السياحة الزراعية وتوظيف أنظمة الأفلاج في التنمية الريفية المستدامة
زهرة العبرية
مساعد باحث
كرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج وعلم المياه الاجتماعي
لطالما شكّلت أنظمة الأفلاج عنصر جذب سياحي بارز في سلطنة عُمان؛ لما تتميز به من طابع تاريخي عريق وهندسة معمارية فريدة؛ مما يجعلها جزءًا أساسًا من السياحة التراثية. وقد تعزز هذا الدور بعد إدراج خمسة من أفلاج عُمان ضمن قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو للتربية والعلم والثقافة عام 2006م.
ومع تطور مفهوم السياحة وتنوع اهتمامات الزوار، برز في العقود الأخيرة نمط يُعرف بالسياحة الزراعية أو السياحة الريفية، التي شهدت انتشارًا متزايدًا، خاصة في المناطق القروية والريفية. وتُعرّف السياحة الزراعية بأنها مجموعة من الأنشطة والخدمات التي يقدمها سكان القرى والمزارع بهدف جذب الزوار وتحقيق دخل إضافي يسهم في تعزيز مصادر رزقهم وتحفيز التنمية المحلية.
لا تقتصر فوائد هذا النمط من السياحة على الجوانب الاقتصادية فحسب، بل تسهم كذلك في دعم الأمن الغذائي بتشجيع الإنتاج المحلي لمحاصيل مثل الخضروات والفواكه، إلى جانب تربية الدواجن والمواشي؛ مما يساعد في تقليل الاعتماد على الاستيراد من الخارج. كذلك تُعزز السياحة الزراعية العلاقة بين الزائر والبيئة الريفية من طريق أنشطة تفاعلية داخل المزارع، إذ تشمل أعمال القطف والحصاد والمشاركة في الجولات التعليمية، إلى جانب تجارب إنتاج الغذاء التقليدي مثل إعداد الألبان كالكامي واللبن والقشطة والمُربيات وجني العسل، وكذلك الأنشطة الترفيهية مثل ركوب الخيل والتصوير والاستمتاع بالأجواء الطبيعية.
تُعد الإقامة الريفية عبر النُزل والأكواخ عاملاً جاذبًا للزوار الراغبين في الاسترخاء وسط الطبيعة، وتلعب الفعاليات الموسمية مثل مواسم الحصاد والمهرجانات الزراعية دورًا في إنعاش الحركة السياحية وتعزيز ارتباط السياحة بالتراث الزراعي المحلي.
ورغم أن تجربة توظيف السياحة الزراعية لا تزال محدودة في سلطنة عُمان، إلا أن هناك جهودًا قائمة في عدد من الولايات للاستفادة من هذه الإمكانيات الطبيعية في جذب الزوار وتعزيز الاقتصاد المحلي. ومن الأمثلة البارزة على ذلك، مزارع الورد والرمان الموسمية في ولاية الجبل الأخضر التي تُروى بمياه الأفلاج وتُعدّ من الوجهات المفضلة في مواسم التزهير والحصاد، وكذلك مزرعة الفراولة في منطقة بلاد سيت بولاية بهلاء التي تقدم تجربة القطف المباشر، والبيوت المحمية المزروع فيها فاكهة التوت الأزرق بولاية الجبل الأخضر التي تُعد من المشاريع الحديثة نسبيًا في هذا المجال.
تسهم هذه المبادرات في خلق فرص دخل إضافية للمزارعين والمهتمين بهذا القطاع، أيضًا تعزز من جاذبية المناطق الزراعية كونها وجهات سياحية مستدامة تمتزج فيها الطبيعة بالتراث، وتبرز فيها أنظمة الأفلاج عنصرا محوريا يربط بين البيئة والتاريخ والاقتصاد المحلي.
تُعدّ السياحة الزراعية وأنظمة الأفلاج من العناصر الحيوية في مسار التنمية الريفية المستدامة في سلطنة عُمان، إذ يتكامل نظام الفلج مع النشاط الزراعي في مشهد تنموي يجمع بين السياحة والاقتصاد والتراث والبيئة. وتُعدّ الأفلاج من أبرز الابتكارات الهندسية التقليدية لإدارة المياه، إذ تمثل شريان الحياة للزراعة في البيئات العُمانية، لا سيما في المناطق الجبلية والواحات.
وفي هذا السياق، يأتي مشروع "السياحة الزراعية البيئية في نظم الأفلاج" مبادرة رائدة، وهو المشروع الأول من نوعه في السلطنة، بدأ تنفيذه مؤخرًا بدعم من منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، وبالشراكة مع وزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه، ومركز الزبير لتطوير المؤسسات. وقد اختيرت قرية بلد سيت بولاية الرستاق كونها نموذجا أوليا لانطلاق هذا المشروع الطموح، لما تتميز به من نظام أفلاج نشط، يلعب دورًا محوريًا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للسكان، إلى جانب استيفائها معايير برنامج النظم الزراعية ذات الأهمية العالمية (GIAHS)، الذي تشرف عليه الفاو؛ مما يفتح آفاقًا مهمة لحماية هذه النظم وتعزيز استدامتها محليًا وعالميًا.
وتتميز البيئة العُمانية بتنوع زراعي غني، يشمل محاصيل متنوعة كالتمور والخضروات والفواكه، إلى جانب الثروة الحيوانية، ما يشكّل أرضية خصبة لتطوير السياحة الزراعية، خاصة في الواحات التي تعتمد على مياه الأفلاج، والمناطق الجبلية ذات الطبيعة الجاذبة. وتُعدّ مزارع المشمش والبرقوق والخوخ والتفاح والكمثرى في جبل شمس مثالًا بارزًا على ذلك، إذ تعتمد في ريّها على مياه الأفلاج. وإذا ما جرى التوسع في زراعتها وتطوير البنية التحتية والخدمات السياحية المرتبطة بها، فستتحول إلى نقطة جذب إضافية لعشاق الطبيعة والمغامرة من داخل السلطنة وخارجها.
ويمكن لأنظمة الزراعة الحديثة، مثل البيوت المحمية، أن تكمّل هذا التوجّه بإتاحة الزراعة طوال العام والتحكم في ظروف الإنتاج؛ مما يوفر تجربة تعليمية وسياحية تفاعلية للزوار بالمشاركة في عمليات الزراعة والحصاد.
ويمثّل الاستثمار في المزارع المرتبطة بالأفلاج، مثل مزارع المانجو والتين والعنب، فرصة لتحويلها إلى وجهات سياحية تجمع بين جمال الطبيعة والمنتجات المحلية والموروث الثقافي. ويمكن كذلك إنشاء منصة إلكترونية وطنية متخصصة لتوثيق وتصنيف المزارع السياحية حسب المحافظات، تتضمن معلومات تفصيلية عن الخدمات المقدمة وآلية الحجز؛ مما يسهم في تنشيط الاقتصاد المحلي وتعزيز الاستدامة الزراعية والسياحية.
وإلى جانب ذلك، فإن تعزيز تسويق المنتجات الزراعية من طريق عربات البيع الصغيرة المجاورة للمزارع يسهم في رفع العوائد الاقتصادية، ويوفر للزائر تجربة متكاملة تبدأ من التعرف على مراحل الإنتاج وتنتهي بشراء منتجات طازجة محلية بجودة عالية؛ مما يرفع من القيمة المضافة للمنتج الزراعي.
وتُعد الاستفادة من التجارب الدولية في هذا المجال ركيزة أساسا لتطوير السياحة الزراعية المحلية، إذ أثبتت دول مثل إيطاليا والهند ونيوزيلندا نجاحها في دمج الزراعة بالسياحة، وتوفير خدمات الضيافة والبيع المباشر للمنتجات؛ بما يعزز الاقتصاد الريفي ويحقق التنمية المستدامة.
ووفقًا لتقديرات IMARC Group، فقد بلغت إيرادات السياحة الزراعية العالمية نحو 73.2 مليار دولار أمريكي في عام 2024، ومن المتوقع أن ترتفع إلى 205.6 مليار دولار بحلول عام 2033، ما يعكس التوسع السريع لهذا القطاع عالميًا، مدفوعًا بارتفاع الطلب على السياحة المستدامة والتجارب الريفية الأصيلة، ويؤكد أهمية تطوير السياحة الزراعية في سلطنة عُمان أداة فاعلة لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.