مكتبات زرتها (9)
مكتبة تضيء بالعِلم: سيرة رفوفٍ حملت رافدا من ذخائر العربية
زارها: محمد بن علي الإسماعيلي
في زوايا البيوت، تختبئ أحيانًا مكتباتٌ صغيرة لكنها تحمل من التاريخ أروقة تُضاهي مكتبات الجامعات. وليست المكتبةُ جدرانًا تتكدّس عليها الكتب، بل كائنٌ حيٌّ يتنفّس بالحبر، ويشيخ مع أصحابه بالقراءة والمطالعة والبحث، ويورق في أعمار الآخرين بالعلم. تلك هي مكتبة الوالد، التي بدأت ملامحها تتكوّن في نهايات العقد الأخير من القرن الماضي، حين كان شغفُه بالمعرفة أعظمَ من المقتنيات، وحين كانت الكلمةُ تُقتنى لتُقرأ لا لتُعرض؛ فنشأت مكتبته بين يديه في زمنٍ كانت فيه المؤلفات الورقية والكتبُ الدراسية الجامعية هي المعينَ الأصيل للباحث، فجمعت من ذخائر العربية ما تنوءُ بحمله مكتبات عامة كثيرة اليوم.
وفي تلك الرفوف البيضاء التي شهدت كتبها تنقّلات بين بيوت عدة وتبدّل الأمكنة، ظلَّ الحضورُ العلميُّ ثابتًا لا يتزحزح؛ إذ لم تكن المكتبةُ متاعًا يُنقل، بل روحًا ترافقُ الأسرة في كلِّ انتقال. وتتنوّع مصنّفاتها ومؤلفاتها بين علوم اللغة العربية وآدابها؛ من نحوٍ وصرفٍ وبلاغةٍ ونقدٍ وأدبٍ وشعرٍ وتاريخٍ وتراث. وفيها من "أمّهات الكتب" ما يشهد على جِدِّ صاحبها في التحصيل، ومن دواوين الشعر ما يشي بذائقته الأدبية، ومن المعاجم وأعاريب القرآن الكريم وتراجم الأعلام ما يدلّ على اتساع رؤيته الثقافية وعمق صلته بجذور العربية.
ولأنها لم تُنشأ للزينة، بل لخدمة العلم ومريديه، فقد غدت مقصدًا لطلبة المعرفة من شتّى التخصّصات، إذ أفاد منها الباحثون، وتفيّأ ظلالها الدارسون في مراحل متعددة من التعليم المدرسي والجامعي والعالي، حتى صار بين دفّاتها أثرٌ لا يُقاس بعدد الكتب بل بعدد من أضاءت لهم طريق الفهم، وقد مرّت زهاء ثلاثة عقودٍ منذ أن وُضع أول كتاب على هذه الرفوف، وهي تُؤوي بين جنباتها أصوات العلماء البلاغيين والنحاة والأدباء، كأنها مجلسٌ مفتوح لا يغلق بابه.
لم تكن مكتبة والدي يوما مجرّد جمعٍ عشوائيٍّ للمؤلفات، بل مشروع فكري متّسق، فالمكتبات تُشبه أصحابها؛ وهذه المكتبة تحمل طابع صاحبها في الانتقاء، وفي رصانة الذوق العلمي، وفي ترتيب الأولويات المعرفية، تجد فيها التفسير بجوار البيان، والنحو إلى جوار النقد، والبلاغة تسامر الشعر، وإذا مررت بعناوينها، أدركت أن صاحبها كان يرى في اللغة العربية كائنًا كاملاً لا يتجزأ بين صرفٍ واشتقاقٍ ومجازٍ وتشبيهٍ، بل هو نسيجٌ تتكامل خيوطه في نَفَسٍ واحد.
ولأنها مكتبةٌ تَشهدُ على زمنٍ وذائقةٍ، فإنها تُعدُّ مرجعًا في حدِّ ذاتها؛ مرجعًا على مستوى تكوينها، وعلى مستوى ما تعبّر عنه من ثقافة جيلٍ نشأ على الورق قبل أن تغزوه الشاشات. إنها تذكّر بأنَّ الكتاب كان يومًا هديةً ثمينة، وبأن رفوف البيت كانت ميدانًا للمعرفة لا للزخرفة. في زمنٍ صار فيه الحبر رقميًّا، تبقى هذه المكتبة شاهدًا على صبر القراءة في زمن الورق، وعلى لذّة التقليب البطيء للصفحات التي تحمل رائحةَ العمر وتواقيع الشراء والإهداء وبصمات الأصابع وفواصل التحديد.
وتجد في أركانها أيضًا مقرّرات الجامعات والمعاهد والمراكز العلمية والمدارس من مختلف البلدان العربية والإسلامية، أبرزها: مصر واليمن والسودان وليبيا والعراق والكويت والسعودية؛ مما يدلّ على أن مؤسسها لم يكن قارئًا محليًّا، بل ابنًا للحاضرة العربية الكبرى، يتغذّى من مناهلها جميعًا. وهكذا تكوّنت شخصيّة المكتبة من تفاعل مدارس النحو في البصرة والكوفة، ومن مذاهب البلاغة في مصر والشام، ومن مدارس النقد في المغرب والمشرق؛ لتغدو صورةً مصغّرةً للعقل العربي في تنوّعه ووحدته معًا.
ولئن تجددت رفوفها أكثر من مرة بسبب التنقّل، فإن التجدد لم يكن ماديًّا فحسب، بل فكريًّا أيضًا؛ إذ تتبدّلُ الطبعات وتزداد المصادر، وتتسع دائرة القراءة كلّما توسعت المساحة؛ حتى ليُخيَّل للناظر أن هذه الرفوف البيضاء إنما هي صفحاتُ عمرٍ مفتوح، تُضاف إليه فصولٌ جديدة كلّما نُشِر كتابٌ أو عادت ذاكرةُ قديمة من رفٍّ منسيّ أو فتح معرض للكتاب.
إن مكتبة الوالد ليست مجرّد تراثٍ أسري، بل هي إرثٌ ثقافيٌّ يُسهم في حفظ الوعي العلمي العربي. فمن يقرأ فيها يُدرك أنّ العربية ليست لغةً تُدرّس، بل كيانٌ يُعاش. وبين دفّاتها تتجاور كتب النحو مع كتب السيرة، لتقول إن اللغة حياة، وإن الذاكرة الأدبية لا تنفصل عن الوجدان الإنساني. وفي زمنٍ يزداد فيه البُعد عن الورق، تبقى هذه المكتبة دعوةً صامتةً إلى العودة إلى الأصل؛ إلى القراءة التي تُنضج الفكر، لا التي تستهلك الوقت.
سلامٌ على مكتبةٍ حملت مشروعا اعتنى بلغة الدين والعبادة لغة القرآن الكريم "بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ"؛ فذاك الأديب اللغوي أبو منصور الثعالبي يقول فيها: "من أحبّ الله تعالى أحبّ رسوله محمداً صلى الله عليه وسلّم، ومن أحبّ الرسول العربيّ أحبّ العرب، ومن أحبّ العرب أحبّ العربية التي بها نزل أفضل الكتب... ومن أحبّ العربية عَنى بها، وثابَر عليها، وصَرَف همّته إليها". إنها يدٌ جعلت من جمع كتب العربية رسالةً، ومن حفظها صدقةً جاريةً للعلم واللغة والوطن. وسلامٌ على رفوفٍ لم تَسكن يومًا، إذ لا تزال كتبُها تفتح صفحاتها كلّما اقترب منها قارئٌ صادق النيّة، يُدرك أن الكلمةَ الصادقة لا تموت، وأن المكتباتِ التي تُبنى إيمانًا بالعلم لا تُطفئها السنون، بل تُنير بها أجيالا تأتي من بعد.