الصحافة في زمن الذكاء الاصطناعي بين الفرص والتحديات
علي البوسعيدي:
على الصحفي أن يتقن أدوات العصر ليبقى مؤثرا ومتفاعلا مع التطورات
إيمان السنانية:
الذكاء الاصطناعي لا يملك إحساس الصحفي ولن يحل مكانه
مريم الكميانية:
الصحفي الذكي هو من يوازن بين التقنية والمهنية
ناصر الشكيلي:
لا يمكننا الاعتماد كليا على الذكاء الاصطناعي في صناعة الخبر
ناصر الخصيبي:
مستقبل الصحافة ليس تقنيا فقط بل أخلاقي
أجرى الاستطلاع: محمد القرني
في عصرٍ تتسارع فيه وتيرة التطور التكنولوجي بشكل يفوق كل التوقعات، وتغزو فيه الخوارزميات الذكاء البشري في عدد متزايد من مجالات الحياة، برز الذكاء الاصطناعي كونه أحد أبرز عوامل التغيير التي تؤثر في نسيج المجتمعات وأساليب تواصلها.
الاعلام الصحافة، التي لطالما عُدّت حِصن الحقيقة ومصدر المعرفة للجماهير، إذ تواجه اليوم تحديات غير مسبوقة، لم تعد تتعلق فقط بدقة المعلومة أو سرعة إيصالها، بل وصلت إلى إعادة تعريف دور الصحفي ذاته، وطبيعة أدواته، فَالتحولات الرقمية التي أحدثها الذكاء الاصطناعي لم تترك مجالاً للجمود، بل فرضت تسريع وتيرة التكيف والتجديد؛ ليكون الصحفي في قلب الثورة التقنية لا متفرجًا عليها.
وفي هذا السياق، برزت أهمية المبادرات النوعية التي تسعى إلى تأهيل الصحفيين والإعلاميين وتعريفهم بأدوات الذكاء الاصطناعي وكيفية التعامل معها، بما يسهم في صقل مهاراتهم وتوسيع آفاقهم المهنية. ومن هذه المبادرات، الدورة التدريبية التي نظّمتها جمعية الصحفيين العمانية ممثلة بلجنة الصحفيين بمحافظتي الداخلية والوسطى، بالتعاون مع جامعة التقنية والعلوم التطبيقية بنزوى ومتحف عُمان عبر الزمان، تحت عنوان: “استخدام الذكاء الاصطناعي في الصحافة والتحقق من الأخبار”، والتي عُقدت على مدى يومين متتاليين في ولاية منح بمتحف عمان عبر الزمان، خلال الفترة من 23 إلى 24 يوليو 2025م.
وناقش المشاركون كيفية الدمج بين الذكاء الاصطناعي بوصفه أداة مساعدة في العمل الصحفي، والحاجة إلى الحفاظ على العنصر البشري صانعا نهائيا للخبر.
ومثلت هذه الدورة فرصة لمجموعة من الصحفيين والمهتمين، للتفاعل مع مهتمين في المجال الإعلامي، والتعرف على آخر المستجدات، وفتح نقاشات مستفيضة عن فرص وتحديات الذكاء الاصطناعي في الصحافة، وخاصة فيما يتعلق بموضوع التحقق من الأخبار ومكافحة التضليل الرقمي. كما عكست الدورة حرص المؤسسات الإعلامية العُمانية على التكيف مع متطلبات العصر، وتهيئة جيل جديد من الإعلاميين قادر على الجمع بين القيم الصحفية الراسخة، والذكاء الاصطناعي التقني الواعد. وهكذا، يقف الصحفي اليوم أمام مشهد مهني يتطلب منه المزيد من الانفتاح على التكنولوجيا، والمثابرة على التعلم المستمر، وفهم معمق للأدوات الذكية التي باتت جزءًا لا يتجزأ من عملية الصناعة الإعلامية.
"إشراقة" استطلعت آراء المشاركين لأهمية الدورة وما يمثله الذكاء الاصطناعي اليوم في عالم الصحفية؛ إذ قالت مريم بنت جمعة الكميانية من دائرة الإعلام والتسويق بجامعة نزوى: "الذكاء الاصطناعي قادر على إنتاج محتوى صحفي موثوق ومستقل بنسبة معينة، إذا ما تم على وفق سياسات وقوانين يسنها المختصون، إلى جانب مراقبة المحتوى والمعلومات المتدفقة إليه".
وأضافت: "إن سرعة التطور الذي يشهده العالم التقني كفيل بأن يزيد من موثوقية المعلومات إذا ما تم إدارة الأمر بطريقة محايدة لا تخدم جهة أو مؤسسة بعينها، ولكن رغم ذلك أرى أن على الصحفي أن يتأكد من أي معلومات أو بيانات قد تصل إليه عبر الذكاء الاصطناعي، كما أن عليه التدخل في بعض الأوقات؛ إذ إننا لا ننسى أنه آلة وينتج على وفق البيانات الواردة إليه، في حين أن بعض المواد تحتاج إلى الأنسنة وتعزيز قيم المجتمع وتوجهاته".
وأشارت الكميانية بقولها: "هناك أهمية في أن يواكب الصحفي تطورات العصر المتسارعة، وأن يحاول إدخال المجال التقني في عمله بما يسهم في جودة العمل وتبسيطه، مثل الاستعانة بالذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات، وإنتاج الفيديوهات، وجلب المعلومات، ونشر الإعلانات، ولكن على وفق سياسة إعلامية أخلاقية تضمن المصداقية".
وأضافت: "يجب التركيز على الأدوات الصحفية الحديثة في النشر ووصول الحدث إلى أكبر فئة من الناس، فاختلاف طرق النشر عما كانت عليه في السابق يلعب دورًا كبيرًا في تفاعل الجمهور وإنشاء المحتوى المناسب للمستهدفين".
وشددت الكميانية على ضرورة أن يتقن الصحفي طرق الكشف عن الأخبار أو المواد المنتجة المفبركة وغير الصحيحة التي قد يستخدمها بعضهم للتضليل وتغيير الأحداث أو تضخيمها.
وعن التهديدات التي يمكن أن يشكلها الذكاء الاصطناعي على المصداقية الإعلامية أشارت: "أحد أهم التهديدات الحاصلة هي الفبركة والتضليل للأحداث الجارية في العالم، فقد نُشر أكثر من فيديو أو صور فوتوغرافية مفبركة بالذكاء الاصطناعي لغرض إنشاء محتوى تفاعلي يحصد الكثير من المشاهدات، أو لأغراض سياسية أو اقتصادية، إلى جانب تضخيم الأحداث أو نقلها بطريقة تخدم جهات محددة؛ مما يفقد الإعلام المصداقية في ذلك ويغير من مسار الأحداث، ومنه اختلال المعلومات المضافة للذكاء الاصطناعي التي قد يستخدمها بعضهم دون التأكد من صحتها وسلامتها".
علي بن سعود البوسعيدي، رئيس لجنة الصحفيين بمحافظتي الداخلية والوسطى، أشار إلى أن موضوع الذكاء الاصطناعي يعد من الموضوعات المهمة في الوقت الحاضر، مشيرا إلى أن الإعلاميين والصحفيين من الضرورة أن يستفيدوا من المعلومات والبيانات التي تقدمها تقنيات الذكاء الاصطناعي في كتابة المقالات ونشر التقارير والأخبار الرسمية الموثقة، بما يسهم في تحسين جودة المحتوى الإعلامي وتوجيه تغطية الأحداث بشكل أفضل.
وأضاف: "تنظيم الدورة يأتي في إطار سعي اللجنة إلى تطوير قدرات الصحفيين والمراسلين، وتعزيز جاهزيتهم للتعامل مع أدوات الذكاء الاصطناعي في مختلف مراحل العمل الصحفي، من جمع المعلومات وتحريرها، إلى التحقق من صحتها ونشرها".
من جانبها، أوضحت إيمان السنانية أن الذكاء الاصطناعي لن يحل محل الصحفي؛ لأن مهنة الصحافة تقوم على المشاعر وتحمل طابعا إنسانيا لا يمكن تقليده تكنولوجيا.
وذكرت أن الذكاء الاصطناعي مجرد أداة مثل الحاسوب أو الإنترنت، ويظل دور الإنسان حاسمًا في تشغيل هذه الأدوات وتوجيهها. وبينت أن الذكاء الاصطناعي يمكنه أداء المهام الروتينية؛ مثل كتابة النصوص أو تحليل المعلومات، لكن يظل التحليل النقدي والرؤية الإنسانية من اختصاص الصحفي.
وتحدثت السنانية عن التحولات الكبرى التي أحدثها الذكاء الاصطناعي في مجال الصحافة، إذ برز مفهوم "الصحفي التقني"، وهو الذي لا يقتصر دوره على كتابة الخبر، بل يمتلك فهما، ولو مبدئيا، لكيفية عمل الخوارزميات والتقنيات الحديثة.
وقالت إن الصحفي اليوم أصبح قادرًا على كتابة الخبر وإنتاج الفيديو وإنشاء الحوارات والنقاشات الافتراضية باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، مؤكدة أن العلاقة بين الصحفي والتقنيات الحديثة علاقة تكاملية، تبدأ من تشغيل العقل وتجميع النقاط الأساسية، ثم الاستعانة بالأدوات التقنية لصقل المحتوى، مع بقاء الصحفي هو من يقيّم الناتج النهائي ويعدله وفقا للسياق الثقافي والتحريري.
وأشارت السنانية إلى أن الاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعي لا يخلو من مخاطر، نظرا لكونه يعتمد على خوارزميات قد تتضمن تحيزًا ثقافيًا أو فكريًا. وأكدت أهمية أن يكون الصحفي واعيا في تقييم كل ما ينتجه الذكاء الاصطناعي من محتوى، خاصة من حيث اللغة والمصطلحات والملاءمة للثقافة والدين، موضحة أن الخوارزميات مصممة من قبل أشخاص من خلفيات ثقافية قد لا تتطابق مع واقعنا، ومن هنا فإن التحرير والتقييم النهائي يجب أن يظل بيد الصحفي.
وأضافت: "إن من أبرز التحديات التي تواجه الصحفيين اليوم هو مواكبة التغيرات المتسارعة، مشيرة إلى أن بعض المؤسسات الصحفية لا تزال متأخرة في التحول الرقمي، والفكر التقليدي التي ترى في التكنولوجيا تهديدا، في حين أنها في الحقيقة تمثل فرصة لِتوسيع الانتشار والتسويق الرقمي".
وشبهت هذه المرحلة بالثورة الصناعية التي رفض فيها بعضهم دخول الآلة الحاسبة والكمبيوتر، قبل أن يصبح استخدامها ضرورة، وشددت على ضرورة أن يوسّع الصحفي مهاراته ليشمل مجالات أخرى مثل إنتاج الفيديو والبودكاست والفويس أوفر؛ لمواكبة احتياجات الجمهور الذي بات يبحث عن المحتوى المرئي والمسموع، لا المكتوب فقط.
ناصر الشكيلي عضو جمعية الصحفيين العمانية أوضح قائلا: "يصنع الذكاء الاصطناعي أخبارا صحفية كاملة، بشرط أن يتم هندستها بشكل صحيح"، إلا أنه حذر من الاعتماد عليه كونه مصدرا أوليا للمعلومات بسبب حساسية المحتوى والمسؤولية التي تترتب على نشره.
وأكد أن الصحفيين والإعلاميين الشباب هم الأكثر استعدادا للتعامل مع أدوات الذكاء الاصطناعي مقارنة بالجيل الأقدم، مشيرًا إلى أن مستقبل الصحافة سيكون بين مطرقة سرعة التنفيذ وسندان المصداقية، وسيظل العنصر البشري هو محور العمل الصحفي مهما تطورت الأدوات والتقنيات.
هذا الاستطلاع لم يكن ليُجيب عن كل الأسئلة، لكنه فتح نافذة للوعي، وأضاء فكرة أن الصحفي الذي يفهم الأدوات، ويظلُ متشبثا بروح المهنة، هو وحده القادر على أن يصنع توازنا بين الإنسان والآلة، وبين التطوّر والضمير، تُبرز هذه الدورة أهمية تمكين الصحفيين من أدوات الذكاء الاصطناعي، بما يعزز جودة المحتوى وسرعة الإنتاج دون الإخلال بالمهنية والمصداقية.
وقد عكست التجربة حرص المؤسسات العُمانية على الاستثمار في تطوير كوادرها الإعلامية، دعمًا لتوجهات رؤية عُمان 2040 التي تضع الابتكار وبناء القدرات البشرية في صميم أولوياتها. ومع استمرار التحول الرقمي، تتأكد الحاجة لمثل هذه المبادرات التي تربط بين التقنية والرسالة الإعلامية، في سبيل إعلام أكثر تأثيرا وارتباطا بالواقع.
ناصر الخصيبي عضو جمعية الصحفيين قال: "استخدام الذكاء الاصطناعي في العمل الإعلامي لا ينبغي أن يكون محصورا في الجوانب التقنية فقط، بل لا بد أن يترافق مع وعي مهني وأخلاقي عالٍ. فالمشكلة لا تكمن في الأدوات، بل في كيفية استخدامها، مؤكدا أن الصحفي اليوم يحمل مسؤولية مزدوجة: إنتاج محتوى عالي الجودة، والحرص على أن يكون ذلك المحتوى نزيها، غير مضلل، ويخدم الصالح العام"
وقال الخصيبي: "الاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعي من دون رقابة بشرية قد يفتح الباب أمام التحيز، أو الترويج لمعلومات غير دقيقة؛ لذا فإن أهم ما يجب أن يتحلى بِه الإعلامي في المرحلة القادمة هو القدرة على التفكير النقدي، والتحقق، والتقييم المستقل للمحتوى، مهما كان مصدره".