السنة 20 العدد 190
2025/06/22

من ضفاف سامرّاء إلى مدارج المعارف …

حكاية نجاح تروي سيرة ذاتية في العلم والأدب



سيرة ذاتية علمية ذات طابع أكاديمي وثقافي، تسرد مراحل حياة أستاذ من طفولته الناعمة إلى إسهامات علمية وأدبية في مختلف المناصب الأكاديمية والمنصات التعليمية؛ إذ خطى بأحلامه من تراب النشأة إلى صفحات التأليف الأكاديمي ومنابر التدريس الجامعي … هيّا لنتعرف من طريق الحوار في أدناه على مسيرة علمية أثمرت مذ كانت في رقائقها الأولى الريفية إلى أن شكّلت عقلا أكاديميا خدم الأدب والنقد العربي.

 

س1/ عرّفنا بنفسك ... نشأتك والأسرة ومجتمعك؟

فليح مضحي أحمد السامرائي، ولادتي على الجانب الأيمن من نهر دجلة الخالد المنساب جنوبا باتجاه مدينة سامراء، إذ يتربع على عرش انسيابه الجمال والاخضرار والحقول الزاهية، وفي تلك القرية - البودور -  كانت الولادة  لتزدان الحقول اخضرارا ورونقا وجمالا بولادة الابن الأكبر لأبي من زوجته الثانية، إذ كان إبصاري للنور في ربيع 1966، وتحديدا في الأول من آذار (مارس)، أما عن انتمائي الوطني فهو للعراق العربي؛ والقبلي لعشيرة البو عباس الحسنية السامرائية، وقريتي آخر القرى التي تلحق إدارياً إلى قضاء سامراء من جهة الشمال، أما مجتمع النشأة فهو المجتمع الريفي العراقي المحافظ على تقاليده الأصيلة في كل شيء.

 

س2/ ماذا عن مساركم التعليمي؟ كيف كان طريقه من المدرسة إلى الجامعة وصولا إلى الدراسات العليا؟

التحقت بالدراسة الابتدائية عام 1972م، في مدرسة العرفان في قرية الزﻻية المجاورة لقريتي وتخرجت فيها عام 1978م، إذ كان ذهابي إلى المدرسة لا يخلو من الصعاب والمشاق؛ وربما هذه المشقة كانت الحافز الأول للاهتمام بالعلم والمعرفة، يضاف إليها محاولة الخلاص من قسوة الحياة الريفية في السبعينيات من القرن الماضي، فضلا عن هذا وذاك تشجيع والدي -رحمه الله- ووالدتي -بارك الله في عمرها-، إذ كان لهما الأثر البارز في تذليل الصعاب التي كانت تواجهني، وربما كوني كبير الأسرة ومدللها في الوقت نفسه. فقد كنت أيام الدراسة من المميزين؛ ولي حظوة كبيرة من الاهتمام من جانب المعلمين أيضا الذين تتلمذت على أيديهم وتفضلوا علينا بالتعليم، تلك النخبة العلمية والأبوية لا أظنها تكرر. 

 

في المرحلة الثانوية التحقت بثانوية دجلة للبنين في العام الدراسي 1978- 1979، في ناحية دجلة (مكيشيفة) وتبعد أكثر من عشرة كيلو مترات عن قريتنا، وهنا ازدادت الحياة صعوبة وقسوة بعد أن كنت أظنها سهلة ويسيرة، ومنها صعوبة الوصول إلى المدرسة، لكن الانتماء إلى الدراسة في المرحلة الثانوية كان بداية الانفتاح على نافذة العالم؛ ولو بجزء يسير منها؛ مثل: المشاركات في الأنشطة الثقافية للمدرسة، وكذلك وجود مكتب بريد نستطيع منه الحصول على المطبوعات الثقافية والتواصل مع الأصدقاء، يضاف لكل هذا أساتذتي الفضلاء في الثانوية، إذ كانوا خير محفز لنا للإبداع آنذاك. ومن الجدير بالذكر هنا أن أستذكر أهم شخصيتين تأثرت بهما: مدير المدرسة الأستاذ مشعل جاسم الدلي، والأستاذ مجيد ملوك الذي أصبح أستاذ في الجامعة لاحقا.

 

أما في المرحلة الجامعية فقد التحقت في قسم اللغة العربية، كلية الآداب، جامعة بغداد عام

1986-1987 لإكمال دراسة البكالوريوس، وكان دخول قسم اللغة العربية على وفق المعدل وليس الرغبة؛ وهنا بدأ التحول التدريجي في حياتي، الآن أنا في عاصمة الرشيد - بغداد - وجامعتها العريقة جامعة بغداد، إذ منها بدأ مشواري مع الكتب وامتلاكها واقتنائها، وزاد هذا الاهتمام أكثر عند التحاقي بدراسة الماجستير في جامعة تكريت كلية التربية عام 2001م، إذ بدأت بوادر الاهتمام العلمي والمعرفي وكذلك الجانب النقدي الذي صار يتبلور عند تخصصي في الماجستير، وقد كان لتشجيع الناقد الأستاذ الدكتور محمد صابر عبيد أثر كبير في بلورة هذا الاهتمام وصقله؛ فكان هو الشخصية الأكثر تأثيراً عليّ نتيجة لاهتمامه أيضاً.

 

أما مرحلة الدكتوراة التي باشرت فيها عام 2006 في جامعة تكريت، كلية التربية، أيضا، فأعدها المدة الأهم في سياق مسيرتي العلمية والأدبية، التي فتحت أبواب الإبداع والاحتكاك الثقافي، وفيها حصلت على منحة بحثية إلى القطر العربي السوري، جامعة تشرين في اللاذقية، التي أكملت فيها جزءا مهما من الاحتكاك بنخبة ثقافية مميزة في سورية ومن أقطار عربية أخرى؛ كان الأبرز فيها الناقد عبد الله أبو هيف (رحمه الله).

 

س3/ أطلعنا على تكوينكم البحثي والأكاديمي واهتماماتكم بهذين المجالين ونشاطاتكم فيهما؟

بدأ مشواري البحثي الحقيقي مع رسالة الماجستير وأطروحة الدكتوراة التي لحقتها، لكن الاحتكاك الثقافي الذي أعده نقلة مهمة في حياتي هو مشاركتي لأول مرة في بحث قدمته لمهرجان أبي العلاء المعري الثقافي الحادي عشر في إدلب السورية في ديسمبر 2007، وفي حينها كنت ما زلت في بدايات مرحلة الدكتوراة، فاعتليت منصة التقديم وجلست بين عمالقة الأدب والثقافة في موقف لا أحسد عليه مع نفسي خاصة، وكانت بداية النجاح كما أسميها، إذ تتابعت المشاركات وعمليات البحث العلمي والمعرفي إلى أن استوت على مجموعة لا بأس بها من التأليف والمشاركات في المؤتمرات والندوات.

 

 ولا يفوتني أن أذكر أن لانتمائي إلى جامعة المدينة العالمية - ماليزيا الفضل في التطور والصقل لهذه الموهبة والخبرة؛ في المجالات التي ذكرتها في سؤالك كافة، وتمكّنت فيها من الحصول على الترقية العلمية الأبرز وهي الأستاذية؛ إضافة لِشغلي مناصب إدارية فيها ومن أبرزها كنت عميدا لكلية اللغات لسنتين، تلك المناصب الإدارية التي منحتني الخبرة العملية في مجال الإدارة وكانت مكملة لما تعلمته في العراق عندما كنت أعمل في الإدارة، فضلا عمّا قمت به من نشاط بحثي في التأليف والمشاركات في مختلف الأنشطة البحثية والأكاديمية؛ ولسنوات عشر قضيتها في ماليزيا البلد الجميل في كل شيء.

 

تتابعت بعدها فعاليات نشر الكتب والبحوث وكان من أهم ما نشرت رسالة الماجستير وأطروحة الدكتوراة، إضافة إلى كتب أخرى مثل "جوهر النص الإبداعي" والتورية الدراميّة تحليل الرؤية في مسرحية "حاتم الطائي المومياء" لصبحي فحماوي بمشاركة الدكتورة شفاء العزاوي، أما آخر نتاجي من الكتب الشخصية فهو كتاب "فضاءاتُ الأدب العُماني الحديث أبحاث وقراءات ومراجعات"، ومن الكتب المشتركة مع أستاذي البروفيسور محمد صابر عبيد كان كتاب (أوهاج النص الشعري: حركية العلامة؛ التشكيل والتعبير قراءات نقدية في ديوان "غارق يغني" لسعيد الصقلاوي)، وهناك كتاب آخر مشترك قيد الطبع. إضافة إلى عدد آخر من الكتب ربما لا يتسع المجال لذكرها مع ما نشر لي من أبحاث في المجلات العربية.

 

س4/ استرجع معنا أبرز بصماتكم وذكرياتكم التي حققتموها في جامعة نزوى طوال الأعوام الماضية؟

جامعة نزوى أعدها المستقر الحقيقي لي، ولعل السبب حسب قناعتي أنها المكان الذي عشقته فعلاً، أو لكونها الجزء الفاعل والحيوي من عمان، الذكريات فيها جميلة وكثيرة تعود إلى أول يوم وطأت قدمي أرض الجامعة عام 2016، والسنوات اللاحقة التي بدأت عند انتمائي لها محاضرا عام 2021، ومن يعشق المكان يبدع فيه، وذكريات المكان كما قلت تركت في نفسي أثرا طيبا كطيبة أهل عمان، ونابعة من استخدامهم لجملة "الأمور طيبة" والذكريات كثيرة وخالدة؛ تبدأ مع زملائي الأساتذة وطرائفنا مع بعض، وتنتهي بما يبدع به الطلبة من طرائف جميلة تضفي على الجو المعرفي رونقا خاصا.

 

 وقد تقودني هذه الصورة المكانية إلى القول أحيانا لأحدهم: "أنت الأعجوبة الثامنة من عجائب الدنيا"، يضاف إلى كل هذا طريقتي في عرض الدرس التي تضفي على الجو المعرفي بصمة خاصة؛ تجعل منه درسا لا يملّ، محاولا في ذلك استخراج كنوز المعرفة من عقلية الطالب العماني الذي نجد التميز والفرادة عند بعضهم، وتقودني إلى القول إنني أتعلم منكم الكثير، والجميل في الأمر أنك لا تشعر بانتهاء الوقت إلا بتنبيه الطلبة لك لارتباطهم بمحاضرات أخرى، بمعنى آخر أن يكون الصف الذي أدخله صفا تفاعليا يشترك فيه الجميع. أما البصمة الأبرز -حسب تصوري- هو تسلّمي للجنة الدراسات العليا في القسم التي صيرتها إلى أنشط اللجان في قسم اللغة العربية بمساعدة زملائي في اللجنة.

 

س5/ أين يجد القارئ أبرز الإنجازات التي حققتها في حياتك العلمية والعملية؟

القارئ مستكشف ومنقب ومتحرّ قبل أن يخوض في العملية القرائية التي في نهايتها يحكم على العمل الذي سبر غوره بالجودة من عدمها، وهو من يقيّم تلك الإنجازات، وأحسب أن ما قدمته من نزر قليل بالمقارنة بعمالقة النقد، سيجد القارئ ودارس الأدب والنقد هناك إضاءات مهمة، لعلّه يفيد منها في تعلّم القراءة الصحيحة ومعالجة النصوص وشرحها وتفسيرها والحكم عليها، وكل هذا يجده القارئ في تصفحه للسيرة الذاتية واطلاعه على الكتب النقدية والأبحاث المنشورة، التي عالجتُ فيها مختلف مستويات النقد التي تشكل جزءا مهما من رفوف المكتبة العربية، وقد درست فيها تجارب مختلفة لظواهر شعرية وأدبية لأدباء في الساحة الثقافية العربية، أو من اللقاءات المهمة بمن عملت معهم في مختلف المؤسسات العلمية والأكاديمية .

 

س6/ ما رسالتك التي تستعين بها في سبيل العلم والعمل؟

العمل بضمير ترضي ربك به وترضي نفسك؛ ولا تلتفت لما يقوله الناس؛ لأن إرضاءهم غاية لا تُدرَك، إذ لا يمكن أن يحقق ذلك مخلوق مهما كانت قدرته العقلية والعلمية والمعرفية؛ لأن الناس أمزجة متقلبة تتغير بين لحظة وأخرى، ولعلي أجيبك بصدق أكثر فأنا أعمل بمحبة لعملي ولجميع الناس، وفيها حققت القدر الكافي من الاطمئنان للنجاح؛ لأن حب الناس يغرسك نبتا طيبا في نفوس الناس. وهنا نقطة أعدها من مكملات النجاح وهي: على الأستاذ في الفصل أن يبحث عن الإبداع والمبدعين من تلاميذه وينمي الأفكار ويطورها ويتبناها.

 

س7/ كيف تتعامل مع نقاط القوة ونقاط الضعف التي تواجهها؟

التعامل يكون بروية وهدوء وعدم التسرع في اتخاذ القرارات؛ لأنها تمنحك فرصة لمراجعة النفس، فنقاط القوة تستوعبها وتفهمها وتستمد منها العزم والاندفاع لتطوير وتطهير الذات، وفي الوقت نفسه معالجة ما قد يشوبها من أشكال الضعف، ونقاط الضعف دروس للتحسين مثلما هي عبر للتحصين والتحسين للأداء، بالشكل الذي يجعل قرارك ناجحا وصحيحا؛ أي بمعنى آخر تفيد من نقاط القوة والضعف كونهما متضادين لتحسين وتعديل الخطط المستقبلية التي ترسمها لأداء مهامك بشكل صحيح وإيجابي، يطور من قدراتك الأدائية في العمل والحياة بشكل صحيح.

 

س8/ ما توجيهكم لنقل طلبة العلم نقلة نوعية كبيرة في مختلف التخصصات؛ وذلك في ظل الانفجار المعرفي والتدفق المعلوماتي الهائل، إذ يعد ذلك سلاحا ذا حدين؟

هناك جملة من التوجيهات أقدّمها لطلبتي الأعزاء، لعلهم أحوج إليها اليوم من كل وقت مضى، ونحن نعيش انفجارا معرفيا غير طبيعي يسود العالم، هي:

  • القراءة، ثم القراءة، ثم القراءة للاطلاع على ما أنتجه العالم سواء في تخصص المرء نفسه أم في العلوم المختلفة الأخرى.

  • ترك المحاكاة والتقليد في موضوعات البحث والتفتيش في الذاكرة الحية، التي يمكن أن تكتنز بالتفكير العميق النابع من الخبرة والتجربة والممارسة الفاعلة، والبحث عن موضوعات جديدة تضع الطالب مبدعا ومبتكرا؛ كي يرتقي إلى أن يقدم شيئاً يخدم البشرية بمختلف علومها المعرفية.

  • انتهاج طرق بحثية جديدة تصلح أن تكون مشاريع تطوير البحث العلمي؛ وعلى الجامعة تبني المواهب العلمية الإبداعية عند الطلبة في هذا السياق.

  • أن نبحث في الفصل عمن تتوافق أفكارنا معه ونشكل فريقا بحثيا معرفيا أشبه ما يكون خلية نحل لنحقق الوجود المعرفي.




إرسال تعليق عن هذه المقالة