الوهج الذي يلامس أرواحنا: حين يلتقي علم الأحياء بالكتابة الإبداعية
مقال: جايني كيم
ترجمة: سامية بنت أحمد السليمانية
علم الأحياء هو العلم الذي يدرس الحياة. وهو العلم الذي يفتش عن الجمال المستتر في كل ما هو عادي، وهذا ما تفعله الكتابة أيضاً.
لماذا نرى جمالاً في كل مضيء ولامعٍ؟ من وجوده في الطبيعة كاليراعات، وأمواج البحر المضيئة طبيعياً، إلى ما هو من صنع الإنسان كأضواء عيد الميلاد، والمدينة بإضاءتها المتناثرة والممتدة في المساء. ثمة سحر في كل هذا البريق واللمعان والتوهج يشدك بطريقة أقرب إلى الهمس منها إلى الجذب.
أما في الطبيعة، فَالأضواء المتوهجة هي مسألة بقاء على قيد الحياة. فتستخدم اليراعات الضوء لجذب الشريك، أما بالنسبة لبعض قناديل البحر، فعروض الضوء التي ترى منها أغشيتها الرقيقة هي وسيلة لإخافة العدو المفترس. أما بعض أنواع البكتيريا البحرية فالضوء الذي تصنعه هو تذكرتها لمأوى دافئ في أحشاء الحبار والأسماك، التي بدورها تستخدم هذا الوهج المهدى إليها لإخفاء ظلالها تحت ضوء القمر، أو وسيلة لصيد فرائسها.
أما نحن البشر ففطرتنا تميل إلى التوهج واللمعان؛ لأن الضوء والتلألأ كانا دائماً إشارة إلى وجود مصدر للماء، فهكذا منظر يوقظ في زاوية من دواخلنا حساً بدائياً يسعى للبقاء كما تقول أحد النظريات؛ أي انبهار فطري بكل ما يلمع. مثل هذا النوع من التوهج البيولوجي هو جزء من حياتي اليومية كوني طالبة دكتوراة أدرس البكتيريا الحيوية المضيئة.
لكن الوهج الضروري لاستمرار الحياة يأخذ أشكالاً أخرى تتجاوز البيولوجي، فعندما أجلس لكتابة القصص، هذا الجانب الآخر لهذا الموضوع هو ما يثير اهتمامي أكثر. أقصد بذلك، بريق لحظات وذكريات معينة، الذي يثير إحساس دفء الشرنقة، كضوء نار المخيم، كشمعة بومضها المتمايل. النور الذي يملأ صدرك كقارئ وأنت تنغمس بين دفتي كتاب يعزف على أوتارك. أو الدفء الذي يغمرك، وأنت الممتلئ بالحنين، عندما تتصفح صوراً قديمة، فتضع إبهامك على كل عهد مضى يبدو الآن بعد مرور السنين وقتاً مزهراً.
أو عندما تلاحظ أخاك وهو يترنم بأغنية بينما ينظر من نافذة السيارة لا مبالياً، وذقنه يستريح على راحة يده، بكل بساطة، دندنته تعكس سعادته في هذه اللحظة العادية معك. أقصد ذلك البريق الذي لا يمكنك أن تخطئه، الضوء الذي ينتجه الكائن العاطفي، شيء ضبابي لا تعبر عنه بدقة أي كلمة إنجليزية، ربما يتقاطع أو يقترب من معنى كلمة "هيجه hygge" في اللغة الدنماركية، أو "بونويجي bunuigi" في اللغة الكورية.
مزيج من الأمان والدهشة، الدف والخفة المفاجئة. شعور بأنّ كل هذا عابرٌ كأنه سعادة لحظية، ومع ذلك طويل الأمد كأنه رضا حقيقي، وحفنة من النسيان ليكتمل المشهد. فغلاف الوهج الذي يحتويك كغلاف أمنيوسي يحمي جنيناً، ينسيك للحظة وجود أي شيء خارجه. عندما نتحدث عن السعي الأمريكي المعروف لتحقيق السعادة، أليس هذا البريق هو ما نسعى له حقاً؟ ذلك النبض الدافئ الذي يشبه المعجزة في صدر تجويف ليس بيولوجياً بشكل دقيق، ولا مادياً تماماً ومع ذلك يبدو وكأنه بلغ حد الامتلاء حتى فاض.
Bioluminescence التلألؤ البيولوجي هي عملية إنتاج الضوء داخل أجسام بعض الكائنات الحية. عندما أكتب القصص، أكون في مهمة للبحث عن هذا الانبعاث الضوئي كغيري من الكتاب. فكيف يمكن للمرء أن يخلق مثل هذا الوهج في الكتابة؟
قد تأتي الإجابة المحتملة عن هذا السؤال العصي من مختبر الأحياء. عندما يتعلق الأمر بأسرار الخلايا، فأفضل طريقة للحصول على إجابة هي بطرح أسئلة بديلة تسبر أغوار الزوايا المعتمة، ثم البحث عن القراءات غير المباشرة للظاهرة الأصلية. أقوم بنفس الشئ عند الكتابة أيضاً، أطرح أسئلة جانبية على غرار: كيف نتصالح مع المجهول؟ ما معنى الهوية إذا كانت هي نفسها في تغير وتقلب مستمر؟ وحين تنكسر هذه الوفرة من الأشياء اللامادية التي تشكلنا، تحت وطأة وجودها في عالم غير عقلاني، كيف يمكن جمع شتاتها من جديد؟ وأين نعثر على ذلك الغراء السري في أماكن لمْ نتوقّعها قط؟
تخللت هذه الأسئلة سنتي الأخيرة في مرحلة البكالوريوس، أول سنة في الجائحة، فكانت إجابتها في كتابي نحمل البحر في أيدينا. اكتشفت أنني حين أسال هذه الأسئلة مراراً وتكراراً، وأنظر إليها من جوانب مختلفة يحالفني الحظ أحياناً بملاحظة منظور مختلف، توهجاً ما. أحياناً كل ما على هو أن انظر من زاوية مختلفة كي أراه. خدعة ضوئية، كمعظم درجات اللون الأزرق في الطبيعة، التي تعكس اللون بناء على الأطوال الموجية فنراه بدرجة مختلفة. ألسنا جميعاً نطارد أشباح الضوء المتراقصة على أي حال؟
وربما يعود لهذا عدم وجود أي معرفة غير نافعة في العلوم وفي الكتابة على حد سواء. فالمعرفة التي تتحصل بدافع الفضول، تنتج عنها دائما زاوية رؤية غير مألوفة. فدائما ما ينصح الباحثون العلميون في فترة التدريب بحضور محاضرات في أقسام أخرى غير أقسامهم، فربما يكتشف عالم الأحياء الجزيئية، في محاضرة للهندسة الميكانيكية معلومة غير مألوفة أو طريقة تفكير مختلفة تشعل في ذهنه شرارة فكرة جديدة. والكتاب هم أيضاً لا يعرفون متى تصبح معلومة عابرة بعينها ذات فائدة عند كتابة قصة –كقابلية اشتعال لحاء شجرة البتولا بسبب زيته، والفرق بين نداءات التواصل ونداءات الإنذار لدى الطائر الغريد، أو تفتت أزرار القصدير في درجات الحرارة الباردة، تلك الصدف عندما تكتسب المعلومة فيها فائدة غير متوقعة.
اقرأ كثيراً واقرأ بتنوع، عبارة كثيراً ما ترددت على مسامع الباحثين والكتاب المبتدئين، الذين يبدون ردة فعل تلقائية متماثلة، نصفها موافقة والنصف الأخر انزعاج. تنقل بين المواضيع والأجناس المختلفة، هكذا يقال لنا. دائما ما يقال لنا أيضاً، جرب شيئاً جديداً، واترك ورائك كل افتراضاتك السابقة واكتف بملاحظة كيف يحدث كل شيء. بفعل ذلك قد نتمكن من القيام بعملنا بمنظور مختلف، والعثور على فكرة لامعة في زاوية غير متوقعة. أعتقد أن هذا الذي كان أبراهام فلاكسنر يناقشه في مقاله "الجدوى من المعرفة عديمة الجدوى".
كتابة القصص والبحث العلمي على الأغلب ليسا مختلفين تماماً. يجد الناس في القصص ما يعكس شيئاً في ذواتهم سواء عند كتابتها أم قراءتها. ويمكن أن نحرك هذه الصور المتشابهة كما تتحرك خرزات أداة العد؛ لنحاول فهم المعنى وراء الأشياء التي حدثت، أو تحدث الآن أو ستحدث غداً. أتساءل ألا يحدث هذا في علم الأحياء كذلك؟ أرى أنه صدى لنفس العملية، إذ نعيد ترتيب الأسئلة والبيانات بحثاً عن تجريد للحقيقة يطل من بين ثناياها.
أقصر طريقة بالنسبة لي لإيجاد فكرة لامعة هي الذهاب إلى المختبر. أو بالأحرى التفكير بظاهرة بيولوجية، فالمختبر يهيء بيئة مناسبة لهذا الغرض. خلية واحدة تختزل الكثير من الدهشة، المعرفة الواسعة عنها وما هو أوسع من المجهول الكامن في شيء صغير إلى هذا الحد. شيء غاية في التعقيد والدقة، وفي نفس الوقت غاية في المتانة، تحفة فنية أنيقة مكتفية بذاتها. هذه الخلايا أشبه بمناظر طبيعية مليئة بالتفاصيل الدقيقة التي تطفو وتدور وتتراقص، التي تحملها الجزيئات كما تحمل السفن، وتطفو بها الإلكترونات كالمراكب. كل شيء فيها مضبوط بتوقيت ومكان محددين بدقة داخل بيت الدمى الذي شيده التطور عبر آلاف السنين.
ما أوجز كل حركة، وما أعظم أثرها وسط بحر مائج من الحركات! ما أدق الخلية في بنيتها المعقدة، وما أسهل أن تثير فيك الرغبة بالتجوال، وأن تصيبك بدوار إلى حد يجعلك تتساءل: كيف يمكن لأحد أن يتقصى رقصاتها الدقيقة بقدر من الحذر، وكأنك تحاول قطع قطعة من الكعك باستخدام أصابعك فقط؟
إدراك الدهشة الكامنة في علم الأحياء، (أو هذا ما أحب أن أذكر نفسي به عندما تعكر رتابة العمل المخبري هذه النظرة الجميلة)، يخلق لي ما يشبه التوهج. وإذا رغبت في الكتابة، فالأمر في الغالب لا يعدو أن يكون تحويل ذلك الضوء الوليد إلى كلمات مكتوبة.
وربما قبل كل شيء، يلتقي البحث العلمي والكتابة في تقديرهما لِلشك واللايقين. فلا شيء يعد حقيقة مطلقة، وإعادة طرح الأسئلة هي القاعدة. كأمواج البحر التي تتردد بين مد وجزر على الشاطئ، تاركة طبعات على الرمل تشبه ما سبقها لكنها ليست مطابقة لها تماماً. قد يكون هذا أحد الأسباب لماذا يعد الباحثون والكتاب إما في نعمة أو في بلاء، كل حسب ما يرى، بتيار لا ينقطع من التساؤلات: "ما الذي أفعله؟"، "هل أي مما أفعله صحيح؟"، "هل أعرف أي شيء حقاً؟ وإن كنت أعرف، فكيف أعرف؟"
سواء اخترت أن أواسي نفسي بتعليل الأمر على أنه انعكاس للصرامة العلمية، أم أنه مستوى الشك والتساؤل المناسب للتعامل مع البحث العلمي، أم فضلت أن أعدّه أزمة صغيرة لا مفر منها ويجب أن أحلها مع فيلسوف أو معالج نفسي، أو بدلاً من ذلك، وهو الأبسط غالباً، أن ألصق بنفسي صفة متلازمة المحتال، كما لو كانت واحدة من تلك الملصقات التي تقول: "مرحبا، أنا اسمي..." في حفلات أعياد ميلاد الأطفال. فما يبدو صحيحًا هو أن الأسئلة التي لا تملك إجابات واضحة ولا نهايات محددة، هي جوهر الأمر وغايته معًا. وكما يحب أحد مشرفي الدكتوراة أن يردد: “إنها ليست خطأ، بل ميزة”. هذه هي المادة الغضروفية التي تشدّ بين العلم والكتابة وتجعلْهما نظامين حيويين داخل جسد واحد. في حياتي، تُعدّ الكتابة وعلم الأحياء علاقة تكافلية لا غنى عنها.
قبل أربع سنوات كتبت في رسالة طلبي لدراسة الدكتوراة كيف تحولت هواية الكتابة في طفولتي إلى اهتمام بالعلوم. وكل ما كتبته حينها عن العلاقة العكسية الجديدة—أي عن كيف أصبح العلم بدوره يهب الحياة لكتابتي—هو أن "البحث البيولوجي يسعى إلى اكتشاف ما يجعل الحياة تستمر، بينما تبحث الكتابة الإبداعية عن سبب كون ذلك ذا معنى للناس والمجتمع." ميكروسكوب وماكروسكوب، على ما أظن. هذه المقالة هي إضافتي، غير أنني أتساءل: كيف يمكن أن يتغير كل هذا في السنوات المقبلة، هذه الصورة الفورية لآراء وتعثرات؟ فنحن نصبح الحكايات التي نرويها لأنفسنا.
في الأشهر الأخيرة الماضية، كنت أشعر أنني تائهة بين عالمين، غير قادرة على أن أقول "أنا كاتبة"، أو "أنا عالمة" دون أن يراودني إحساس أنني أرتدي ثوباً لا يلائمني؛ لكنني أدرك أن العيش بلا مرسى، بين هويات غير محددة تتبدل باستمرار كالضوء حين ينكسربين سطحين مختلفين، "كاتبة هاوية؟"، أو "هاوية علوم"؟ له قيمته الخاصة لو نظرنا له من زاوية مغايرة. أن أصنع لنفسي وطناً في هذا الفضاء البيني يعني أن أطرح أسئلة كثيرة، وأن أستمتع بامتياز عدم معرفة الكثير من الإجابات (فأنا اعتقد أنه من السهل أن تتعلم شيئاً مذهلاً حين يكون لديك الكثير لتتعلمه أصلاً). وهذه أيضا أحد الحالات التي أتعلم من طريقها كيف أجد فيها بريقاً خاصاً.