السنة 20 العدد 192
2025/09/14

رحلة شغف في عالم الهندسة...

معمارية اختارت أن تجعل من شغفها طريقا إلى العطاء، وسبيلا لرسم ملامح الوطن

 

 

طالبة ماجستير في علوم الهندسة المعمارية تسعى إلى تطوير معارفها ومهاراتها في المجال المعماري، مع التركيز على دمج الجوانب الجمالية والوظيفية بطريقة مستدامة ومبتكرة. تهدف إلى إثراء خِبراتها من طريق البحث العلمي والتطبيق العملي، مستلهمة التراث الثقافي ومتطلعةً إلى مواجهة تحديات العمارة الحديثة بمرونة وإبداع.

 

العمارة بين رسالة الإعمار ونداء البحث العلمي

قال تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. إنّ اختيارها لعلوم الهندسة المعمارية لم يكن وليد لحظة عابرة؛ بل جاء استجابة لدعوة الاستخلاف التي شرفنا الله بها في قوله: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً). لقد وَجَدَتْ في هذا المجال تجسيدا حيَّا لمعنى الإعمار الذي أمرنا به الله، لا على مستوى الحجر والبناء، فحسب بل على مستوى الفكر والهوية والإنسان؛ لذا اجتهدت لترسم بالأفكار، وتبني بالحب.         

منذ بداياتها في هذا الطريق وهي تؤمن أن العمارة لغة تتحدث بها الأمم وأداة لحفظ الذاكرة الجمعية وترسيخ القيم، فقد حملتها هذه القناعة إلى الانخراط في مشاريع متعددة داخل الوطن وخارجه، لم تكن تجارب مهنية فقط؛ بل كانت محطات وعي استنرت بها حجم الفجوة بين الواقع العمراني المعاصر واحتياجات الإنسان العماني روحا وثقافة. فكان لا بد من التوجه نحو البحث العلمي، فأيقنت أن الفكر المستنير مفتاح النهضة وأن المعماري يصمم فراغا ويرسم ملامح أمة ويزرع أثرا يمتد صداه لأجيال عدة، ولقد وجدت في التحديات المهنية التي واجهتها دافعا لتأمل أعمق ورغبة أكيدة في إيجاد حلول واقعية ومستدامة تستمد من التراث روحها ومن العلم ثباتها ومن الإبداع أجنحتها، وبهذا أضحى البحث العلمي بالنسبة لي واجبا إيمانيا ومهنيا تضاء فيه شموع التميز وتستخرج من ظلمة التكرار أنوار التجديد.

                                                

العمارة... حكاية ضوء وظل وذاكرة وطن

لم تكن رحلتها في عالم العمارة مرحلة انتقال من فصل دراسي إلى موقع بناء، ولا من فكرة مرسومة على جدار؛ بل كانت سلسلة تحولات داخلية وتجارب متراكمة؛ إذ بدأت القصة على مقاعد الجامعة حيث كانت دراستها للهندسة المعمارية تشبه اكتشاف لغة جديدة لا تنطق بالكلمات إنما تقال بالضوء والظل والفراغ.

تقول: "كنت أنظر إلى المساقط، والواجهات لا كرسومات جامدة إنما كأرواح نائمة تنتظر أن نوقظها بجمال التصميم وصدق الرؤية واستشعار وحيها، ثم كانت أولى خطواتي العملية في متحف عمان عبر الزمان تجربة استثنائية، فهناك وبين جدران تحكي تاريخ أمة أدركت أن العمارة سرد بصري لذاكرة المكان والإنسان. كنت أضع لمسة تصميمية وأشارك في كتابة سيرة وطن وهو شعور محفورا داخلي ولا يمكن نسيانه اعتزازا بتاريخ هذه الأرض الطيبة".    

وتضيف: "بعدها شاءت الأقدار أن أخوض مجال الإدارة مؤقتا كتفويض إداري حين كلفت بمهام الموارد البشرية. بدا الأمر للوهلة الأولى خروجا عن مساري المهني؛ لكنه منحني عدسة جديدة أنظر بها إلى العمارة من زاوية التنظيم والقيادة وفهم العمق الإنساني العماني بالذات خلف كل مخطط ومشروع. هنا أدركت يقينا أن المعمار الناجح لا يمكن أن يبدع في العزل، ولكن في الانخراط والمواكبة، وأن التصميم لا يكتمل دون فهم الأرواح البشرية التي نصمم لها. ثم جاءت مرحلة العمل الحر وهي الأصدق والأكثر كشفا لذاتي. وأن تتعامل مباشرة مع عميل وأن تبدأ من ورقة بيضاء إلى تسليم نهائي في وقت محصور مغامرة لا ترحم؛ لكنها أنضجتني بسرعة، وخضت مشاريع خارج الأطر الرسمية ... كل ذلك كوّن لدي حسا مستقلا وبنى داخلي شجاعة القرار".               

وتكمل حديثها بقولها: "أما محطتي في إدارة أحد مشاريع حصن الشموخ فكانت اختبارا فعليا للنضج المهني. في هذا المشروع طُلب مني تنفيذ رؤية وخلق توازن بين المعطى الثقافي والتقني من جانب، وروح المكان ومتطلبات العصر من جانب آخر، وهناك شعرت لأول مرة أنني يجب أن أصب كل ثقافتي وكل ما جمعته من خبرة ومعرفة عقلية لتكون في واقع التنفيذ وبالمدة المحددة".                                                

اليوم تواصل ضيفتنا دراستها في مرحلة الماجستير وعضوة في المجال الأكاديمي في جمعية التصميم العمانية وعضوة في جمعية المهندسين العمانية؛ وهذا يُعود بذاكراتها إلى الوراء فتدرك أن هويتها كونها معمارية لم تتشكل في لحظة؛ بل نسجت بخيوط متينة من الصبر والفكر والتجربة وكثرة السؤال.

وتكمل في سياق ذلك: "أصبحت أُصغي لما لا يقال في الأبنية، وأرى ما لا يرسم في الخرائط المعمارية؛ وذلك كمحاولة لتنمية الوعي المعماري للأجيال القادمة، وتذليل الصعاب لِمَن هم بعدنا؛ لنترك لهم المجال بمزيد من الإبداع بعد أن نوجّه العجلة نحو قلب يدرك أن البناء الحقيقي يبدأ من الداخل لا الخارج".        

 

التدريب المعماري... صناعة وعي قبل بناء الجدران

تصف مهنة التدريب في العمارة وإدارة المشاريع أنّها ليست مجرد نقل معرفة أو تمرير تقنيات؛ بل فعل تشكيل عميق ومحاولة جادة لصقل العقل قبل اليد وتنمية البصيرة قبل المهارة. تقول: "حين أقف أمام مجموعة من المتدربين، أستحضر مسؤولية تتجاوز حدود القاعة مسؤولية إعداد عقل معماري يملك من الوعي ما يمكنه من قراءة الفراغ ومن الإدراك ما يجعله يحسن الحوار مع الموقع والإنسان والسياق؛ وذلك من طريق تجربتي التي أدركت منها أن الفجوة الحقيقية ليست محصورة بين النظرية والتطبيق، بل بين ما نلقنه من مفاهيم جامدة وما يواجهه المعماري في بيئة تنفيذية مضطربة مليئة بالتقلبات والمتغيرات".

وتستدرك حديثها بقولها: "من وجهة نظري أن التعليم التقليدي كثيرا ما ينتج معارف نظرية مبهرة؛ لكنها معزولة نوعا ما عن نبض الواقع، إذ لا توجد مشاريع مثالية ولا خطوط مستقيمة، بل قرارات تحت الضغط، وميزانية متقلبة، ومواقع تتحدث بلغات مختلفة من الاحتياج؛ لذلك لم يكن هدفي يوما أن أُعيد إنتاج ما قيل؛ بل أن أزرع في المتدرب روح السؤال وشغف الاكتشاف وجرأة المحاولة. وأحرص على أن يخرج المتدرب من دائرة التلقي إلى مساحة النقد، ومن حدود المحاكاة إلى أرض المبادرة وأن يرى في كل مشروع فرصة لقيادة الفكرة وفي نهاية كل دورة تدريبية لا أنتظر تقييما ولا مديحا. وما أبحث عنه هو ذلك الوميض في عيون المتدربين حين يبدؤون برؤية العمارة ليس كصنعة بل رسالة يحملونها لغيرهم، وحين يدركون أن مشروع العمر قد لا يكون مبنى عظيما، وإنما فكرة ولدت في لحظة وعي وفعل صغير أنجز بإتقان".

 

الفنون.. البعد الخفي الذي يغذي رؤيتي المعمارية

بصراحة لم تكن الفنون يوما هوايات جانبية في مسيرتها؛ إنما امتداد طبيعي لروحها، والمحرك الخفي الذي وسّع رؤيتها المعمارية ومنحها ذلك البعد الذي يتجاوز الوظيفة نحو الجمال ويتخطى التقنية ليبلغ الإحساس. وبين صياغة الفضة والرسم بالزيت والفحم والجبس، وجدتها أُبصر العمارة كل مرة كونها فنًّا حيويا يَتنفس التفاصيل الكبيرة والدقيقة على حد سواء.

وتتحدث بمزيد من التفصيل: "بالنسبة لصياغة الفضة بما تحمله من دقة مفرطة وصبر متناه وتعامل متناغم مع المعدن، علمتني احترام المادة، وفهم خصائصها، والتعامل مع كل عنصر في التصميم كونه عنصرا حيا له وزنه وبصمته. وتلك الحرفة التي تُنحت فيها الحروف والزخارف على مساحات صغيرة بحساب عالٍ، عمّقت بداخلي الإحساس بالتفاصيل المعمارية الدقيقة، وحفّزتني للبحث عن التوازن بين الرقة والصلابة، وبين الجمال والوظيفة في كل واجهة أو عنصر تصميمي أُشرف عليه".

وتكمل: "أما الرسم فكان البوابة التي عبرت منها إلى عالم الإدراك البصري، فالرسم بالزيت ألهمني الصبر على الطبقات المرسومة وتلوينها، وكيف أن العمق لا يصنع بضربة واحدة؛ بل بتراكم محسوب للرؤية واللون. والرسم بالفحم منحني الوعي بالقيمة التناغمية للظل، والنور وهي عناصر جوهرية في تشكيل الفراغات المعمارية. أما الجبس فكان أقرب إلى التشكيل الثلاثي الأبعاد الذي أعاد تشكيل فهمي للكتلة والفراغ، وربما قربني أكثر من لغة النحت التي تُعد جوهر العمارة الصامتة بشكل عام؛ إذ أسهمت هذه الفنون في صياغة أسلوبي التصميمي بتكوين ذائقة غنية متفردة وشعور دقيق بالاتزان والوزن البصري والملمس، وأتوقع أن الرؤية المعمارية المغموسة في الفنون تمنح التصميم طابعا فريدا، وتخرج العمارة من كونها استجابة عقلانية إلى سياق التجربة الحسية الشاملة، ومن هنا لم تَعد الفنون بالنسبة لي مساحات استراحة فقط؛ إنما قنوات للرؤية تغذي التصميم المعماري من جميع النواحي".   

 

صياغة الفضة... فن التفاصيل التي تصنع البصمة

أمّا تجربتها في مجال صياغة الفضة فاشتعلت من شغف دفين بكل ما هو دقيق متقن ومحمل بروح التعبير الفني، إذ كانت بدايتها بسيطة أقرب إلى التجريب الفضولي في اقتناص الفرص بالمشاركة في إحدى الدورات المتاحة للفنيين، ولكن سرعان ما تحولت إلى التزام متناغم مع روحها بعدما أدركت أن كل قطعة فضية تحمل بين طياتها قصة من الصبر الممزوج بالشغف، وحقيقة جذبها إلى هذا المجال منذ اللحظة الأولى تلك الدهشة التي تخلقها التفاصيل الصغيرة ببساطتها الظاهرية، التي تنسج عالما مصغرا من التوازنات الدقيقة بين الحرارة والبرودة والصلابة والليونة والبريق، وانطفاء تلك التفاصيل التي لا ترى بالعين المجردة؛ إلا لمن يدقق فيها فعلا ويدرك أن ما يجعل كل قطعة مصوغة تحمل بصمة لا تتكرر هو توقيع شخصي للصانع وبين كل الفنون التي مارستها من الرسم الزيتي والفحم إلى التشكيل بالجبس؛ إذ تظل صياغة الفضة أكثرها قربا إلى العمق المهاري والبعد الحرفي.

وتضيف: "يُعلمك الفنُ الحسمَ والحدسَ والصبرَ الطويل في آن واحد، وقد أثَّرَت هذه التجربة بشكل غير مباشر في رؤيتي المعمارية أيضا؛ إذ علمتني احترام التفاصيل والتفكير في الكتلة من الداخل إلى الخارج؛ مرورا بجميع التفاصيل، ناهيك عن الزخارف التي استلهمتها من نقوش المساجد وزخارفها التي نقلتها بقطعي الفضية".

 

واقع ومستقبل الهندسة المعمارية في عمان ... تحديات وفرص

تقول ضيف شخصية عدد إشراقة في هذا السياق: "في ضوء ما أتابعه من تطورات مهنية ومشاريع وطنية وما لمسته عن قرب من ممارستي للعمارة وتفاعلي مع بعض منظومتها التعليمية والتنفيذية، أستطيع القول بثقة إن مهنة الهندسة المعمارية في عمانَنا الحبيبة تقف اليوم على أعتاب مرحلة الفيصل بين إرث غني يتطلب صونا، ومستقبل طموح يتطلب جرأة التجديد ومواكبة العالم".

وتضيف: "أرى أنّ الواقع المعماري في السلطنة شهد مؤخرا حراكا لافتا واهتماما ملحوظا من التوجيهات الحكومية، خاصة في ظل التوسع العمراني العالمي وازدهار المشروعات السياحية والثقافية وتبني الدولة مفاهيم الاستدامة والتخطيط الذكي ضمن رؤية عمان 2040. غير أن هذا الزخم التنموي ورغم أهميته لا يعفي المشهد من تساؤلات جوهرية عن هوية العمارة العمانية المعاصرة وعمق ارتباطها بالسياق المحلي ثقافيا ومناخيا واجتماعيا".

وتسترسل في حديثها: "في هذا الوقت الذي نرى تصاميم حديثة تحاكي الطابع العالمي، تظل الحاجة ملحة لتعميق بُعد الهوية في العمارة؛ ولكن ليس عبر محاكاة رموز تراثية سطحية، إنما بإعادة قراءة جوهر المكان وابتكار لغة تصميمية تنبع من الأرض ولا تفرض عليها، وهذا بحد ذاته يمثل تحديا حقيقيا وواقعيا أمام المعماري العماني، بحيث كيف أن يكون ابن بيئته دون أن يكون أسيرا لماضيها وتاريخها؟ وكيف يستوعب الحداثة دون أن يفرط أو يمس الأصالة؟ وأرى حقيقة أنّ من أبرز التحديات كذلك ضعف التكامل بين التعليم المعماري وسوق العمل؛ فالكثير من خريجي العمارة لا يجدون فرصا حقيقية لتطوير مهاراتهم التطبيقية، ويواجهون فجوة بين ما تعلموه نظريا وما يطلب منهم واقعيا. كما أن غياب منظومة بحثية قوية في المجال المعماري يحد من قدرة المعماريين على التجديد والابتكار المدروس، ويجعل أغلب المخرجات نسخا مكررة تفتقر إلى العمق الفكري أو الحس المحلي الحقيقي للعمارة، وربطه بالبيئة العمانية وما يناسبها من التصاميم المدروسة لتتناسب مع رؤية عمان".

وتضيف: "ورغم هذه التحديات، لا يمكن أن نيأس؛ إذ إنّ الفرص القادمة تبشر بمستقبل مشرق شريطة أن يحسن المعماري العماني التقاطها. فالمشاريع المستقبلية المرتبطة بالسياحة المستدامة والمدن الذكية والتطوير الحضري للمناطق التاريخية تمثل أرضا خصبة لإعادة تشكيل العمارة العمانية برؤية جديدة، ونرى أنّ مدينة السلطان هيثم مثالا جليا في هذا النسق. كما أن التحول الرقمي في قطاع التصميم والبناء يفتح آفاقا لمعماريين يمتلكون أدوات النمذجة الذكية، وإدارة المشاريع المتكاملة، والوعي البيئي والتقني؛ لذا علينا أن نعي أنّ مستقبل المهنة في عمان لا يبنى فقط عبر مشاريع كبرى أو خطط حكومية؛ بل من طريق معمارية ومعماريين يحملون حسا نقديا وثقافة بصرية، وإيمانا عميقا بأنّ العمارة ليست ترفا ظاهريا؛ إنما ممارسة حضارية تصاغ بملامح الوطن؛ ولهذا فإن المرحلة المقبلة تعد لحظة اختبار حقيقي لمدى قدرة المعماري العماني على أن يكون مشاركا أصيلا في صياغة المستقبل ليس فقط منفذا صامتا لمخططات الآخرين".

                                       

المدن العمانية الجديدة... بين معاصرة البناء وأصالة الهوية

تقول في هذا الإطار: "إن التوجه الذي تتبناه الحكومة العمانية اليوم نحو إنشاء مدن سكنية متكاملة ومشاريع عمرانية كبرى يُعدُّ تحولا نوعيا في المسار التنموي المباشر وغير المباشر لسلطنة عُمان، ويمثل خطوة استراتيجية في ترجمة أهداف رؤية عمان 2040 على أرض الواقع، لا سيما في ما يتعلق بتحقيق جودة الحياة وتعزيز العدالة المكانية ورفع كفاءة استخدام الأرض والموارد؛ لكن ما يلفت انتباهي في هذا التوجه هو أن الأمر لا يقتصر على البناء والإنشاء فحسب؛ بل يمس جوهر العمارة العمانية المعاصرة في كيفية تشييد مدن تستوعب متطلبات العصر دون أن تفرط في روح المكان وخصوصيته وهويته الثقافية؟ وأرى أن التوسع العمراني إذا لم يؤطر برؤية معمارية نابعة من السياق المحلي، قد يتحول إلى استنساخ صامت لتجارب عمرانية مستوردة تفتقر إلى الانتماء، وتهدر الفرص الثمينة لتطوير هوية معمارية عمانية جديدة".

وتُضيف: "هنا بالضبط يظهر الدور المحوري للمعماري العماني كونه منفذا للمشاريع، وشريكا فكريًّا واستراتيجيا في رسم ملامح هذه المدن الناشئة، وهذا مدن تصمم بوعي مناخي وتتفاعل مع الجغرافيا، لا أن تتجاوزها وتستحضر مفردات العمارة العمانية كونها زخارف سطحية وأنسجة حية قابلة للتطور والتجدد".

 

قيم ومبادئ ترسم المسيرة المهنية والشخصية

أمّا فيما يخصّ هذا الشأن فتُشير إلى أنّ مسيرتها المهنية والشخصية ليست خاضعة لمعادلات النجاح السطحية، ولا تقاس كذلك بعدد الإنجازات أو الألقاب، بينما تحكمها منظومة من القيم التي آمنت بها باكرا، وسرت بها راسخة؛ وذلك كمن يمسك بوصلته في عاصفة الإتقان والمسؤولية والإخلاص والصدق الفكري، الذي لا نسمح بمصادرته مثلما غرس فينا -طيب الله ثراه- جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم.

وتستأنف حديثها: "جميع تلك المبادئ دون استثناء أستحضرها في كل قرار، وفي كل تفصيلة أضعها على ورقة، أو كل فكرة أطلقها في فضاء التصميم، وأؤمن أن العمل دون قيمة لا روح فيه، وأن النجاح الحقيقي هو ذاك الذي يحمل أثرا، ومن بين كل القيم التي تضيء دربي حب عُمان هي الجذر العميق الذي تنبع منه كل المبادئ والنبض الحي الذي يحرك في شعور الانتماء والمسؤولية".

وتكمل: "ولذلك، أحرص أن يكون عملي امتدادا لقلبي، وأن تحمل تصاميمي صدقا في البعد الإنساني وأصالة في الرؤية واحتراما لكل ما تمثله عُمان من قيم؛ ولعل أجمل ما في هذه المسيرة أنني كلما غصت في التفاصيل المهنية وجدتني أعود إلى المعنى الأول (أن أكون ابنة لعُمان) وأداة من أدوات عمرانها، وصوتا صغيرا في نشيدها، وبصمةً هادئة في مسيرة نمائها التي لا تتوقف".

                

رؤية مستقبلية لبناء الوعي والمعمار العماني

أما في هذا الشأن فتقول: "حين أتأمل السنوات العشر القادمة أراها مساحة مفتوحة للمنجز الحقيقي، وتحولا نوعيا في مساري الذي تتقاطع فيه طموحاتي الأكاديمية مع مسؤوليتي كوني معمارية واعية تنتمي إلى هذا الوطن بشغف وصدق".

وتضيف: "نعم أتطلع بعمق إلى الاستمرار في المسار الأكاديمي، لا من باب التخصص فقط؛ بل من باب التأثير في المسار الأكاديمي حين يُمارس بروحٍ مسؤولة، وعقل ناقد لا يقتصر على التعليم النظري؛ إنما يصبح أداة لتغيير البنى الذهنية، وتصحيحا للمفاهيم المعمارية، وتأسيسا لجيل يرى العمارة لا كونها مهنة تنفيذية بل فكرا وعقلانية تسهم في بناء المستقبل، وأرى نفسي في العقد القادم أشارك في صياغة مناهج تعليمية جديدة تعيد ترتيب الأولويات وتكسر النمطية، وتربط الطالب بمحيطه المحلي والعالمي؛ ليخرج من القاعة حاملا للشهادة والرسالة معا. وفي الوقت ذاته لا أتنصل من رغبتي في مواصلة التوسع في المجال العملي، والفني؛ لأنني أؤمن أن الأكاديمي الجيد هو من ظل يلامس الواقع ويشتبك معه، ويستمد من تفاصيله نماذج للتعليم والتغيير، وعليه فإن مستقبلي بالنسبة لي ليس وعدا بمستقبل شخصي فقط؛ بل عهد بأن أكون جزءا فاعلا في بناء الوعي المعماري الوطني، وأن أسهم فكريا وعمليا في إنجاح منظومة رؤية عُمان 2040 بما تحمله من طموح بيئي واجتماعي وعمراني عميق".

                                                                    

رسالة إلى شباب العمارة... بين الأصالة والحداثة

وتختم لقاءنا معها بقولها: "إلى كل شاب وشابة يخطون اليوم أولى خطواتهم في درب الهندسة المعمارية، اجعلوا بداياتكم مغموسة بالبصيرة، تعلموا من أرضكم من جبال عمان الشامخة ومن قراها الطينية، ومن واجهاتها البيضاء ومن هندستها التي كانت دوما في حوار مع الطبيعة. لا تجعلوا العمارة مجرد نسخ من قوالب عالمية لا تبت لنا بصلة؛ بل اجعلوها امتدادًا حيًا للهوية، وابتكارا متجذرا في التراب الذي أنتم منه. أنتم جيل طلب منه أن يواكب العصر (نعم) ولكن لا تتبعوه بالانبهار والانجراف؛ إنما بالوعي".

وتكمل: "لا تفرطوا في الأصالة بحجة الحداثة، ولا تتشبثوا بالماضي خشية التجديد. بل كونوا كما أرادتكم عمان أن تكون عقولكم نور العلم وفي قلوبكم جذوة حب الوطن. تحلوا بالإتقان فإن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه، واجعلوا كل مشروع توقيعا أخلاقيا قبل أن يكون إنجازا تقنيا. افهموا الاستدامة لا كونها مصطلحا إنما قيمة تُلهمكم أن تتركوا المكان أفضل مما كان، وأن تبنوا ما يدوم ليس ما يبهر لحظة، ويذبل بعد حين... كونوا الجسر بين الأجيال، واحملوا في تصاميمكم صوت من سبقكم ونفس من سيأتي. واذكروا أن في كل نافذة تفتح، وكل جدار يرسم، هناك وعد لعُمان ألا نخذلها وأن نبنيها لا كما تبنى المدن بل كما تحفظ القيم وتصان الهويات".

إرسال تعليق عن هذه المقالة