علم المياه الاجتماعي: مفهومه وأهميته
عبدالله بن سيف الغافري
أستاذ كرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج وعلم المياه الاجتماعي
يعرف علم المياه الاجتماعي على أنه مجال علمي متعدد التخصصات يدرس العلاقات بين المجتمعات الإنسانية والمياه وتفاعل هذه المجتمعات مع الدورة المائية وتأثرها بها وتأثيرها فيها؛ مع الأخذ في الاعتبار الجوانب الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والبيئية المتعلقة بالموارد المائية. إذا باختصار، هو علم يدرس علاقة الإنسان بالماء وتأثره به وتأثيره فيه.
عبر التاريخ، ومنذ أن وجدت الحياة في كوكب الأرض ووجد الإنسان فيها، لم يستطع الإنسان العيش إلا بالقرب من مصادر المياه، ومع تطور المعارف وتقنيات الحياة وانتقال الإنسان من كائن بدائي يعيش على جمع الفواكه والخضار والصيد إلى إنسان متحضر يزرع ما يحتاجه من غذاء ازدادت حاجته للمياه. إن تطور الإنسان إلى مجتمعات بشرية ازدهرت حول مصادر المياه وأقامت الحضارات المختلفة بالقرب منها، جعل هذه المجتمعات تتنافس على ملكية هذه المصادر بشكل تصاعدي ومعقد؛ مما أدى إلى التنافس والخلافات والحروب. ومع الانفجار السكاني والتوسع الكبير في الزراعة والصناعة زادت الحاجة إلى المياه بشكل مضطرد؛ مما خلق تحديات بيئية واجتماعية كبيرة جدا جعل من الحتمية وجود حلول مستدامة لحوكمة هذه المياه وإدارتها بشكل يجعل توزيعها عادلا يضمن أحقية الوصول إليها لكل البشرية.
لهذا برز علم "المياه الاجتماعي" Socio-hydrology لفهم تفاعل المجتمعات البشرية مع المياه ومصادرها عبر الزمن من منظور مختلف عن النظرة التقليدية السابقة لعلم الهيدرولوجيا؛ يضع في الحسبان أن مشاكل المياه سببها بشري؛ ولذا حل هذه المشاكل وفهمها يلزم فهم السلوك البشري والثقافات المتعلقة بتفاعل الإنسان مع المياه.
كانت النظرة التقليدية السابقة لعلم المياه Hydrology أن الإنسان يستطيع حل مشاكل المياه بالطرق الهندسية واستعمال التقنيات المختلفة، غير أن هذه النظرة أثبتت فشلها لأنها غير مبنية على فكرة أن الإنسان نفسه هو مصدر مشاكل المياه وأن الإنسان لا يملك النظام المائي البيئي بل هو جزء منه، يتفاعل معه ويؤثر فيه ويتأثر منه؛ ولذا كان لابد من تطوير علم المياه بإدخال فهم السلوك البشري المرتبط بالمياه وفهم تفاعل الإنسان مع الدورة المائية وتأثيره فيها وتأثره بها عبر الزمن بتغذية راجعة تصحح استشراف المستقبل في حوكمة وإدارة المياه.
تُعد هذه النظرة إلى المياه منطلقًا لنموذجٍ تفسيري آخذٍ في الهيمنة على دوائر دراسات المياه حول العالم، إلى الحد الذي دفع بـ "البرنامج الهيدرولوجي الدولي" (IHP) التابع لليونسكو، الذي يُعدّ أبرز كيان دولي معني بحوكمة المياه، إلى الابتعاد عن الهيدرولوجيا التقليدية والاقتراب أكثر فأكثر من علم المياه الاجتماعي. ويتجلى هذا التوجه الاجتماعي-الهيدرولوجي للبرنامج في أجندته التي تبنّتها الدول الأعضاء في منظمة اليونسكو (194 دولة) ابتداءً من عام 2002م. وتهدف هذه الأجندات إلى تفعيل الشبكات العلمية، وتعزيز التعاون بين صناع القرار والعلماء، وتطوير القدرات المؤسسية والمجتمعية من أجل معالجة مشكلات المياه على المستوى العالمي.
وقد كشفت دراسة حديثة أجريتها بالشراكة مع زميلي د. مجيد لَبّاف خانِيكي، أن الأجندات التي اعتمدها البرنامج الهيدرولوجي الدولي في الفترة من 1975 إلى 2001 كانت تركّز في الغالب على الجوانب التقنية والتنموية للهيدرولوجيا، مع التطرّق أحيانًا إلى أبعادها البيئية، بينما بدأ التحوّل الواضح نحو قضايا المياه الاجتماعية مع الدورة السادسة للبرنامج (IHP-VI) التي امتدّت من 2002 إلى 2007، واستمر هذا الاتجاه لاحقًا. فقد أصبحت مفاهيم المجتمع والحَوكَمة عناصر ثابتة في أجندات البرنامج التالية حتى الوقت الحاضر، وهو ما يعكس تصاعد الاهتمام الدولي بالأبعاد الاجتماعية للمشروعات المائية.
هذه أهم محاور الاختلاف بين علم الهيدرولوجيا التقليدية وعلم المياه الاجتماعي:
-
تركز الهيدرولوجيا التقليدية على العمليات الفيزيائية المختلفة للمياه في الدورة المائية، كالتبخر والتساقط والجريان السطحي والترسّب للمياه الجوفية مفترضة أن هذه الدورة المائية منعزلة عن العوامل الاجتماعية والاقتصادية، بينما يدمج علم المياه الاجتماعي السلوك البشري وثقافته والوعي البيئي والأخلاقيات والسلوكيات المجتمعية والحوكمة ليبني نماذج مشتركة تسجل تفاعلات الإنسان مع البيئة عبر الزمن.
-
تعد الهيدرولوجيا التقليدية النظام المائي يعمل بمعزل عن التأثيرات البشرية بينما علم المياه الاجتماعي يرى أن النظام المائي مفتوح متأثر بالقرارات البشرية وبتطور الإنسانية وتقنياتها المختلفة عبر الزمن، ولا يمكن فهمه دون فهم تداخلات الإنسان مع هذا النظام وتفاعله معه.
-
في تعامل الهيدرولوجيا التقليدية مع السيناريوهات المناخية تأخذ بالاعتبار أنماط محددة للتنبؤ بالفيضانات أو الجفاف مبنية على أرقام وحقائق فيزيائية بمعزل عن سلوكيات المجتمعات، بينما يضيف علم المياه الاجتماعي البعد الإنساني لاستشراف المستقبل مثل ردود فعل المجتمع لتطورات تنمية موارد المياه، كبناء السدود، أو استجابة هذه المجتمعات لحملات التوعية مع إعادة إدخال هذه البيانات الإنسانية في نماذج التوقعات لتحسين جودة التنبؤات.
يندرج تحت علم المياه الاجتماعي طيف واسع من العلوم الهندسية، والتقنية والبيئية والإنسانية. إذ تشمل الدراسات ومجالات البحث تحت مظلة علم المياه الاجتماعي، الأبحاث الهندسية والتقنية والتحليلية مع الدراسات الاجتماعية والتاريخية والثقافية بما يصب في هدف واحد وهو فهم علاقة الإنسان بالماء مثل كيف يستعمل الإنسان هذه المياه بشكل مستدام وكيف يوزعها بالعدل وكيف يحافظ على بقاء كمياتها لأجياله وكيف يحافظ على نقائها وكيف يطور نفسه لفهم أنه جزء من منظومة المياه البيئية وليس مالكا لها.
إن دراسة إدارة أنظمة المياه التقليدية، كالأفلاج في عمان والقنوات في إيران والخطارات في المغرب والساقية في إسبانيا والمانبو في اليابان والسورانجام في الهند والتانك في سيريلانكا، يعلمنا الكثير من الدروس والممارسات البشرية عبر التاريخ، في إدارة وحوكمة مصادر المياه بشكل عادل وسلمي ومستدام.
هذه المجتمعات، تعايشت مع بعضها حول مصادر المياه وتعلمت عبر آلاف السنين، كيف توزع هذه المياه فيما بينها بشكل عادل وتعلمت كيف تحافظ عليها من التلوث ومن الجفاف، وتعلمت كيف تتأقلم مع التغيرات المناخية المختلفة، بل وتعلمت التأقلم مع التغير المناخي العالمي؛ لذا لابد أن نتعلم منها وننقل معرفتها لأجيالنا. إن المعرفة بإدارة المياه، ليست قفزة، بل تراكم خبرات لمئات الآلاف من السنين.
مجالات البحث في العلم الجديد ستشمل أيضا دراسة اقتصاديات المياه، وعلم النفس الاجتماعي المرتبط بالمياه، وكيفية فهم ديناميكيات تأقلم المجتمعات وتعايشها مع بعضها ومع مصادر المياه وكذلك الاقتصاد السياسي المرتبط بسلوك المجتمعات المحلية والدول حول النزاع على مصادر المياه عبر التاريخ وتشكل هذه المجتمعات أو الدول أو ضمورها بسبب التنافس على المياه ومصادرها وكيفية فض الخلافات حول مصادر المياه.
من ضمن مجالات البحث في علم المياه الاجتماعي هو بحث قدرة المجتمعات الهشة على الصمود أمام مخاطر المياه، Resilience Assessment من فيضانات مفاجئة أو جفاف طويل، بما سبق ذكره من التعلم من المعارف التقليدية، لكن أيضا بتطبيق التقنيات الحديثة والاستشعار عن بعد وتحليل البيانات الضخمة وتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي بناء على بيانات هيدرولوجية واجتماعية متكاملة.
ولا يغيب عن المشهد البحثي تقييم المخاطر والقدرة على الصمود، الذي يحلل سيناريوهات الجفاف والفيضانات ويدرس مدى قدرة المجتمعات على التكيّف (Adaptive Capacity)، مطورًا مؤشرات لرصد الاستدامة الهيدرولوجية–الاجتماعية. وأخيرًا، يشهد المجال تطورًا سريعًا في تقنيات الاستشعار عن بُعد وتحليل البيانات الضخمة، بالإضافة إلى توظيف الذكاء الاصطناعي والتعلّم الآلي في التنبؤ بأنماط الطلب والاستهلاك للماء المستقبلي بناءً على قواعد بيانات هيدرولوجية واجتماعية متكاملة.
في عام 2021م أعلنت جامعة نزوى تأسيس كرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج وعلم المياه الأثرية ثم في يونيو 2025م تم تجديد عقد الكرسي بين جامعة نزوى ومنظمة اليونسكو لأربع سنوات أخرى مع إضافة تخصص علم المياه الاجتماعي إليه. وهذا الكرسي هو الأول من نوعه في العالم في تخصص دراسات الأفلاج وعلم المياه الاجتماعي. ومنذ تأسيسه، أسهم بشكل كبير في خدمة المجتمع المحلي والدولي فيما يخص دراسات الأفلاج وإدارة المياه وحوكمة المياه ونشر دراسات وأبحاثا علمية كثيرة في هذه الحقول العلمية بطاقم أكاديمي وبحثي متعدد التخصصات. ويسعى الكرسي حاليا إلى إنشاء برنامج ماجستير في علم المياه الاجتماعي مع مواصلة التدريس الجامعي والبحث العلمي وتقديم الاستشارات للجهات المعنية، محليا ودوليا. بالإضافة إلى ذلك، يعمل الكرسي على تأصيل منظومة “المعرفة المشتركة” بين أصحاب المصلحة—من مزارعين ومسؤولين حكوميين وباحثين؛ مما يدعم نهج الحوكمة التشاركية ويعزز استدامة إدارة المياه على مستوى المجتمعات المحلية.