السنة 20 العدد 193
2025/10/14

عقلك يقرؤك قبل أن تبدأ تقرأ 

 

رحيمة الجامودية

 

قبل أن تفتح كتاباً أو تتأمل سطرًا يبدأ دماغُك في قراءة المحيط من حولك: الوجوه، الأصوات، المشاعر؛ إذ يعيد تشكيل نفسه مع كل تجربة تمر بها، فكلما تعمقنا في فهمه، أدركنا أن ما نملكه في أدمغتنا أعقد بكثير مما نتخيل، أحيانًا نشعر أننا لا نعرف أنفسنا، وكأننا نسير في ممر طويل من الغموض، نكتشف شيئًا صغيرًا فنفقد أشياء أخرى. فالعقل البشري لا يتوقف عن التعلم ولا يكف عن كتابة نسخته الذهنية عنك، سطرا بعد سطر وفكره بعد فكره، فهو ليس مجرد أداة للتفكير، بل كيان معقد يحدد كيف نرى العالم وكيف نعيش فيه، ما تكشفه الأبحاث الحديثة، وتدعمه شواهد التاريخ والتجارب اليومية، يجعلنا أمام آلة مذهلة لم يكتشف بعد أسرارها ولا خفاياها.

 

هل لاحظت أنك تفقد الحماس لشيء كنت تحبه لمجرد أنه أصبح روتينيا؟ هذا أول ما يثير الانتباه أن العقل يمل بسرعة، حين يعتاد على المألوف، يتوقف عن التفاعل، فأي شيء يتكرر أمامنا يفقد بريقه، كأصوات من نحب والأماكن التي نرتادها يوميًا، على سبيل المثال كل مرة تسلك نفس الطريق إلى العمل، يتوقف ذهنك عن ملاحظة التفاصيل؛ لكن بمجرد أن تغير المسار، تستعيد يقظتك وكأن العالم صار جديدًا، هذا ما يسميه العلماء “التعوّد الحسي”. لهذا كان آينشتاين يغيّر نشاطاته الذهنية والجسدية بين الكتابة والمشي والعزف على الكمان؛ لأنه مدرك أن الدماغ يحتاج دائمًا إلى تنويع التجارب لكي يبقى يقظًا ومبدعًا، الملل هنا ليس ضعفًا، بل إشارة إلى أن العقل يبحث عن جديد كي يواصل التطور.

 

لكن هل البحث عن التغيير وحده يكفي؟ بالطبع لا فالعقل يحتاج إلى المعنى. لا يكفي أنك تتحرك أو تعمل بجد واجتهاد، بل تحتاج أيضا أن تعرف لماذا تفعل ذلك، ولعل أوضح مثال هو ما جرى في غزوة بدر، حين واجه المسلمون عدوًا يَفوقهم عددًا وعدة، لم يكن السلاح هو ما صنع الفرق، بل وضوح الهدف الذي رسمه النبي ﷺ: “إحدى الحسنيين، النصر أو الشهادة”؛ ذلك الهدف منحتهم طاقة مضاعفة تفوق قوة أجسادهم، السؤال هنا: كم مرة فقدت شغفك بسبب عدم ربط الأعمال بغاية كبرى؟

 

أتدري ما أكثر دهشةً؟ أن الدماغ ليس ثابتا وإنما يعيد تشكيل نفسه طوال الوقت، مثل المريض الذي يفقد الكلام بعد جلطة ثم يستعيد القدرة على النطق بعد تدريب يوم طويل ومستمر، فالتكرار مع وجود العاطفة يقوي المرونة العصبية في الدماغ وهذا يجعلني أصدق أن التغيير ممكن في أي عمر، ما دمنا نكرر ونؤمن بما نفعل، فكل فكرة أو مهارة تقوي الروابط العصبية وتنشأ مسارات جديدة؛ مما يجعل الدماغ أكثر تكيفا وقدرة على التعلم في كل الأعمار.

 

لكن لكل شي ثمن، فعقولنا تميل إلى "إكمال الصورة”، فهل لاحظت أحيانا تخيل أنك ترى وجوه في الغيوم؟ أو كيف نَربط بين أحداث ليس لها علاقة ببعضها؟ هذا ميل طبيعي للعقل في البحث عن روابط بين النقاط؛ لكنه قد يخدعنا، فنقع أحيانًا في أوهام إدراكية أو تحيزات غير واقعية، هنا يصبح التفكير الناقد أداة ضرورية تحمينا من الانزلاقات.

 

وتأتي لحظة القرار وهنا يتضح شيء آخر عن العقل البشري: المشاعر تسبق المنطق، الجهاز العاطفي يتفاعل قبل أن تتاح للقشرة الدماغية فرصة للتحليل، فكم مرة شعرت بالنفور أو الارتياح من شخص أو حتى موقف أو قرار؟ لأن العاطفة مهدت الطريق والعقل تبعها بخطوة متأخرة ليبرر؛ لهذا يوصينا النبي ﷺ بضبط الغضب، وقال ليس الشديد بالصرعة؛ إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.

 

أما البيئة، فلها دور في تشكيل ملامح عقولنا ورسمها أكثر مما نتصور: ألوان الغرفة، قوة الضوء، ترتيب الأثاث، رائحة المكان وحتى الكلمات التي نسمعها، كل ذلك يغيّر في طريقة تفكيرنا، وتؤثر في مزاجنا وسلوكنا دون وعي، وتصنع أثرا داخليا لا نلاحظه. وأظهرت الدراسات في علم الأعصاب أن الدماغ يستجيب إلى المحفزات الحسية باستمرار مثل الضوء الطبيعي يزيد من نشاط مراكز الانتباه، بينما الألوان الدافئة تهدئ الجهاز العصبي وتخفف من التوتر، وكما أكدت التجارب البحثية الحديثة، أن الأشخاص الموجودون في بيئات منظمة وهادئة يتخذون قرارات أكثر توازنًا ودقة، مقارنة بمن يعملون في أماكن صاخبة أو مزدحمة بالمثيرات، فالعقل لا يعمل في فراغ بل يتفاعل مع كل إشارة من محيطه، يفسرها ويُعيد تشكيل استجاباته لها.

 

وأخيرًا الجانب الأكثر عمقاً وهو: الدماغ يخاف من الألم ويتجنبه أكثر من سعيه وراء المتعة، كم منا من تمسك بوظيفة لا تناسبه خوفًا من الخسارة؟ وكم رفضنا الخوض في تجارب جديدة خوفًا من الفشل؟ يقول دانيال كانيمان في كتابه التفكير السريع والبطيء: "إن الإنسان يتأثر بالخسارة ضعف ما يتأثر بالمكسب"، هذا يفسر لماذا نخشى التغيير حتى ونحن نعلم أنه قد يفتح لنا أبوابًا واسعة، السبب هو غريزة البقاء عند الإنسان، رغم أنها قد تحبسنا في دوائر من الجمود والخوف.

 

العقل ليس مجرد آلة داخل الجمجمة، بل نعمة ومسؤولية، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: 37]. فالوعي ليس مجرد تفكير بل حضور داخلي.ويبقى السؤال لك: هل تترك عقلك أسير عاداته وخوفه من التغيير، أم تجعله وسيلتك للارتقاء والنهوض لتفكير أعمق، وحياة أكثر وعيًا؟

إرسال تعليق عن هذه المقالة