الجزء الثاني: قراءة تأمُّلية في كتاب (القيادة الجماليِّة في المؤسسات التعليميِّة) (2)
الباحث/داوود بن سليمان الظفري
الجمال هو ما يُثيرُ السرور والغِبطة والسعادة للإنسان حِسًّا ومعنى. وقد بَرَع العرب في تذوُّق الجمال، وتفنّنوا في صنوف الشعر، واختص الله العرب بالمُدرَكات الجمالية دون غيرهم، فهم أصحاب المعجزة المعنوية الوحيدة في تاريخ الرسالات، التي أيَّد الله بها نبيه محمد ﷺ وهي معجزة القرآن، فهي المعجزة البلاغية الجماليّة التي ركّزت على الجمال، وأكّدته بعدِّه منهج حياة؛ يقول الله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }، وفي السُنّة النبويِّة يقول نبيُّنا الكريم ﷺ: "إنّ الله جميلٌ يُحبُ الجمال، والكِبر بطرُ الحق وغَمط الناس"؛ بل إنّ القرآن نفسه مصدرٌ جماليٌ في حياة الإنسان؛ فالقصة القرآنية تشكل مصدرًا أساسًا للقيم الجمالية في القرآن الكريم، ويمكن القول: إن الجمال مُدركٌ إنسانيٌّ يُحسّن جودة حياة الحياة البشرية، ويُقرب الإنسان من ربه، كما أنه أحد مصادر الفضيلة الإنسانيّة.
يرى هانسون أنّ الحاجة إلى القيادة الجمالية أصبح مَطلبًا أساسًا كونُ الصناعات الإبداعيّة وغير التقليدية تسيطر على اقتصاد العالم، ويضيف هانسون أنّ القيادة الجمالية مدخلٌ إداريٌ جديد واعِد، فجماليات القيادة جانبٌ مهم؛ لكنّه قليل الفهم، من جوانب الحياة التنظيميّة. وعند التطرّق إلى تعريف (القيادة الجمالية) هناك عدد كبير من التعاريف التي يُنظر إليها من جوانب عدّة، يعرفها الذهلي (2025) على أنها: القدرة الملهِمَة للقائد الجمالي على التأثير في سلوك أفراد الجماعة وتنسيق جهودهم وتوجيههم لبلوغ الغايات المنشودة في ضوء ثقافة الجمال، وربما يُحقّقُ مناخًا تنظيميًّا جماليّا، ويُعزّزُ الصّحّة التنظيميَّة الجماليّة. إنّ القيادة الجماليّة تُركّز على جوانب المُنظّمة كافة؛ بل على علاقة المُنظّمة بالمجتمع الخارجي والمنظّمات الأخرى، وهي الناتج الفعلي للتزاوج بين علم الجمال والقيادة، فالقيادة الجمالية تُركّز على المشاعر والخبرة معًا، وبناء علاقات بين الأتباع والقادة، والتركيز أيضًا على الجمال والإحساس والعدالة في إطار المنظمة.
لقد حدّد تايلور وهانس أسلوبًا جماليًا للقيادة هما: الصدق في مشاركة الحواس، والتركيز التفصيلي على التجربة؛ فالقائد ينفتح على الرؤية الجمالية للعالم بإتقانِه في التعرّف إلى طرائق المعرفة الحسّيِة المخفيِّة التي تتماشى معه في الحياة اليوميّة، منها: الاستماع، والتحدث، واللّمس، وعلاج العواطف، بعدّها مصادر تأسيسيّة لتراكم الحكمة.
إن للقيادة مجالات وأبعادًا أساسيّة تُعدُّ من الأسس والمبادىء التي يتمُّ منها تطبيق القيادة الجمالية، منها، أولًا: التواصل الجمالي، فالركيزة الأساسيّة للقيادة الجمالية هي عملية الاتصال بأنماطها كافّة داخل وخارج المُنظّمة؛ من طريق نقل المشاعر والمعاني عبر المُنظَمة والتخلّص من الخشونة الإدارية مع وجود الجانب الإنساني والجمالي لكل جوانب الاتصال بالمنظمة، حتى التعزيزات السلبية، أو تطبيق العقوبات يكون جميلًا بلا عداء ويدل على ذلك قوله تعالى لنبيِّهِ ﷺ: {وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا }. فالقيادة الجمالية تستهدف هنا نشر الطاقة الإيجابية في المُنظّمة ومحيطها، أو التحفيز الفعّال تجاه إنجاز المهام، وتهتم بأنماط الاتصال كافة، كما تهتم بلغة الجسد.
ثانيًا: الطريقة الجمالية، وهي الأسلوب الحقيقي لأداء المهامّ والوظائف داخل المُنظمة وخارجها، إذ تهتم القيادة الجمالية هنا بجمال الأداء ليُحقِّق السعادة والإنجاز لأطراف العملية الإدارية كُلّها، فينتُج عنها التعاون الإيجابي بين أفراد المنظمة؛ مما يرفع مستوى أدائهم، فيرتفع بعدها أداء المنظمة التي تنتهج قيادتها الطريقة التي تُعبّر عن الإبداع والإرادة والقوة والعزيمة التي يمتلكها ذلك القائد. ثالثًا: دعمُ الجمالية، وهي مهمّةُ القائد والأتباع معًا؛ مما يعني بالضرورة بناء علاقات قوية وبثّ ثقة إيجابية مُتبادلة بين العاملين بالمنظمة، ثم بناء ميثاق عمل جمالي؛ فيمكن تكوين القيادة الجمالية يمشاركة المرؤوسين في الأنشطة الفنية، وقيام القائد الجمالي بدعم وتطوير القيم الجمالية ومكوّناتها في مؤسساتهم.
رابعًا: التطبيقات الجمالية، وهي تُفيد المشاعر السائدة وتُنمّيها، وتدعمُ الخبرات الإيجابية في المنظمة، وتستفيد من الخبرات السالبة، وهنا تركّز العمليات الإدارية في المنظمة على الناحية الفنيّة والأخلاقية، ليظهر جانبا الفنّ والأخلاق في الإدارة. ويحتاج التطبيق الجمالي إلى مُكوِّنين دائمين هما: اجتماع المشاعر والتركيز على التجارب. خامسًا: مجال الحسّاسيّة الجمالية، وهي القدرة على التعرُّف إلى الجمال وتقديرِه، والحكم على الجدارة الفنيّة على وفق معايير القيمة الجمالية، فمن أهدافِ علم الجمال هو تفسير كيفية تقدير الناس للأشياء، والأحداث والأماكن والأشخاص الآخرين، والحسّاسيّة تعني القدرة على إدراك التفاصيل الدقيقة، والوعي بها، والعلاقات المختلفة بينها.
سادسًا: الأمانة الجمالية، وهي تعني الصدق والموثوقية، في إطار شخصيّة المُنظّمة، وتشمل أمانة الذات وأمانة العلم أو المعلومات وأمانة التصويت أو الرأي وأمانة الحكم والمشورة وأمانة حفظ أسرار العمل وأمانة أداء العمل. ومن أجل زيادة المصداقية وأَثَرِها في أتباعِها؛ يجب على القائد الجمالي أن يكون صادقًا في القضايا المتعلّقة بالجمالية، كالتفكير والممارسات المتعلقة به؛ التي يجب أن تكون مُتّسقة. سابعًا: المظهر الجمالي، ويشمل أنواع المحسوسات كافة في المنظمة؛ التي تُعطي انطباعًا سعيدًا لدى العاملين في المنظمة، وتشمل أسضًا حيويِّة المشاعر والعواطف، والمظهر الجمالي أكبر من أن يكون زيًا موحدًا، أو طِلاءً جديدا؛ بل يجب أن تتّصف سلوكات العاملين في المُنظمة كُلُّها بالتناغُم والتجانُس سواءٌ داخل المنظمة أم خارجها.
وحتى يتمَّ تطبيق هذه المجالات بالطرق الصحيحة في القيادة الجمالية، لا بد من اتصاف القائد الجمالي بصفاتٍ تُؤهله لذلك، فالقائد هو ذلك الشخص المُبدع الذي يدعم سُلُوكُه سلوك أَتباعه، ويُحفّزهم تجاه تحقيق أهداف جماعيّة؛ بقدرتهِ على التّنبُّؤ، فيمكن القول: إنَّ القائد الجماليّ، يدعمُ عمليات المشاركة في صُنع القرارات من منظور جمالي، ويدعم الأتبَاع في إظهار سلوكات الجمال لديهم، والسعادة، والحسَّاسية، والمشاعر، والأخلاقية؛ داخل المُنظّمة وخارجها، وما يجب تأكيدهُ أنَّ القيادة الجمالية مِظَلّة كبيرة يندرج تحتها القيادات: التحويلية، والكارزمية، والتقليدية.
إنّ من أهمّ خصائص القيادة الجمالية التي لها تأثير كبير في نجاح عملية القيادة بشكلٍ يحتويه الجمال والتناسق والإبداع، منها: الوعي العاطفي، وهو القدرة على استخدام الوعي العاطفي والتعاطف للمشاركة بشكل إيجابي، والتعرُّف إلى الآخرين في دور قيادي، ثم تصوُّر العواطف على أنها مركزية لوضعِ أساس التعاطف لفهم وجهة نَظر شخص آخر؛ أي يجب أن يُطور القائد فهمًا لمشاعرِهِ الخاصة والاستفادة من الروابط العاطفية الإيجابية، ويُظّفها في عملية الاتصالات للمؤسسة بأكملها. كذلك الانتباهان الحسِّي والجسدي، ويُشير إلى كيفية استخدام القائد لجسده لإظهار القوة أو الكشف عنها؛ أي الطريقة المُجسّدة التي يُحاول بها القادة التحفيز أو التوجيه أو التغيير، فالحواس لها أهميًة بالنسبة للقائد بحيث يستخدِمُها لتفسير البيئة، خاصة فيما يتعلق بالتفاعلات الاجتماعية. أيضًا الاهتمام بالجمال التنظيمي، ويمكن وصفه بطريقتين: الأولى هي الشعور بالتماسك والانسجام، والثانية هو الشعور الكبير بالمتعة في العمل، وبهذا يرتبط الجمال بما يشعر به الشخص تجاه عمله، فَمفهوم "العمل الجميل" يتوقف إلى التوازن بين الانغماس الذاتي وخدمة الآخرين. وأخيرًا تعزيز الغرض الأخلاقي، وهي الخاصيِّة التي يكتمل بها دائرة مُكوَنات القيادة الجمالية، فغرس الأخلاق ضروري لجميع الناس لتعزيز القِيم الأخلاقية التي منها: العدل، والعقل، والحقيقة مقابل الظلم والفساد والقمع؛ فَالقيادة مشروع يؤكّد في الرؤية والغرض التنظيمي المُستمَدين من البوصلة الأخلاقية للفرد.
المرجع:
الذهلي، ربيع بن المر. (2025). القيادة الجمالية في المؤسسات التعليمية. دار المسيلة للنشر والتوزيع.