بالمياه والزراعة والتراث والمجتمع المحلي يسهم في تحقيق إدارة متكاملة للأفلاج، تجمع بين الخبرة التقليدية والدعم المؤسسي الحديث.

3. التمويل والمحاسبة

يقترح إنشاء صناديق محلية تخصص لتمويل أعمال صيانة الأفلاج وتطويرها، بما يضمن استمراريتها وكفاءتها. ويجب تعزيز الشفافية في إدارة هذه الأموال، ومحاسبة المسؤولين عن أعمال الصيانة، وضمان استخدام العائدات الناتجة من بيع أنصبة المياه أو الأنشطة السياحية بطريقة عادلة تعود بالنفع على المجتمع المحلي.

4. التقنية والرقمنة

من المهم تطوير أنظمة إلكترونية حديثة لتوثيق الأفلاج وتسجيل حصص المياه وجدول الأدوار بشكل دقيق ومنظم. كذلك ينصح باستخدام تقنيات متقدمة مثل أجهزة الاستشعار لمتابعة تدفق المياه وجودتها بشكل مستمر، إلى جانب إعداد خرائط رقمية دقيقة توضح مواقع الأفلاج ومصادر تغذيتها؛ مما يسهل إدارتها وحمايتها.

5. المجتمع والتوعية

يعد توعية الجيل الجديد بأهمية الأفلاج خطوة أساسية للحفاظ عليها، وذلك بتنفيذ برامج تعليمية وإضافتها في المناهج الدراسية لتعرفهم بدورها في الحياة والزراعة. ويجب تشجيع أفراد المجتمع على المشاركة في صيانة الأفلاج وحمايتها، ودعم المشاريع السياحية التي تبرز قيمتها التاريخية والثقافية؛ لما لهذه المشاريع من دور في تعزيز الوعي وتوفير دعم مالي يسهم في استدامة الأفلاج.

6. التكيف مع التغير المناخي

في ظل التغيرات المناخية، من الضروري تنظيم استخدام المياه في فترات الجفاف بطريقة مرنة وعادلة تضمن استفادة الجميع. ويجب دراسة مصادر تغذية الأفلاج وصيانة البئر الأم لحمايتها من التلوث والجفاف، إلى جانب البحث عن أساليب زراعية حديثة تعتمد على تقنيات توفر المياه وتستهلك كميات أقل؛ مما يساعد في الحفاظ على الموارد المائية واستمرار الزراعة بشكل مستدام.

 

في الختام ... حوكمة مياه الأفلاج ليست رفاهية، بل ضرورة للحفاظ على إرث حضاري، وتأمين الاستدامة المائية، وضمان العدالة بين المستخدمين بين الأجيال، إذ إن الجمع بين المعرفة التقليدية والمفاهيم الحديثة في الحوكمة يمثل طريقًا مثاليًا للحفاظ على هذا النظام الفريد وضمان استمراريته للأجيال القادمة. عمان، بخبرتها الغنية وتقارب المؤسسات والمجتمع، قادرة على تحويل هذا النظام التقليدي إلى نموذج مستدام يلهم غيرها من المجتمعات في المواقع المماثلة. ويتطلب المستقبل منا توازنا بين الأصالة والتحديث، وبين العرف والقانون، وبين التقنية والإنسان. 

إرسال تعليق عن هذه المقالة