السنة 20 العدد 189
2025/05/01

فلج القَسْوات بولاية إزكي: إرث حضاري ومصدر مائي متجدد

 

د. سعيد بن شنّان الخلاسي 

أستاذ مساعد بكرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج – جامعة نزوى 

 

تُعد الأفلاج من أبرز المعالم الحضارية التي تميّزت بها سلطنة عمان عبر العصور، ويُعد فلج القسوات أحد أبرز هذه الشواهد، إذ يقع هذا الفلج في ولاية إزكي بمحافظة الداخلية، وهي من أقدم ولايات السلطنة عمرانًا واستيطانًا. ويُصنَّف فلج القسْوات من نوع الفلج العدّي، وهو الذي يستمد مياهه من الخزانات الجوفية العميقة عبر تدفق طبيعي دون استخدام أي آلية ضخ صناعية؛ مما يدل على استدامة هذا النظام المائي وملاءمته للبيئة الجبلية الصحراوية التي تحيط به ويمتمد الفلج لمسافة تقارب 6.4 كيلومترات، إذ يبلغ الجزء المغطى حوالي 4 كيلومترات، بينما يمتد الجزء المكشوف لمسافة 2.4 كيلومتر ويروي الفلج قريتي سدّي وحارة الرحى مع توزيع الحصص المائية بينهما، حيث تمتلك حارة الرحى الحصة الأكبر من المياه(صورة 1).

 


 

الصورة (1) وثيقة مخطوطة بيد الإمام ناصر بن مرشد اليعربي تذكر اسم فلج القسْوات.

 

أصالة تاريخية موثقة

تعود أصول فلج القسْوات إلى أكثر من ألف عام، ويُعتقد أن تأسيسه وقع في فترات مبكرة من التاريخ الإسلامي، وتؤكد المصادر التاريخية العمانية. وقد ورد ذكره في كتاب "بيان الشرع" للشيخ الفقيه محمد بن إبراهيم الكندي، الذي يعود إلى القرن الخامس الهجري (2)؛ مما يعطي الفلج قيمة تاريخية موثقة تؤهله ليكون جزءًا من ذاكرة عمان المائية. أضف إلى ذلك أن هناك وثيقة نادرة بخط الإمام ناصر بن مرشد اليعربي، مؤسس دولة اليعاربة في القرن السابع عشر، تذكر اسم الفلج صراحة، وهي محفوظة في دار المخطوطات العُمانية تحت الرقم 785 صورة رقم (2).

 

 

الصورة (2) الغرّاق فلاّح بعد أن جُدد 

 

 

المسار الهندسي والبنية التحتية للفلج

يبدأ تدفق المياه من أم الفلج الواقعة في وادي قنت، وهي منطقة جبلية تتجمع فيها المياه الجوفية نتيجة لطبيعة الصخور وتكوينات الأرض. ومن هناك، تسير المياه داخل قناة مائية تحت الأرض، محفورة بدقة بين الصخور ومبطنة بمواد طبيعية لضمان استمرار الجريان وتقليل الفاقد. بعد هذه المسافة، تصل المياه إلى قرية سدّي، وهي أول قرية يستفيد سكانها من مياه الفلج، إذ تظهر المياه على السطح في شريعة الفلج، التي استخدمها الأهالي تقليديًا للشرب؛ نظرًا لنقاء المياه وصفائها، إذ تبلغ درجة ملوحة المياه حوالي 182 جزءا من المليون ودرجة الحامضية 8.7 ومعدل تدفق المياه 17 لترا في الثانية؛ وذلك في أثناء إجراء الدراسة الاستقصائية الطلابية للفلج (صورة 1).

 

ويتابع الفلج جريانه في قناة مفتوحة تمر عبر معالم عدة مهمة، منها مسجد القرية، ثم تمر المياه بجانب الحجرة القديمة، وهي معلم أثري يعكس الترابط بين المنشآت الدفاعية والموارد المائية في التخطيط العماني التقليدي. بعد ذلك، يمتد مجرى الفلج إلى البساتين الزراعية، حيث تروى أشجار: النخيل والليمون والمانجو، وكذلك العوابي المخصصة لزراعة الشعير والبرسيم والخضراوات.

 

وفي نهاية قرية سدّي، يدخل الفلج  في الغرّاق ثم تحت الأرض، ليعبر وادي حلفين عبر قناة معتمدة على الجاذبية، ثم يظهر مجددًا من الجهة المقابلة المعروفة باسم الفلاّح، ليصل إلى قرية حارة الرحى، التي تتقاسم مياه الفلج بشكل منتظم ضمن نظام توزيع تقليدي دقيق ومتوارث (صورة رقم 3).

 

A group of men wearing white robesAI-generated content may be incorrect.

 

الصورة (3) عند شريعة فلج القسوات لدراسة الخصائص الفيزيائية لمياة الفلج 

 

نظام توزيع المياه والموروث الاجتماعي

كانت عملية دوران الري في فلج القسوات تُنظَّم قديماً عبر نظام دقيق يُعرف بـ "المحاضرة"، حيث تُقسَّم الحصص المائية بما يُعرف بـ "الأثر"، الذي يُعادل زمنياً نحو نصف ساعة. يُقسَّم اليوم الواحد إلى "بادتين"، بادة النهار التي تُحسب استناداً إلى موقع الشمس في السماء، وبادة الليل التي تُحسب من طريق تتبّع حركة النجوم. وتضم كل بادة 24 أثراً. أما في الوقت الحاضر، فقد استُبدل هذا النظام التقليدي باستخدام الساعة لتنظيم أوقات التوزيع. ويدور الفلج بشكل كامل كل 17 يوماً (3).

 

تجدر الإشارة إلى أن فلج القسْوات كان في الماضي مخصصاً لري أراضي حارة الرحى فقط؛ نظراً لكونه الفلج الوحيد الذي يخدم هذه الحارة، في حين كانت سدّي تعتمد على خمسة أفلاج غيلية صغيرة (جفت حالياً) لتلبية احتياجاتها المائية. ومع مرور الوقت، حصلت قرية سدّي على نصيب من مياه فلج القسوات بعد شرائها لأسهم مائية، وأصبح التوزيع الحالي يقضي بأن تحصل سدّي على ثلث المياه، بينما تحتفظ حارة الرحى بالثلثي ( صورة رقم4).

 

 

A stone tower with holes in itAI-generated content may be incorrect.

الصورة (4) أحد أبراج الحجرة القديمة بقرية سدّي التي يمر بجنبها فلج القسْوات 

 

التحديات وجهود الصيانة

رغم قدمه، فإن فلج القسوات لا يزال يعمل بفعالية، إلا أنه تعرض في فترات سابقة للعديد من التحديات الطبيعية، مثل الجفاف، وانهيار أجزاء من القنوات الطينية، وتسرب المياه، وبطء الجريان. وقد سارعت الحكومة العمانية إلى تأهيل الفلج وصيانته، إذ أنشئت قناة إسمنتية جديدة أسهمت في تقليل فاقد المياه وتحسين كفاءة تدفقها، دون المساس بطبيعة الفلج التقليدية. كذلك احتُفظ بمجراه تحت الأرض عند نقاط العبور الرئيسة؛ مما سمح له بمواصلة عمله حتى في أثناء فترات السيول أو تراكم الرواسب (صورة رقم5).

 

A green field with palm treesAI-generated content may be incorrect.

 

الصورة (5) المزارع والحقول التي يرويها فلج القسّوات بقرية سدّي 

 

الأثر البيئي والزراعي

يلعب فلج القسوات دورًا مهمًا في دعم الأمن الغذائي المحلي، إذ يُستخدم في ري مساحات واسعة من الأراضي الزراعية التي تشمل زراعة النخيل، والفواكه، والحبوب، والخضروات. وتستفيد من الفلج بشكل مباشر قرابة أكثر من 4000 نسمة من سكان قريتي سدّي وحارة الرحى، بالإضافة إلى عشرات المزارع التي تعتمد عليه في استدامة إنتاجها على مدار العام.

 

ويتميّز الفلج بنظامه البيئي المتوازن، إذ تسير المياه عبر مجارٍ طبيعية دون أي تدخل ميكانيكي؛ مما يقلل من استهلاك الطاقة، ويحافظ على نقاء المياه. ومن أبرز الظواهر البيئية المصاحبة له وجود شجرة الزّامة التاريخية في قلب قرية سدّي، التي يُعتقد أن عمرها يزيد على 800 عام؛ مما يجعلها رمزًا بيئيًا متجذرًا في الثقافة المحلية المرتبطة بالفلج (6).

 

وفي إطار غرس الوعي لدى الناشئة بأهمية الأفلاج والدور الحضاري والثقافي الذي تمثله هذه الأيقونة التاريخية عبر العصور، تحرص جامعة نزوى على تدريس مقرر "أفلاج عُمان" ضمن برامجها التعليمية، بالإضافة إلى إشراك الطلبة في مشاريع بحثية ميدانية تسهم في تعميق فهمهم لهذا الإرث المائي العريق. وفي هذا السياق، أجرى طلبة مقرر "أفلاج عُمان" دراسة استقصائية ميدانية شاملة عن فلج القسْوات، تضمنت استكشاف "أم الفلج" و"شريعة الفلج" والمزارع التي يغذيها، إلى جانب دراسة نظام الغرّاق فلاّح، كذلك شملت الدراسة مقابلة ميدانية مع وكيل الفلج، الفاضل مسعود بن حمود المسروري؛ بهدف توثيق المعارف المحلية المرتبطة بإدارة وتشغيل الفلج (صورة رقم 6).

 

 

الصورة (6) مقابلة لطلبة مادة أفلاج عمان بوكيل الفلج / مسعود بن حمود المسروري

 

خاتمة: الفلج رمز حضاري حي

إن فلج القسوات ليس مجرد ممر مائي، بل هو نظام اجتماعي-اقتصادي متكامل يعكس عبقرية الإنسان العُماني في التعايش مع الطبيعة، واستغلال الموارد بطريقة مستدامة قائمة على التعاون، والعدالة، والاحترام المتبادل. ويمثل هذا الفلج إرثًا مائيًا حيًا يحتاج إلى مزيد من التوثيق والحماية، ليس فقط لقيمته الزراعية، بل لما يحمله من دلالات حضارية، وثقافية، وهندسية تؤهله ليكون أحد الرموز الوطنية التي تعبّر عن الهوية العمانية في أبهى صورها.

 


 

 

المراجع 

1. الموسوعة العمانية، الجزء الأول، الصفحة ٢٦٣.

2. نظام تقسيم مياه الأفلاج عند العمانيين، الفصل ١، الصفحة ٤١.

3. وكيل فلج القسْوات (خليفة بن حمود المسروري).

4. جريدة الوطن، قسم المنوعات، ١٦سبتمبر ٢٠٢١.

5. الأفلاج العمانية (البناء الهندسي عبر التاريخ)، الصفحة ٥١-٥٣.

6 . مشروع جمع التاريخ المروي،  نظام تقسيم مياه الأفلاج عند العمانيين، وزارة التراث والثقافة/ إعداد د. مسعود الحضرمي و د. أحمد العزيزي، 2018، الصفحات 107، المراجعة العلمية : د. عبدالله بن سيف الغافري.

 

 



 

إرسال تعليق عن هذه المقالة