"عالمك الداخليُّ مهم، استثمرْ فيه" …
الكتابة طريقها إلى نفسها … إذ تستطيعُ من طريقها أن تخلق من الفكرة عالماً
حين تلتقي طرق المعرفة تنشأ شخصية قادرة على أن ترى العالم من زوايا متعددة. وفي ضوء هذا التشابك العجيب، نجد أنفسنا اليوم أمام ضيفة تجمع بين هذه الأبعاد الثلاثة: كاتبة تُجيد تحويل التجربة إلى نصٍ حيّ، ومهندسة تبني بعقلها ما يوازي ما يشيّده قلمها من عوالم، ومعلمة تغرس في تلاميذها فضيلة السؤال قبل فضيلة الجواب.
إنها ليست مجرد باحثة عن الحقيقة، بل صانعة مسارات إليها، تقرأ العالم كصفحة هندسية، وتكتبه كقصيدة، وتشرحه كدرسٍ حيّ. في حضورها، يصبح الحوار رحلة لا تقل عمقًا عن الكتب التي نقرأها أو الجسور التي نعبرها أو الدروس التي نتلقاها.
عرفينا بنفسك (شخصياً وتعليمياً)؟
أنا الراكضة خلف أحلامها، المتمسكة بخيوط الأمل مهما كلفني الأمر، واللغزٌ الذي يحمل تناقضاتِ الوجود الجميلة. أنا الالتقاءُ غيرُ المتوقع بين دِقَّةِ الأرقامِ وجموحِ الكلمات.
خطوتُ في بداياتي على جسرِ الهندسةِ المتين، أتقنتُ لغةَ المنطقِ والقياس، وأسستُ في داخلي قصراً من الأسئلةِ التي تبحثُ عن إجابات. ثم أدركتُ أن أعظمَ هندسةٍ هي تلك التي تبني الإنسان، فانطلقتُ إلى فضاءِ التربيةِ لأزرعَ في العقولِ بذورَ الفضول، وفي القلوبِ شغفَ المعرفة. شخصياً، أنا ابنةُ هذا الحوارِ الأبدي بين العقلِ والروح، بين الماديِّ والمجرد.
أنا المهندسة المعلمة عزا الحبسـية، حصلت على بكالوريوس في مسح الكميات والتكلفة من جامعة التقنية والعلوم التطبيقية بمسقط... وحاليا أخوض السنة الأخيرة من بكالوريوس التربية (مجال ثانٍ) بجامعة نزوى.
متى اكتشفت موهبتك؟ ومن كان وراء ذلك من أشخاص وأحداث؟
اكتشفتُ علاقتي بالكتابة في طفولتي تحديدا في الصف الثالث، حين حوَّلتُ مذكرةً أهداني إياها والدي إلى مرآةٍ أدوّن عليها تفاصيل وجودي: من قابلت، وكيف كان اليوم، وهل كان جميلًا. لم يكن سردًا للأحداث بقدر ما كان طقسًا للتأمل والامتنان، بحثًا عن صوتي في ضجيج العالم.
لكن التحول الأهم كان عندما رأت معلمة اللغة العربية الأستاذة يسرى السالمية - في الصف السادس- في تلك الخواطر اليومية نواةَ أدبٍ معبّر. هي من حوّلت صمتي إلى كلام، وسردي العادي إلى نصٍّ يستحقُّ الرواية. من يومها، أصبحت الكتابة نافذةً أطلُّ منها على الكون، وأسمعُ فيها همسَ الحروفِ وهي تتشكلُ في داخلي حوارًا صامتًا مع الحياة.
حدثينا عن بدايتك مع هذه الموهبة؟ وما الذي جذبك تجاهها؟
البدايةُ كانت خجولةً كخطواتِ طفلٍ يتعلمُ المشي. بدأتُ بيومياتي في مفكرةٍ خاصة كما ذكرت سابقًا، أكتبُ كلماتٍ كانت تبحثُ عن معنى لأحاسيسي التي لم يكن لها اسم.
ما جذبني في الكتابة أنها كانت الطريق إلى نفسي حيث أنني أستطيعُ أن أخلقَ من الفكرةِ عالماً، هي سلطتي على الفوضى؛ لأصنعَ منها كوني الخاص المُرتب. كنت أبحث عن لغةٍ لفهم ما بداخلي. وجدتُ في البياضِ الصامتِ للمفكرةِ مساحةً لأسمعَ صوتَ روحي يُترجم العالم إلى مشاعرَ وكلمات. كانت الكتابةُ ببساطةٍ البحثُ عن المعنى في تفاصيلنا الصغيرة.
هل كان للقراءة دور في تنمية موهبة الكتابة لديك؟ حدثينا عن ذلك.
القراءة بالنسبة لي هي المدرسة الأولى، هي النافذة التي دخلَ منها الضوءُ إلى غُرفتي الصغيرة.
لو لم أكنْ قارئةً، لَظلّتْ كلماتي حبيسةَ ذاتي. كلُّ كتابٍ كنتُ أفتحُه كان يُعلّمني إيقاعًا جديدًا للغةٍ، وعالَما آخرَ للمشاعر.
القراءةُ علّمتني أنَّ الكلمةَ ليستْ حرفًا فقط، بلْ هي نظرةٌ... هي يدٌ تلمسُ العالمَ وتصوغُه من جديد. كانتْ خُطوتي الأولى على دربِ الكتابةِ... هي في الحقيقةِ آثارُ أقدامِ كلِّ أولئك الذين قرأتُ لهم؛ إذ لم أكن أقرأُ لأجمعَ المعلومات، بل كنتُ أغوصُ في أعماقِ الكتبِ لأعثرَ على أجزائي المبعثرة. وكلُ كاتبٍ عظيمٍ قابلتهُ في صفحاتِ كتابٍ كان يُعيدُ تشكيلَ رؤيتي للعالم … كانت الكتبُ هي معلِمي السري، إذ أتعلمُ كيف تنسج الجمل وكيف يحملُ الإيقاعُ معنى.
هل لديك طقوس أو روتين محدد تمارسينه أثناء الكتابة لاستلهام الحروف والكلمات؟
طقوسي هي الفوضى المُنظمة. لا أكتبُ إلا حين يكونُ قلبي ممتلئاً إلى حافةِ الانفجار، فأجلسُ في عزلةٍ تامة. أكتبُ على الورقِ أولاً، لأشعرَ بحرارةِ الحرفِ وهو ينبضُ تحت أناملي، ثم أنقلهُ إلى العالمِ الرقمي.
أهمُ طقسٍ هو أن أكونَ صادقةً مع ذاتي، وأواجهُ الفراغَ بجرأة، لأن أجملَ الكلماتِ تأتي من أكثرِ الأماكنِ ظلمةً فينا.
ما أهدافك القادمة التي من الممكن أن تنقل موهبتك إلى مكان أعلى؟ وأين ترين نفسك مستقبلا؟
هدفي ليس الارتقاء فحسب بل التوسعُ، أطمحُ إلى طباعة كتابي ونشره - ربما في القريب العاجل- وأن يلامسُ ذلك الخيطَ الرفيعَ الذي يربطُنا جميعاً كوننا بشرا، أرى نفسي جسراً: بين العقلِ والقلب، بين العلمِ والأدب، بين الماضي والمستقبل. أريدُ أن أكونَ صوتاً لمن لا يجدُ الكلمات، وأن أتركَ ورائي كلماتٍ تظلُ تُقرأُ بعدي لأكون صديقة كل من لم يجد أحدا ليفهمه… ستكون كلماتي ملامسة لجرحه أحيانا وصوت الأمل أحيانا أخرى.
برأيك، كيف يمكن صقل المواهب الشابة وتعزيزها ورعايتها؟
رعايةُ الموهبةِ ليستْ بتقييدها أو حبسها، أن يعلم الإنسان أن الإبداعَ ابن التجربةِ والمخاطرة، إذ يحتاجُ إلى التعرُّفِ على نماذجَ مُلهِمةٍ من مختلفِ المجالات؛ ليعلمَ أن الإبداعَ لا حدودَ له. وأخيراً، يحتاجُ إلى أن يُقال له: "عالمكَ الداخليُّ مهم، استثمرْ فيه."
8- كيف يمكن أن يكون لمواقع التواصل الاجتماعي دور في تنمية موهبتك الشابة؟ وكيف ذلك؟
يمكنها أن تكونَ سوقاً للمعارفِ والآراء، حيث ألتقي بعقولٍ من كلِّ حدبٍ، فأثري فكري وأختبرُ كتابتي على مسامعَ مختلفة لمشاركةِ القلقِ الإبداعي، لا للتباهي بالنتيجةِ فقط، إذ لا تزال كتاباتي تحظى باهتمام وحفاوة خاصة من الأشخاص الذين يمرون بنفس التجربة التي أكتب عنها، وأيضا من الأشخاص المهتمين بالأدب ويتذوقون الكلمات.
كيف وجدت اهتمام جامعة نزوى بالمواهب في أثناء دراستك بها؟ وما نصيحتك لتنمية هذا المجال؟
وجدتُ في جامعةِ نزوى بذرةَ الوعي بأهميةِ الموهبةِ إلى جانبِ العلم. كان هناك تقديرٌ لي حيث تم تبني هذه الموهبة لنشرها في صحيفة إشراقة.
نصيحتي هي بأن تُخلقَ مساحاتٌ إبداعيةٌ رسمية مثل: (نوادٍ أدبية، ورش كتابة إبداعية، منصات لنشر إبداعات الطلبة)، برأيي الطالب المبدع هو أفضلُ استثمارٍ يمكنُ للجامعةِ أن تقدمه للمستقبل.