السنة 20 العدد 193
2025/10/14

من دهاليز الفيزياء إلى عالم النانو 

 

حوار مع الدكتور ماجد الرقيشي 

أجرى الحوار: محمد القرني

 

في زمنٍ تتسارع فيه الابتكارات وتتغير فيه ملامح العالم من حولنا بفعل الثورة العلمية والتكنولوجية، تظهر تقنية النانو واحدة من أبرز وأهم مجالات البحث والتطوير في القرن الحادي والعشرين. هذه التقنية التي تعتمد على التعامل مع المادة في مقياس بالغ الصغر يبلغ جزءًا من المليار من المتر استطاعت أن تحجز لنفسها مكانًا في طليعة الاكتشافات التي تُعيد تشكيل حدود الممكن في الطاقة، والبيئة، والصناعة، وغيرها من القطاعات الحيوية.

 

في سلطنة عمان، يزداد الاهتمام بمجال النانو، خاصة في ظل التوجه نحو البحث العلمي والابتكار كونه أحد أعمدة رؤية عمان 2040. ومن بين الأسماء البارزة في هذا المجال، يبرز الدكتور ماجد الرقيشي الأستاذ المساعد بقسم الفيزياء بجامعة نزوى، الذي قدّم جهودًا بحثية متميزة في تكنولوجيا النانو.

 

في هذا الحوار مع إشراقة، يأخذنا الدكتور ماجد بن سالم الرقيشي في جولة شاملة، من المفاهيم الأساسية للنانو، مرورًا بالتجربة الشخصية والبحثية التي خاضها، وانتهاءً بأبرز تطبيقاته وأبحاثه العلمية في الطاقة والمواد ومعالجة الإشعاع.

 

س: دكتور ماجد، لنبدأ من الأساس: ما تكنولوجيا النانو، وكيف تُعرّفها لغير المتخصص؟

مصطلح تكنولوجيا النانو ببساطة ينقسم إلى قسمين فالتكنولوجيا أو التقنية هي القدرة على تحويل الأشياء النظرية إلى أشياء عملية قابلة للتطبيق، والنانو يعني نحتاج أن نتعامل مع المواد على مستوى بالغ الصغر، والمقياس هنا هو جزء من المليار جزء من المتر. لتقريب الفكرة، شعرة الإنسان مثلًا يصل قطرها إلى 60 الى 80 نانومتر تقريبًا، بينما في تكنولوجيا النانو نحن نتعامل مع مواد يتراوح حجمها من 1 إلى 100 نانومتر. وعندما نصل إلى هذا الحجم، تتغير خصائص المواد تمامًا، إذ تحدث اختلافات هائلة في خصائص المواد. فعلى سبيل المثال، الذهب في حالته الطبيعية معروف بلونه الذهبي ولمعانه؛ لكن عندما نُعيد تشكيله في صورة تجمعات نانوية من بضعة آلاف من الذرات، يتغير لونه إلى الأحمر أو البرتقالي حسب الحجم.

 

الأمر لا يقتصر على اللون فقط، بل يشمل التوصيل الكهربائي، التوصيل الحراري، الشفافية، والصلابة. فَالفحم مثلًا في حالته العادية غير موصل للكهرباء؛ لكن عندما نستخدم مادة منه تُسمى "الغرافين" – وهي طبقة رقيقة من ذرات الكربون بسماكة ذرة كربون واحدة – تصبح هذه المادة موصلة ممتازة للكهرباء، أفضل من النحاس مئات المرات، وشفافة بنسبة 98%. هنا تظهر قوة تكنولوجيا النانو: أنها لا تغير فقط في الكمية، بل في جوهر المادة وخصائصها الفيزيائية. ونستنتج من هذا أنه يمكننا أن نصنع مواد جديد بخصائص رهيبة.



متى بدأت علاقتك بالفيزياء، وكيف جاءت فكرة أن تكون باحث؟

بدأتُ حياتي معلم فيزياء، وكنت أُدرّس الطلاب النظريات والقوانين التي تعلمتها. ومع الوقت، شعرت أنني ناقل للمعرفة فقط، دون أن أُضيف شيئًا جديدًا. راودني سؤال: هل أستطيع أن أسهم في هذا العلم؟ فكان الجواب المباشر بأن الشخص الذي يريد أن يسهم يجب أن يكون باحثا علميا. ولكي يكون باحثا علميا عليه أن يكمل دراساته العليا وفي البداية توجهت إلى مجال التربية؛ لأنها كانت الخيار المتاح أمامي، وكان أغلب الذين حولي يتجهون إلى هذا التخصص. فقلت: لما لا أجرب؟ فسافرت إلى لبنان، والتحقت بجامعة القديس يوسف في بيروت. 

في تلك الفترة، كنت أقرأ في مكتبة الجامعة، واطلعت على كثير من الدراسات التربوية. اكتشفت أن معظم الدراسات فيها تماثل كبير. نفس المواضيع، نفس الاستشكالات، وحتى الطرق البحثية، بس الفرق في البيئة أو العينة. أحيانًا تكون الدراسة نفسها أجريت في بلد ما، ويتم إعادتها في بلد ثاني بنفس الفكرة، مع تغيير عينة الدراسة، وهنا لا نعمم فبعض الدراسات التربوية تكون ذات إضافات حقيقية ومهمة.

ولكني في الوقت نفسه، كنت لما أراجع المكتبة، لا أقرأ كتب التربية، بل أجدني أميل إلى قراءة كتب الفيزياء، فأقرأ في النسبية أو نظرية الكم أو في العلوم الدقيقة. فقلت لنفسي: لماذا أضيّع وقتي هنا؟ أنا أحب الفيزياء، لماذا أرجع إلى طريقي؟ ومن هنا، قررت أن أترك التربية تمامًا، وأعود إلى الفيزياء، وأبدأ رحلة جديدة كوني باحثا علميا حقيقيا، ليس مجرد ناقل للمعرفة.

 

 كيف كانت تجربتك في الدراسات العليا، ومتى بدأت العمل على النانو تحديدًا؟ 

تجربتي في الدراسات العليا كانت مليئة بالتحديات؛ لكنها في الوقت ذاته كانت غنية بالمعرفة والدروس العميقة. بدأت رحلتي الفعلية في البحث العلمي عندما التحقت بجامعة مالايا عام 2005 لدراسة الماجستير. وفي دراسة الماجستير، بدأت بالعمل على مشروع يتعلق بتأثير الإشعاع، مثل أشعة جاما، والأشعة السينية على الألياف البصرية. كان الهدف فهم كيف تتغير خصائص هذه الألياف عند تعرضها إلى الإشعاع. ونُشرت لي أول ورقة علمية في هذا المجال، وهذه المرحلة كأنها تمهيد لدخولي مجالًا أكثر أهمية وإمتاع ألا وهو "تكنولوجيا النانو" وخاصة بعد حصولي على تكريم في مرحلة الماجستير والحصول كذلك على منحة fellowship من نفس الجامعة لدراسة الدكتوراة. وموضوع الدكتوراه جاء اقتراحا من أحد الأساتذة الذي شجعني على استكشاف الاتجاهات الحديثة، ومنها ما كان يُعرف حينها بـ "النانو ريبونز". قمت بقراءة مكثفة على مدار ستة أشهر متواصلة، إذ قرأت عشرات الأوراق العلمية وكنت ألخصها وأحاول بناء فهم عميق لهذا المجال الجديد. كانت الفترة صعبة لأنها تطلبت فهمًا لمفاهيم عمومية وخصائص جديدة للمواد؛ لكنها في المقابل كانت النقلة الحقيقية التي غيّرت مساري الأكاديمي بالكامل.

 

من تجربتك الطويلة، ما أبرز الصعوبات التي واجهتك كونك باحثا؟

من أولى الصعوبات التي يواجهها الباحث العلمي هو النشر العلمي. أن تكتب ورقة علمية ذات قيمة تعني أنك تقدم شيئًا جديدًا تمامًا. ليس مجرد جمع معلومات، بل إضافة حقيقية ذات أثر. هذا يتطلب فهمًا عميقًا لما نُشر قبلك، والقدرة على تحليل وتحديد ما يُسمى بـ "الثغرة العلمية" أو الـ research gap — أي تلك المساحة غير المستكشفة في المعرفة التي يمكنك أن تضيف فيها شيئًا جديدًا. أغلب الأوراق العلمية الجيدة لا تُقبل من أول مرة، بل تُرفض أو يُطلب تعديلها مرارًا وتكرارًا. عملية المراجعة صعبة ومرهقة؛ لأن المحكمين غالبًا ما يكونون خبراء دقيقين، ويبحثون عن الدقة والمنهجية والإسهام الحقيقي. من التحديات الكبرى أيضًا: التمويل. بعض الأجهزة التي نحتاجها في أبحاث النانو باهظة الثمن، أو غير متوفرة محليًا. كنا أحيانًا نضطر إلى التعاون مع جهات خارجية، أو تصميم أجهزة بديلة يدوياً، وهذا يستهلك وقتًا وجهدًا كبيرين.

 

س: حدثنا عن أبرز أبحاثك وتطبيقاتها العملية في مجال تكنولوجيا النانو؟

لدي أكثر من 34 ورقة علمية دولية محكمة  والإشراف على أكثر من 60 طالبا في مشاريع تخرجهم، وطلب براءة اختراع، والمشاركة متحدثا رئيسا Keynote Speaker في 6 مؤتمرات دولية ومحلية، ومتحدثا مشاركا في أكثر 28 مؤتمرا دوليا، يمكن تصنيف المواضيع المدروسة ضمن أربعة محاور رئيسة:

في قطاع النفط والغاز، ركزنا في جهودنا على تحسين خصائص سوائل الحفر، خصوصًا في التعامل مع النفط الثقيل عالي اللزوجة، إذ أسهم استخدام المواد النانوية في تسهيل عملية الاستخراج ورفع الكفاءة التشغيلية، وهو ما ينعكس إيجابًا على اقتصاديات الطاقة. وفي مجال الطاقة المتجددة، طوّرنا مولدات نانوية قادرة على توليد الكهرباء من الضغط والاهتزاز؛ مما يعزز إمكانيات الاستفادة من الطاقة الحركية في البيئات المختلفة. أما على صعيد تصنيع المواد، فقد نجحنا في إنتاج نانو وايرز والغرافين، وابتكرنا طرق تصنيع أكثر أمانًا وصديقة للبيئة، إضافة إلى تطوير مواد ذات خصائص سطحية دقيقة، مثل مقاومة الماء، وتوظيفها في مجالات البناء والتطبيقات الصناعية المتقدمة. وفيما يخص معالجة المياه المشعة، فإن أحدث مشاريعنا يركّز على استخدام مواد نانوية متقدمة لتنقية المياه عالية الإشعاع، ويجري حاليًا في مراحله الأولى بتمويل من وزارة التعليم العالي والنتائج لا تزال تحت التقييم، مع طموحات لإيجاد حلول بيئية فعالة ومستدامة في المستقبل القريب.

 

 بعد كل هذه التجربة، ما رسالتك للباحثين الجدد في هذا المجال؟

أولاً أقول لنفسي أنك لا تزال في بداية الطريق وهو طريق طويل وشاق؛ ولكنه ممتع ورسالتي للمهتمين من الباحثين بأن يبحثوا عن "الندرة" العلمية، لا عن السهولة. لا تكرروا ما فعله الآخرون. اسعَ لتقديم شيء لم يُقال بعد. البحث الحقيقي لا يشبه الدراسة التقليدية، بل يتطلب وقتًا، صبرًا، ومثابرة. لا تيأسوا من الرفض، بل تعلموا منه. واعلموا أن العلم ليس معلومات تُنقل، بل أسئلة تُطرح، وإجابات تُبنى، وخطوات تُمهد لمستقبل أفضل.

 

كيف ترى مستقبل هذا المجال في المنطقة العربية وتحديداً عمان؟

هذا المجال له مستقبل كبير جدا فمثلا التطبيقات التي تخرج من النانو تكنولوجي داخلة في كل مناحي الحياة وفي أغلب المواد المصنعة ذات خصائص محددة من اللوازم الطبية إلى الأدوات الرياضية والمعالجات الإلكترونية الدقيقة وغيرها، والأهم من هذا أن هذه التقنية لا تحتاج لبنية تحتية ضخمة للدخول في هذا المجال فحتى الدول النامية أو الفقيرة بإمكانها الدخول في هذا المجال بكل بساطة وهناك أمثلة رائعة في الوطن العربي في استخدام وتطوير تقنية النانو وذلك في السعودية ومصر وعدد من الدول الأخرى. 

إرسال تعليق عن هذه المقالة