قراءة في كتاب "التسامح الفكري في المؤسسات التعليمية"
الباحث/ داؤد بن سليمان الظفري
يُعدُّ التسامحُ الفكري بشكلٍ عام، من المواضيعِ التي ينبغي الاهتمام بها، والتعاون من قبل الدول والمنظمات العالمية في ترسيخ مبادئه وأُسسه لدى الأفراد من قبل الأسرة والمجتمع أولًا، ثم المؤسسات التعليمية والتربوية سواءً الحكومية أم الخاصة، وقد اجتهد مؤلف كتاب "التسامح الفكري في المؤسسات التعليمية" في سعيه لإبراز أغلب الجوانب والنقاط المتعلقة بالتسامح الفكري وبالأخص في المؤسسات التعليمية.
يعرّف الكاتب التسامح الفكري بأنه: "موقف إيجابي يتضمن التبادل المُبدع للأفكار والرؤى المطروحة واحترامها على أساسِ مهارات الاتصال والتواصل الفعّال والتفكيرُ الإيجابي والاعتراف بحق الاختلاف مع الآخر". وأشار الكاتب في المقدمة والمبحث الأول إلى الجذورالدِّينيَّة والتاريخيَّة للتسامح، وأكّد على أنّ الإسلام دينٌ يتجه برسالته إلى البشريِّة كلها، تلك الرسالة التي تأمر بالعدل وتنهى عن الظلم، وتُرسي دعائم السلام في الأرض، وتدعو إلى التعايش الإيجابي بين البشر جميعًا في جوٍ من الإخاء والتسامح بين الناس كُلِّهم، بصرف النظر عن أجناسهم وألوانهم ومُعتقداتهم، فهو دِينٌ يسعى من مبادئه وتعاليمه إلى تربية أتباعه على التسامح إزاء الأديان والثقافات كلها.
يطرح هذا المصنّف فكرة أنّ انتفاء التسامح شيءٌ مكتسب ومُتعلَّم وليس فطرة، ويكونُ نتيجةً للمواقف والخبرات التي يمرُّ بها الفرد، ومُحَصِّلة لِسلسِلة التفاعلات الاجتماعية التي يمرُّ بها الفرد ومن يُحيطون به، فالتعصب يُعمي ويصمُّ ويشوّه إدراك الواقع، ويهيأ الفرد أم الجماعة للشعور والتفكير والإدراك والسلوك بطرائق تتفق مع اتجاه التَّعصُّب؛ لذا فالتَّعصُّب الذي يُلَوِّن العلاقات العنصرية السلبية، واحدٌ من أخطر مشكلات الإنسان بشكل عام، والإنسان المعاصر بشكل خاص؛ إِذ يضع العالم كُلَّه على حافة هاوية الحرب المُدمِّرة. وتقوم سلطنة عمان بجهود ملموسة؛ لتعميق مفهومي التعايش والتسامح الذي بات عالمُنا اليوم في حاجة ماسّة إليه، أكثر من أي وقت مضى. وقد أشاد التقرير السنوي للحُرٍّيَّات الدينية لعام 2012م بجهود سلطنة عمان في مجال محاربة التطرف الديني، وتعزيز الحُرٍّيَّات الدينية، وأوضح التقرير بأن السلطنة تنتهج رسالة (إسلام مُعتدل ومُتسامح).
إنَّ التعليم الوسيلة الناجحة لمنع اللاتسامح -انتفاء التسامح- ولعلَّ المدرسة والتربية من الطفولة تُسهِمان بشكل مؤثر في إيجاد بيئة مُستعدّة لقبول التسامح والاختلاف، ويمكن لدور العبادة هنا؛ الإسهام في إصلاح الأوضاع ووضع مستلزمات التطور بعيد المدى للأقرار بالتسامح. فيما شرع الكاتب في ذكر مبادئ التسامح، أهمها: الاتزام بآداب الحوار والتخاطب، وانتفاء التَّعصُّب للأفكار الشخصيّة، والحق في الاجتهاد، وهي سببٌ رئيسٌ في الحفاظ على سلامة القلوب من الحقد والتعصب والنفور، وسببٌ في نشر الهدوء والسكينة في أثناء مجالس الحوار والمناقشة. وذَكَر أنّ هناك مُعوقات قد تمنع نشر فكر وثقافة التسامح منها: التطرف الديني والجهل بالآخر، و التَّعصُّب والتمييز بسبب اللون أو الجنس أو الدين، والتمييز الطائفي وغيرها.
بعدها انتقل المؤلف إلى الحديث عن الأهمية التربوية للتّسامُح الفكري والآثار التربوية المترتبة عليه، وأهمية تدريس قيمه، ففي ظلِّ الانحرافات الفكرية التي قد يتعرّض لها الطلبة؛ أضحت أدوار المؤسسات التعليمية في التصدي للانحرافات الفكرية التي يتعرًضون لها ضرورة مُلحَّة في عصر العولمة. وتتمثّل الأهمية التربوية للتسامح في كونه ذا بُعدٍ وجودي وضروري لاستمرار الحياة، ولتدفق الحياة المجتمعية، وإنّ مبدأ التسامح الذي تزخر به التربية الإسلامية يُعدُّ عاملًا مهمًّا من عوامل التخلص من الأحقاد والتغلّب على الخلافات التي تنشأ بسبب التنوّع والاختلاف بين أبناء البشر.
ونجد أن الكاتب تطرّق بعدها إلى المؤسسات التربوية والتعليمية المعنيِّة بتدريس التسامح، إذ أشار إلى أنّ تربية الفرد وتنشئته الاجتماعية تتمُّ من طريق الأسرة والمدارس والجامعات ووسائل الإعلام والمؤسسات الدينية التي ينتمي إليها ويرتادها، أبرزها: المساجد والمؤسسات الاجتماعية، وبسبب ما نراه اليوم من أفكار منحرفة لدى الشباب، ليست إلا نتاجًا لعوامل تربوية قادتهم إلى تبني هذه الأفكار المنحرفة؛ لذا يجب إعداد بناء إنسان جديد بنشرِ ثقافة تنويرية تستندُ إلى العقل والفكر المُتَّسم بالتَّسامُح وحرية الفكر والمُعتقد والنهج العلمي والفكر النقدي؛ فالأسرة الحاضنة الأولى، والمدرسة والمساجد ووسائل الإعلام سيكون لها دورها الفعّال في تحقيق الثقافة التنويرية.
إلى جانب ذلك، ذكَر الكاتب أساليب متعدّدة في تنشئة الأفراد على سلوك التسامح في المؤسسات التربوية، مثل: مهارات إدارة النزاع، واستراتيجية التعلم التعاوني، والجدل الخلَّاق وغيرها، ثم ذكر انعكاسات التصور الصحيح لمفهوم التسامح على واقع الفرد والمجتمع، إذ يُسهم في إظهار الصورة المُشرقة للإسلام، كما يُسهم في نشر الدعوة الإسلامية، وتحقيق الكفاية الثقافيّة للأمّة التي تُمكّنه من ارتقاء المراتب العليا بين أبناء الإنسانيّة. فيما وضّح المؤلف عددًا من مؤشّرات التسامح في البيئة المدرسية، هي: اللغة، والنظام العام، والعلاقات الاجتماعية وغيرها، وكذلك مؤشرات اللاتسامح متمثلة في انتفاء التسامح في البيئة المدرسية، مثل التحيز الجنسي، وكراهية الأجانب، والعنصريّة وغيرها من المؤشرات. ثم انتقل إلى ذكر مجالات التسامح داخل البيئة المدرسية التي شملت: المناهج، والغرفة الصفية، والأنشطة الصفية واللاصفّيَة/غير الصفية، التي يُمكن منها تعليم الطلبة وتدريبهم على التسامح.
أما عن مظاهر التسامح في سلطنة عمان، فقد كانت واضحةً ومُوثّقة منذ وصول رسالة النبي محمد ﷺ إلى مَلِكي عمان عبد وجيفر ابني الجلندى إلى عهدنا هذا في ظل حكم السلطان هيثم بن طارق آل سعيد. فسلطنة عمان واحة التسامح في صحراء الانقسام، التي تُثبت، وهي في وسط منطقة مضطربة؛ أنه يُمكن لمختلف الطوائف أن تعيش جنبًا إلى جنب، وهذه شهادة للقيادة الحكيمة للسلطان قابوس -طيّب الله ثراه – وشخصيّة الشعب العماني، التي نرى تجلّياتها في هذا التواصل الحميم بين المسلمين بمختلف مذاهبهم.
واختتم المؤلف في نهاية كتابه، ذِكر دور المؤسَّسات العُمَانِيَّة في تعزيز قيم التسامح بما تقوم به من أدوار وأنشطة ومشاركات مجتمعية ودوليّة، منها: وزارة التربية والتعليم، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، ومركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم والفنون والآداب، وكراسيُّ السلطان قابوس العلمية، والجامعات والكليات. بعدها ذكر دور المؤسَّسات الأهلية العُمَانِيَّة في تعزيز قيم التسامح، منها: المساجد، والمعسكرات والفرق التطوعية، والجمعيات، والمراكز الشبابية.
ختامًا أستطيع القول إن كتاب "التسامح الفكري في المؤسسات التعليمية" حوى عددًا من النقاط والمواضيع التي يُمكن الاستفادة منها بشكل كبير، وتطبيقها في تربية الأجيال الحاليّة لمستقبلٍ مليئٍ بالتسامح والتعايش الإيجابي والسليم بين مختلف الأجناس، وخلوِّه من التَّعصُّب والأفكار المنحرفة والعقائد السيّئة.
المرجع
الذهلي، ربيع بن المر بن علي. (2024). التسامح الفكري في المؤسسات التعليمية. مكتبة مسقط.