أفلاج عمان: شريان الثقافة التعليمية في النموذج التعليمي التعلّمي STEAMs
إعداد
أ. يحيى بن حمدان بن راشد الصارمي
محاضر زائر
كلية التربية والعلوم الإنسانية
من مسلمات نجاح أي نظام تعليمي تشجيع المعلمين على الإثراء المعرفي للأنشطة المنهجية وتطوير استراتيجيات تعليمية تناسب احتياجات طلبتهم، وتنطلق محاور برامجه التعليمية التأهيلية والتدريبية والمحتوى الدراسي واستراتيجيات التدريس المقدمة للمعلم والمتعلم من عناصر محيطهم الحيوي وقضاياه وإرهاصاته المادية والفكرية وبعده الثقافي. إن ذلك سوف يسمح للمتعلمين باكتشاف طرقهم المفضلة للتعلم، والتوجيه المبكر لهم نحو اهتماماتهم العلمية من طريق التنوع في الأنشطة التعلمية والتقويمية، وتنمي لديهم فضول الاستكشاف وشغف الابتكار والارتباط التفاعلي مع قضايا المجتمع والبيئة؛ لذا ستتعزز لدى المعلم والمتعلم الهوية الثقافية. ومن المحاور الدراسية التي تشكل للمتعلمين معنى وقيمة في مدرستهم ومنزلهم وحديقتهم، ومع كل من يتعاملون معه من العناصر والنظم التي يتشكل منها محيطهم البيئي المجتمعي، ويتشاركون بها مع غيرهم من البشر والكائنات الأخرى، يستطيع المعلم بها مجتمعة أن ينمي لدى طلبته البعد الثقافي الشامل عندما يقدمها لهم حزمةً من المعرفة المتكاملة بعد تحديد العناصر والمكونات والروابط فيما بينها.
من STEM إلى STEAMs:
لقد أصبحت الأنظمة التعليمية في مختلف دول العالم تتسابق على توظيف النموذج التعليمي الحديث STEM الذي يعبّر عن تكامل العلوم (S) مع التكنولوجيا (T) والهندسة (E) والرياضيات (M)؛مما جعله حلاً مثاليا للإعداد المبكر لجيل المستقبل على مواجهة المشاكل والتحديات التي أفرزتها المفاهيم المشتتة للعلم الحقيقي نتيجة الأسلوب التقليدي في تقديم عناصر المعرفة، الذي به تشكلت قوالب مستقلة من المعلومات والبيانات المؤطرة والمنعزلة عن بعضها (Blackley & Howell, 2015). وقد تعدى ذلك الاهتمام إلى القطاع الصناعي الإنتاجي لإعداد الكفاءات وبناء القدرات النوعية، إذ أصبح STEM جزءاً مهما في البرامج التدريبية المهنية، فهو ينمي لدى الموظف التصورات الذهنية والمعرفة العلمية لتوجيه المنتج نحو أعلى مستويات الجودة بالإحاطة بكل معايير المنتج التنافسي عند اختيار مواده الخام وأدواته، وعلى المستوى الإنتاجي والاستهلاكي وإعادة إنتاجه وتدوير المخلفات الناتجة عنه ومتطلبات الأمن والسلامة والاحتياطات البيئية.
ومع ظهور الاهتمام بالمجال الفني (Art) ودوره في تنمية الخيال العلمي لابتكار التصورات والتصاميم المختلفة والأشكال والمخططات الهندسية، تم إضافة البعد الفني (A) إلى STEM فأصبح يطلق عليه نموذج STEAM (Razi & Zhou, 2022). وحتى تكون عناصر STEAM أكثر قربا من المتعلمين وضمن محيطهم المجتمعي (society) ليدركوا قيمة التفاعل الحتمي بين العلم والحياة، ويستوعبوا أهمية إبراز الامتداد الحضاري للعلوم المختلفة، ويقدّروا أثر التطور الابتكاري على مستوى جودة الإنتاج الفكري والصناعي، فقد ظهر النموذج الأكثر شمولا -الذي أسماه الصارمي نموذج STEAMs كما ورد في كتابه "مرتكزات التحصيل الدراسي: من مرآة للتعليم إلى عدسة للتعلم"- إذ عدّ العناصر المجتمعية والمفردات البيئية مدخلات أساسية في تحقيق الشمولية في الثقافة العلمية (الصارمي، 2022).
وفي العقد الأخير انتشر نموذج STEM دوليا وعلى مستوى مختلف مراحل وأنواع التعليم كأحد الحلول النوعية لمواجهة عيوب التخصصات التقليدية المبنية على المعرفة العلمية المبعثرة، التي أضعفت قيمة المعرفة الشاملة وأثرت سلبا على نوعية الابتكارات وديمومتها، وجعلتها توجه بشكل أساسٍ نحو المجال المادي الصناعي الربحي وتجاهل تبعاته. ومن هذا المنطلق أصبحت مؤسسات التعليم العام - وما بعده - تتسابق في تشريب هذه التوجهات الحديثة ضمن برامجها التدريبية ومقرراتها الدراسية، ومن ذلك إعداد المعلمين ليكونوا الداعم الأساس لتحقيق التكامل المعرفي من طريق البرامج التعليمية التعلمية المقدمة لطلبتهم؛ سواء في العلوم التطبيقية أم العلوم الإنسانية، وبالتوازي مع توظيف التكنولوجيا والذكاء الصناعي في جميع المجالات. إن مثل هذا الاندماج العلمي في STEM يسمى Integrated STEM أو iSTEM (Sanders, 2012).
ويؤكد كريم وآخرون (Kareem et al, 2022) على أهمية دمج المواضيع التعلمية والمقررات الدراسية وعدم تجزأتها؛ لأن ذلك سوف يساعد الطلبة على التحقق من المفاهيم واستيعابها بواسطة تطبيقات STEM التي يتم توظيفها في واقع الحياة. وفي سلطنة عمان استحدثت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار نموذج STEM ونموذج ESAM (وزارة التعليم العالي، 2022/2023) ضمن برامج بعثاتها الخارجية للطلبة المجيدين؛ بهدف إعداد الكفاءات الوطنية التي سيناط على عاتقها قيادة هذا التوجه ليكون أحد المحاور المهمة في خطط وبرامج تطوير النظام التعليمي المدرسي والتقني والعالي، الذي أصبحت تأخذ به الأنظمة التعليمية العالمية المتقدمة. وبالتمعن في هذين البرنامجين (STEM&ESAM) فإن نموذج STEAMs يمكن أن يكون بمثابة السلة التي تحقق التكامل بينهما من أجل أن تحصد المهارات المستقاة من تخصصات العلوم التطبيقية والإنسانية، التي يراد تحقيقها من هذا النوع من البعثات محددة الأهداف والطموحات المستقبلية، وبما يخدم رؤية عمان 2040م.
فبمثل هذه النماذج يتم بناء الإطار التعليمي الحديث لتشكيل الصورة الأكبر للمعرفة الشاملة المتكاملة، وبما يجعل التقنية مصدرا مهما في سياقات المحتوى الدراسي وتطبيقاته العملية؛ مما يجعل الطالب أحد صنّاع الحلول والابتكارات التي تخدم الثقافة العلمية المتجددة. إنها تمثل الصورة الجديدة لما يجب أن ترتكز عليه العملية التعليمية ومخرجاتها في مدرسة المستقبل بمحتواها الدراسي وطرائقها التدريسية وأدوات تقويم نواتجها من التحصيل التعلمي، بل يتعدى ذلك إلى طبيعة المساقات الدراسية والتخصصات المختلفة في مؤسسات التعليم العالي والرؤية الإبداعية للابتكارات، التي تفرزها مختلف أنواع التعليم لتقديمها للمجتمع منتجا تنافسيا ومعززا لنشاط سوق العمل وجودته. ومن جهة أخرى، من المهم أن يعد المتعلم على أساس التكامل المعرفي المهاري وربط العلوم ببعضها من طريق الابتكارات الشاملة لتوظيف قدراته في اكتشاف أفضل الطرق للإنتاج الفكري والمادي المستدام. إنها الطريقة المُثلى التي يُقدِّم بها العلم الحديث أدلته المقنعة لبث الوعي المجتمعي سريعا بالقضايا المختلفة التي يؤثر عليها ويتأثر بها، وتُصنع بها الحلول الدائمة، وتتولد عنها الابتكارات النوعية التي بها تتعزز مكانة المؤسسات التعليمية والمؤسسات الإنتاجية والخدمية على المستوى المحلي حتى يتم الوصول بها إلى المستويات العالمية.
لماذا STEAMs؟
يساعد نموذج ستيمس (STEAMs) وفق هذا المقترح كل من المتعلمين والمعلمين والباحثين والمهتمين بالعملية التعليمية والمخططين لها والداعمين للثقافة العلمية والتاريخية في سلطنة عمان وصنّاع القرار، على الاهتمام بشمولية المعرفة والبناء التراكمي لها؛ ليكون نتاج النشاط الإنساني متّصفا بالديمومة والابتكارية المتجددة، ويعزز الهوية العمانية وامتدادها التاريخي المشهود له. فبهذا النموذج يتم إزالة الشوائب الفكرية التي ترى في الموروث الثقافي المادي عبارة عن معارف وعلوم تقليدية غير خاضعة للتجريب، ولا تلتقي مع العلم وتتولد من تلقاء نفسها. ومن هنا يمكن تقديم الثقافة العمانية على أنها ليست تلك التي تتمركز في العنصر التاريخي المتعلق بعادات الشعوب والآثار الجامدة، وإنما بشموليتها على المستوى العلمي والتاريخي والاجتماعي والبيئي ومختلف مجالات النشاط الإنساني والقوانين والنظم التي تضبط سلوكه فردا ضمن الجماعة وتفاعله مع جميع عناصر محيطه الحيوي. وعلى سبيل المثال عندما نتمعن في بعض مفردات الثقافة العمانية وتاريخها العريق المتمثل في القلاع والحصون وقنوات الأفلاج وتشييد الطرق وبناء المنازل وفي الصناعات المختلفة، فإننا نجد تلك المهارة العالية التي بها أبدع الأجداد في توظيف العلوم الهندسية والبيئية والصحية والمناخية والاجتماعية في كل عناصر هذه المفردات؛ لتصل إلينا بعد آلاف ومئات السنين وهي في أوج عطائها وتألقها الفني وتكاملها العلمي والإنشائي والصحي والبيئي والتفاعل الاجتماعي (STEAMs).
وبنماذج؛ STEM و STEAM و STEAMs سوف تتمكن المؤسسات التعليمية ببرامجها الدراسية من توعية الأجيال على إدراك خطورة استخدام الطاقة غير النظيفة كالوقود الأحفوري، والاختلال البيئي على المستوى الصحي والتنوع الأحيائي والتغير المناخي، وفهم إرهاصات التجارة الجشعة القائمة على المصالح الفردية والوسائل المشبوهة واستغلال التداخل في العلاقات الدولية؛ للترويج الكاذب على التكامل الاقتصادي الذي في حقيقته يعتمد على الاستنزاف الجائر للثروات الطبيعية الغنية، خاصة لدى الدول الفقيرة. وبمثل هذه التوجهات في العملية التعليمية التي تعتمد على إشراك المتعلمين في تحليل واكتشاف حقيقة الواقع بمعطياته الثقافية ونتاجاته العلمية سوف يصبح الطالب مشاركا فاعلا في تقديم الحلول لمواجهة التحديات وتحصين الإنجازات وتحقيق النجاحات المستمرة في برامج التنمية. ويؤكد شوارز (Schwarz, 2023) على أن تفعيل مدخل STEM سوف يساعد المعلمين والطلبة على دمج العناصر العلمية والثقافية لمواجهة التحديات المعقدة كالتغير المناخي، وهذا يتطلب دمج مواضيع العدالة الاجتماعية والمعايير البيئية وتضمينها في المناهج الدراسية والبرامج المهنية.
ولكي يُعد النشء للتفاعل مع كل تلك العناصر محليا ودوليا، فإن الحل الأمثل لذلك إشراك المدرسة للعب الدور الأكبر في تشريب مفاهيم وأهداف نموذج STEM ومنه STEAM وSTEAMs مدخلات معرفية بإعادة صياغة المفهوم التقليدي للمنهج الدراسي وتحويله إلى منهاج للحياة؛ بما يقدمه من طرق وأساليب دراسية نظرية وعملية للتفاعل الإيجابي بين الإنسان وبيئته؛ لتقدير المعطيات الحقيقية للتقدم الحضاري. بمعنى آخر أن يتم الخروج عن فلسفة الكتاب التعليمي التعلمي التقليدي الذي يقدم على شكل مقررات دراسية ومواضيع يتلقاها المتعلم في المستطيل الفصلي، وأن توكل للمدرسة -بالتعاون مع المؤسسات المختلفة- أدوار أكبر تمكنها من الانطلاق بالمعلم والمتعلم في فضاء أوسع خارج حدود الفصل الدراسي؛ بتطبيق العلم والمعرفة في واقع الحياة وتسخيرها لاكتشاف مقومات المجتمع واستثمار موارده بأفضل ما يمكن، وتضمين ذلك في استراتيجيات التطوير الوطنية.
لقد أشار هودسون (Hodson, 2003) إلى أهمية النظرة الشاملة لمنهج القرن الحادي والعشرين؛ بحيث يتم التعامل مع المحتوى من طريق التأثيرات المحلية والإقليمية والعالمية. وعلى هذا الأساس فإن الدعوة إلى تَبنّي مدخل STEM أو STEAM وSTEAMs لا يجب أن يكون فقط على المستوى المدرسي والمنهج الدراسي؛ بل كذلك على مستوى التفكير الإبداعي لدى المخططين وصنّاع القرار التعليمي؛ لحل المشكلات المختلفة واستثمار التعليم المدرسي للتنمية المستدامة وإدارة المشكلات المتجددة والوقاية منها بأسلوب التكامل المعرفي؛ حتى تكون الحلول شاملة لكل جزئياتها. إنها الطريقة المُثلى لاستثمار العلم الحديث وبث الوعي المجتمعي المبكر بالقضايا المختلفة، وتُصنع بها الحلول المستدامة، وتتولد عنها الابتكارات النوعية التي تمنح الثقة للمؤسسات التعليمية والمؤسسات الإنتاجية والخدمية الوطنية لتقديم إبداعاتها التنافسية على المستوى المحلي؛ حتى يكون الطريق ممهدا للوصول بها إلى المستويات العالمية.
وعلى هذا الأساس لا يجب أن تكون المدرسة مجرد حقل لتطبيق البرامج التعليمية التي تستهدف النجاح والرسوب التحصيلي للمتعلمين في المناهج المتفرقة، إنما بمثابة مختبر لاكتشاف المواهب ومصنع لبناء القدرات والقادة وإعداد روّاد التخطيط الاستراتيجي وصنّاع الابداع لتقديمهم للمجتمع على شكل مهارات نوعية تلتقي معا لتبتكر الحلول المركبة الشاملة التي تخدم عددا من المجالات في وقت واحد. فالتخطيط الحضري للمدن الحديثة -على سبيل المثال- ليس مجرد إعداد مخططات المباني، إنما نموذج حقيقي لنمط التفكير الكلي بأسلوب STEAM أو STEAMs، فهو يشكل في الوقت الحاضر الأساس للتوجهات العالمية نحو المدن المتكاملة، إذ التقاء الإبداع الإنشائي والثورة التكنولوجية والذكاء الصناعي واستثمار المقومات الثقافية والبيئية والصحية وصهرها معا لتشكل القالب الأكبر للمعرفة الذي تُبنى منه مسلمات التصميم الشامل لمقومات المدن الذكية، ولنا في سلطنة عمان في مدينة السلطان هيثم، التي أعلن عن تفاصيلها مؤخرا، مثال على ذلك.
وعندما تصمم أنشطة المناهج الدراسية لخدمة هذا البعد العلمي المجتمعي البيئي لمدن المستقبل؛ فإن هناك الكثير من الأنشطة التعلمية يمكن تسخيرها في هذا الاتجاه كونها محتوى تكامليا تجتمع فيه عناصر STEAMs في مقرراتها المدرسية التي نعتقد خطأً أنها منفصلة عن بعض؛ كالعلوم والرياضيات والجغرافيا وتقنية المعلومات والفنون التشكيلية بل حتى التربية الإسلامية واللغات، ولكن الحقيقة أن جميعها تشكل محاور أساسية تجتمع فيها تفاصيل المرفق الثقافي. فبالرجوع إلى المثال السابق في تصميم المدن الذكية بنمط STEAMs؛ فإن ذلك سوف يجعل المخططين ينظرون إلى تفاصيل المدينة نظرة تكاملية من حيث ارتباط عناصرها ببعضها بعضا؛ أي في شوارعها ومستشفياتها ومساجدها ومنازلها ومدارسها وحدائقها ومحلاتها التجارية وصناعاتها ومقومات حياتها وجميع الجزئيات والساحات والمرافق التي تقدم الخدمات العامة.
وعلى سبيل المثال عندما تقدم المناهج الدراسية موضوعا له علاقة بالكيمياء الحيوية، ففي الحقيقة يجب أن يكون لدى مصممو المقررات الدراسية والأنشطة التطبيقية المصاحبة - ليس فحسب على مستوى التعليم المدرسي، إنما كذلك على مستوى التعليم النوعي والعالي والمجال البحثي، وعلى المستوى الصناعي وعلاقة ذلك بالاقتصاد القومي - الرؤية الشاملة لأهمية أن تقدم كذلك المخرجات التعلمية المرتبطة بهذا المجال العلمي كفاءات نوعية قادرة على توظيف ما أضيف لها من معارف وما اكتسبته من مهارات في مختلف قطاعات العمل والإنتاج: الصناعي والزراعي والسمكي والمائي والغذائي والبيئي والإنشائي والجيولوجي والموروث الثقافي الحضاري بشكل عام.
وعلى هذا الأساس سوف أضع الموروث العماني الثقافي بأبعاده التقنية العلمية العمرانية الاجتماعية البيئية، التي تختزل في عنصر الحياة المسمى "بالفلج" (Falaj) على قائمة أولويات محاور نموذج STEAMs بحيث يشكل هذا العنصر الحيوي بأبعاده المختلفة أحد اللبنات المهمة لتصميم الإطار النموذجي لتفعيل STEAMs في العملية التعليمية؛ بتحويل المعارف المجردة التي يتلقاها المتعلمون إلى حقائق ملموسة في البيئة العمانية، وتحقق لهم شغف التعلم والبحث والاستقصاء العلمي. لقد ورد الفلج في معجم المعاني الجامع بمعنى: "فلجَ الفلاح الأرض أي شقها، والفَلَجُ هو النهر الصغير"، وحسب قانون المياه في سلطنة عمان يعرّف الفلج أنه: "قناة مشقوقة في باطن الأرض أو على سطحها لتجميع المياه الجوفية أو مياه العيون أو الينابيع الطبيعية، أو لاعتراض وتجميع الجريان السطحي للمياه وتوزيعها من طريق قنوات فرعية لاستخدامها في الأغراض المختلفة" (الجريدة الرسمية، العدد 1208/2017).
وبنموذج STEAMs وعنصر الفلج تتشكل القاعدة الصلبة للانطلاق إلى مفردات البيئة والثقافة العمانية الأخرى التي يمكن منها التوسع في المعالجة العلمية للأغراض التعليمية التعلمية للعناصر المختلفة التي يزخر بها هذا الموروث الثقافي؛ كالقلاع والحصون والأسواق والطرق والمباني والحِرف والأنشطة البشرية وأساليب ومظاهر التواصل الاجتماعي والعادات والقيم والنظم المختلفة. فالفلج من أكثر الابتكارات الإنسانية أهمية للبشرية؛ لذا لابد من تقديمه أولوية تعليمية وتعلمية للمعلمين والمتعلمين في مراحل مبكرة من التعليم المدرسي، بما ينمي لديهم التصورات العلمية لإدراك الروابط بين العلوم (S) والتقانة (T) والهندسة (E) والفنون (A) والرياضيات (M) وكذلك المجتمع وارتباطه البيئي (s) من السياقات المنهجية النظرية والعملية (الشكل 1):
وهذا المورث العماني المهم المتمثل في "الأفلاج" وصفته منظمة اليونسكو (UNESCO) أنه دليل على عمق الحضارات العمانية وقدرة الإنسان على مواجهة التحديات في تلبية الحاجة إلى أحد عناصر الحياة الأساسية وهو الماء، إذ تشير الدراسات الأثرية إلى أن نظام الأفلاج موجود في عمان منذ حوالي 2500 عام قبل الميلاد (https://whc.unesco.org/en/list/1207/). وقد أشار النوفلي (النوفلي، 2022، 13) إلى أن الفلج: "حل بشري ذكي لتحويل الأماكن القاحلة إلى واحات زراعية"، وبذلك فهو يلهم المتعلمين للسبر في أعماق مقومات الثقافة العمانية بتوظيف ما يتعلمونه وما يكتسبونه من خبرات معرفية ومهارية في حصصهم الدراسية على المستويين المدرسي والجامعي. وعندما يتم توجيه التعليم والتعلم نحو التكامل المعرفي بين العلوم والتكنولوجيا والمجتمع والبيئة، أو كما يسمى اختصارا بنموذج STSE، وهو أحد النماذج المهمة التي تأسس عليها محتوى مناهج العلوم الكندية الحديثة (Canadian Education: Governing Practices & Producing Subjects, 2012)، فإن "الفلج" في المحيط المجتمعي العماني هو العنصر المعزز لشغف التعلم والوسيلة الأكثر تأثيرا لجعل المثلث المدرسي المتمثل في المعلم والطالب وولي الأمر في قمة التفاعل مع الأنشطة المنهجية، وهو المثال النموذجي الذي يمكن به إكساب المعلمين مهارات تصميم الأنشطة التكاملية التي يتمكن بها طلبتهم من تطوير قدراتهم على التخطيط والتصميم والتنفيذ والتحليل والاستكشاف؛ بالتعامل مع ما حولهم من مصادر التعلم المباشرة والوصول إلى الابتكارات وإيجاد الحلول للمشكلات (Alsarmi, 2009).
إن سياقات مواضيع STEAMs الدراسية يجب أن تقدم في شكل أنشطة عملية تُمكِّن الطالب أو الباحث من توظيف المادة النظرية في مشاريع إجرائية تتضمن أفكارا ابتكارية؛ إذ تتكامل فيها الأسس والمبادئ العلمية والتقنية والهندسية والفنية والرياضية والمجتمعية والبيئية. فالفلج ضمن منحى STEAMs يشكّل بخصائصه ووظائفه المتعددة حاضنة للمفهوم الواسع للثقافة العلمية البيئية المجتمعية، ومحورا أساسا لتصميم المحتوى الدراسي النموذجي الذي سيسترشد به عند التوسع في توظيف هذا المنحى ضمن العناصر الأخرى كالقلاع والحصون والسفن والأدوية الطبية وغيرها من عناصر الحضارة العمانية كالاقتصاد والإدارة وكذلك الصناعات العسكرية التي أسهمت في جعل الأسطول البحري العماني قوة ضاربة ومؤثرة على خطوط الملاحة الدولية، وفي نشر ثقافة السلام وقِيّم الإسلام وحماية مقدرات الشعوب العربية والإسلامية. وبتوجيه الثقافة العلمية ضمن هذا النموذج التكاملي التعليمي التعلمي سوف يؤصل مفهوم الثقافة العلمية العمانية وخاصة في المناهج الدراسية المدرسية الدولية، التي ربما تفتقر أحيانا إلى تحقيق ذلك؛ لذا فإن هذا الإجراء سوف يُمكِّن المتعلم من التفاعل الإيجابي مع مجتمعه وبيئته وحضارته من طريق المحتوى الدراسي الذي سيقدم له في سياقات من الأنشطة النظرية والعملية، العلمية والتقنية، المجتمعية والبيئية، وضمن الثقافة المادية والفكرية والمكتوبة والمنطوقة.
وبالتمعن في نظام الفلج إنشائيا ووظيفيا فإنه يمثل حصيلة مجموعة من الأنظمة التي يتأثر بها ويؤثر عليها على المستوى المؤسسي والاجتماعي والجوي والحيوي التي تترابط فيما بينها في إطار المبادئ العلمية والابتكارات التقنية التي يلخصها الشكل (2) الآتي:
العناصر الرئيسة للفلج في تصميم المحتوى الدراسي ضمن نموذج STEAMs:
ترتكز تلك العناصر على مجموعة من الأبعاد المتداخلة فيما بينها، التي تترجمها خصائص الفلج ووظائفه والمجالات التي يمكن أن يستثمر منها، أهمها؛
1) البعد التقني الهندسي والعلمي (Techno-Geometrical & Scientific Dimension):
يرى السلماني أن أنظمة الأفلاج هي أعمال هندسية رائعة توضح الفن الهندسي المتميز الموجود في عمان في الأوقات التي غابت فيها الحفريات الميكانيكية والتسوية الطبوغرافية والمعدات الحديثة (السلماني، 1999). فمثلا من هذا البعد يمكن دراسة تقنية "الفلج" الإنشائية من المنطقة الأولى التي يتدفق منها حتى نهاية قناة الفلج لاستكشاف الجانب التقني فيما يتعلق بمنبعه وطرق شق قناته وسرعة التدفق المائي والأدوات المستخدمة. ووفق رؤية المجلس الدولي للمعالم والمواقع (ICOMOS) يؤكد كُوت (2019) على أهمية التراث الثقافي المائي، خاصة ما تمثله الأفلاج نموذجا تقنيا في إدارة المياه وترشيد استهلاكها بأقل التكاليف الممكنة فيما يتعلق بالطاقة اللازمة لضمان تدفقها.
بالإضافة إلى ذلك، كما أشار الغافري، فإن المُزارع العماني أبدع في توظيف التقنيات الزراعية في طريقة ري المزروعات واختيار الأصناف الملائمة وتحديد نوع التربة؛ وذلك حسب خصائص المنطقة الزراعية التي يعبر فيها الفلج؛ سواء تلك الموجودة في منطقة المنبع المسماة بالضواحي وحتى منطقة المصب المسماة بالعوابي (الغافري، 2023). كما يمكن استقصاء مدى قدرة الإنسان العماني على توظيف العلوم المختلفة في تقنية الفلج من حيث ارتباطها بعلم الرياضيات، والصخور وطبقات الأرض، والخصائص الفيزيائية للماء وقناة الفلج كالانسيابية والجاذبية والمسامية والارتفاع والانحدار والتهوية وعلوم الطقس، وكيمياء التفاعلات والمركبات، والمجال البيولوجي المرتبط بالطحالب وتكاثرها، وكذلك فيما يتعلق بالنباتات وأنواعها؛ إذ أشارت الدراسة التي نفذها كرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج بجامعة نزوى إلى أن هناك أكثر من 2013 نوعا من النباتات البرية تعتمد على منظومة الفلج (https://www.unizwa.edu.om/index.php?newsid=4297).
2) البعد الاجتماعي التعليمي (Socio -Educational Dimension):
من الملاحظ دائما أن تصميم الفلج يعكس بوضوح البعد الاجتماعي للقرية الذي يظهر جليا في تصميم مرافقها المختلفة؛ بما في ذلك مرور قناة الفلج في أماكن تسمح بخدمة أكبر عدد من المنازل والمزارع في كل منطقة؛ ليؤكد بذلك على العلاقة القوية بين الشكل العام للفلج موردا للإنسان والحيوان والنبات والتربة. وهذا في حد ذاته أحد أهم مصادر التعلم في القرية العمانية، ونموذجا تطبيقيا لما يسمى في طرق التدريس الحديثة بالتعلم المبني على المكان (Place-Based Learning) أو أسلوب التعلم المبني على الطبيعة (Nature-Based Learning)؛ إذ إن الموقع أو المكان المميز بتقسيماته وتقنياته وتنوع أشكال وألوان عناصره وتعدد مقوماته الطبيعية يشكّل باعثا لشغف التعلم والاكتشاف لدى أطفال القرية والمتعلمين بشكل عام مهما كانت أعمارهم. وبمعنى آخر، إن الفلج بمفهومه الواسع ووظائفه المتعددة يشكل مصدرا للتكامل المعرفي التعليمي، إذ إنّ دمج المقومات المجتمعية والفنية والخدمية ضمن تصميم يتيح التفاعل المرن والسهل بين كل تلك المكونات في القرية العمانية وبينها وبين تصميم الفلج من بدايته حتى نهايته بطريقة فائقة الدقة والتوازن، تسمح بإدراك الروابط بين الحجم والكمية والانسيابية وجمالية المنظر وعموم الفائدة.
3) بعد التخطيط الحضري (Urban Planning Dimension):
لقد فرضت العلاقة القوية بين الإنسان والفلج نمطا خاصا من التصميم الهندسي والموقع الوظيفي عند تخطيط القرية العمانية، فمثلا عند إنشاء البيوت والمساجد والمجالس العامة والمرافق المختلفة الأخرى، كأماكن الغسل والاستحمام، فإنها يجب أن تكون على القناة الرئيسة للفلج أو بمحاذاتها لتسهيل المتابعة وتسمح للجميع بالمشاركة في التخلص من معوقات انسيابية مياه الفلج وبتصميم تقني نوعي يتيح لأهالي القرية التفاعل مع الفلج بكل سهولة ويسر، ويسمح لهم بعدم إهدار المياه. الصورة الآتية (الشكل 3) توضح التصميم المتكامل الذي يعكس التفاعل بين أنشطة ومرافق القرية والفلج كما نراه واقعا يتكرر في مختلف القرى العمانية التي كان الفلج -ولا يزال- أحد مقوماتها الثقافية (الصارمي، 2022):
يعطي هذا التصميم المميز للقرية العمانية ومرافقها الخدمية بُعدًا اجتماعيًا يحمل في طياته عمق الصلة بين الفلج وجميع أفراد القرية، ويحقق أصالة المكان والترابط المجتمعي، ويقوي الجذور التاريخية لإدراك الإمكانات المذهلة للعمانيين على تطويع مفردات البيئة وثرواتها وتوجيه أسس المجتمع لتحقيق العدالة الاجتماعية وتوظيف مبادئ العلم لاستمرار الحياة ورقيها. ويتجلى هذا الترابط في تكامل المصالح المتعددة بين ملاك المزارع والقائمين على خدمات الفلج؛ سواء فيما يتعلق بالزراعة أم الأعمال المنزلية اليومية أم أعمال البناء والخدمة العامة للقرية؛ أي أن مياه الفلج تخدم كل أنشطة الإنسان اليومية، فهو الشريان الذي يتدفق بشكل حر ومنتظم في أغلب شهور السنة، خاصة بالنسبة للأفلاج العينية والداودية التي لا تعتمد بشكل مباشر على مياه الأمطار.
تلك المواصفات الهندسية العمرانية للقرية والخصائص الإنشائية للفلج تجعل أهالي المنطقة يدركون قيمة الخدمة التي يقدمها لهم هذا المرفق الحيوي، وسهولة الحصول عليها؛ مما يفرض على الجميع التعاون فيما بينهم للمحافظة على هذه القناة الحيوية بما يحقق المصلحة العامة ويجعل كل منهم يستشعر وكأنه عضو مهم مع الفريق الرئيس الذي يدير الفلج؛ لذلك نجد الجميع حريصا على تجنيب الفلج الأضرار والملوثات الناتجة عن الأنشطة الاجتماعية اليومية للقرية من غسل الأواني والملابس والأثاث والاستحمام والتخلص من مخلفات المزارع وأعمال البناء وتوسعة الطرق، بالإضافة إلى الدعم المالي والعيني الذي يتحقق بكل سلاسة وسخاء.
4) البعد الإداري (Administrative Dimension):
لقد شكل الفلج أنموذجا للنظام الإداري المؤسسي والتنظيم الهيكلي المتسلسل وهرمية المهام وآلية وديموقراطية طرح الأفكار والمقترحات ومناقشتها واعتمادها وتنفيذها ومتابعتها، بما يضمن التوزيع العادل للحصص المائية إلى العدد الكبير من الناس والكثير من المزارع، وتوفير المياه للمزارع الموقوفة وللأغراض العامة كالمرافق المرتبطة بالأنشطة الاجتماعية اليومية وسقي الأشجار العامة أو الخاصة المحاذية لقناة الفلج، مثلا غير المرتبطة بالمزارع الرئيسة؛ لذلك يتم اختيار لجنة أو فريق الفلج بعناية فائقة ممن لديهم الخبرة الكافية للتعامل مع أحوال الفلج ومستجداته، فهم -كما يقول الغافري- من أولئك الذين يعرفون كثيرا عن نظام الفلج، وأن معظمهم من كبار السن ويتكون من؛ الوكيل وهو المسؤول الرئيس، والقابض وهو مسؤول عن الميزانية، والعريف وهو مشرف العمال، والبيادير وهم العمال (الغافري وآخرون، 2001).
5) البعد التمويلي (Funding Dimension):
ولمعالجة المخاطر التي يتعرض لها الفلج، منها ما يحدث نتيجة الفيضانات والأعاصير وما تسببه من مخاطر على منبعه وقناته الممتدة في الأودية وبين البساتين، وكذلك المشكلات المترتبة على مواسم الجفاف والحاجة إلى مصادر أخرى لتعويض النقص في كمية المياه كالاستفادة من الآبار، كان لابد من توفير ميزانية كافية لكل فلج يتم بموجبها احتواء كل تلك المشكلات ومعالجتها أولا بأول؛ نظرا لكون الفلج هو الشريان الرئيس لمقومات الحياة. وغالبًا ما يكون مصدر تمويل هذه الميزانية حصص المياه التي تُباع لأصحاب المزارع التي تروى بالأفلاج. كما يأتي بعض التمويل من عائدات المصادر الوقفية العينية أو من التبرعات النقدية، فقد يتبرع بعضهم بجزء من الدخل السنوي الناتج عن بيع الثمار والمزروعات للفلج.
6) البعد البيئي (Environmental Dimension):
وفيما يتعلق بمعالجة الأسباب التي قد تؤدي إلى تلوث مياه الأفلاج نتيجة الاستخدام البشري، فقد تم تصميم قناة الفلج بشكل يسمح بخلق مساحات جانبية لتكون بمثابة أماكن لغسل الملابس والأواني مثلا، إذ تعتمد على نقل المياه المستخدمة إلى خارج قناة الفلج، خاصة مع دخول المنظفات الكيميائية في عمليات التنظيف. وفي حال الاستحمام من مياه الفلج مباشرة، فقد حرص الناس على عدم استخدام الصوابين، وفي حال استخدامها يجب أن يتم خارج الفلج؛ كي لا يسمح بعودتها إليه.
الفلج ضمن النموذج التعلمي STEAMs:
فتلك الأبعاد الستة المشار إليها ليست مجرد عناصر يقوم عليها الفلج، بل هي بمثابة الأعمدة الداعمة لهذه القناة الرائعة لتختلط في مياهها وجداولها تلك العبقرية التي صنعها العمانيون عند التنقيب في منابعه واختيار مساراته وتصميم جداوله وتحديد مسافاته وابتكار طرق حمايته وتنشئة المجتمع على احترامه واعتماد النموذج الأرقى والعادل في توزيع كمياته بحسابات دقيقة وعدالة فائقة. كما تظهر تلك العبقرية في تحديد إحرامات ما حوله بدقة عالية، وإنشاء المنازل والمساجد والمرافق العامة منظومة تتكامل مع هذا الشريان الحيوي الذي يخدمها جميعا بتوازن ويسر وإتقان؛ لتتحقق وظائفه العديدة بأعلى معايير الجودة هيكليا وتقنيا. إنه حقا يمثل أنموذجا للإبداع الهندسي والإدارة الحكيمة للموارد والتفاعل المجتمعي وتقديم الخدمة بأفضل وأسهل ما يمكن ولجميع الأغراض والأنشطة البشرية، وكما يلخصها المخطط الآتي (الشكل 4):
بتلك المرتكزات وبأسلوب التعليم والتعلم بنموذج STEAMs يصبح الفلج أحد أهم المصادر الدراسية الثقافية المتاحة للجميع في القرية العمانية، وجزءا مهما في المؤسسة التعليمية المدرسية ببرامجها وأنشطتها الدراسية، فهو الوسيلة التي يألفها المعلمون والمتعلمون، وتمتاز بوفرتها وسهولة الوصول إليها وإمكانية تقديمها إلى أكبر عدد من الطلبة في آن واحد وبأقل التكاليف. فهو وسيلة تعليمية لا صفية وغير تقليدية، ومصدر مميز للتعليم والتعلم بأسلوب الاستقصاء العلمي، فبه تتكامل المعرفة العلمية وتترابط مع قضايا المجتمع ونظامه الحيوي من الاستقصاءات والأنشطة الدراسية التي ينفذها الطلبة بمشاركة معلميهم وأولياء أمورهم. وهو المختبر المتحرك والمعرض المفتوح والحاضنة الشاملة التي منها يتم تعليم وتعلم العلوم والتقانة والهندسة والفن والرياضيات وارتباطها المجتمعي التاريخي والبيئي، مشكلا بذلك النموذج الثقافي العلمي الأقرب إلى المعلم العماني والطالب العماني وفي جميع مراحل التعليم وأنواعه ولا يقتصر على التعليم المدرسي.
إن الفلج بوظائفه ومكوناته ومساراته يمكن أن يمثل للمختصين في القطاع التعليمي العماني مصدرًا معرفيًا وثقافيًا قيّما لبناء منحى دراسيا تُروى به العقول كما رويت بالفلج الحقول، إذ يسمح للمعلم والمتعلم التنقل بين سياقاته التعليمية التعلمية بأي صيغة يرونها مناسبة كما يتنقل الفلاح بين سواقي الفلج وبساتينه بِحُرِّية ورشاقة (الصارمي، 2022). وعلى هذا الأساس يمكن تقديم الفلج وفق نموذج STEAMs واحدا من أهم المداخل التعلمية التي يعتمد عليه مصممو المناهج والأساليب التدريسية الحديثة في إطار التوجه العالمي نحو منحى STEM، ومصدرا لتطوير البرامج الأكاديمية الموجهة للمعلمين قبل الخدمة وفي أثنائها. وعندما نستثمر هذا المنحى التعلمي محليا فإن علينا أن نجعله ليس مجرد وسيلة لتطوير العملية التعليمية، وإنما كذلك مصدرا لتأكيد دور العمانيين عبر التاريخ في استثمار العلم التطبيقي وتطوير المعرفة والابتكار لصالح الإنسان والحياة بشكل عام، الأمر الذي يرسخ هوية الطالب العماني واعتزازه بحضارته وارتباطه بأرضه.
كما يقدم نموذج STEAMs معنى آخر أكثر عمقا وتفصيلا لمفهوم التقنية الذي حصر خطأً في الأجهزة والأدوات الإلكترونية وبرمجياتها المتجددة، ليصبح مفهوم التقنية بعلم الأفلاج وأبعاده المختلفة أكثر شمولية وارتباطا بالحياة العامة والنشاط الإنساني المتطور الذي يصاحبه التجدد الثقافي المعرفي والابتكار الفكري. إذ بدمج الفلج تعليما وتعلما في نموذج STEAMs سوف يتعزز مفهوم التقانة لدى المتعلم، ويجعله يدرك أنّ الازدهار الحضاري لمجتمعه أساسه التقدم العلمي المرتبط بالعمق الثقافي المتغير دائما، الذي يجب توجيهه إيجابا إلى جعل الإنسان أكثر قدرة على الإبداع لابتكار طرق جديدة تختصر له الوقت وتقدم له الحلول السريعة والميسّرة للمشكلات التي تواجهه مع تعقّد الحياة ومتطلباتها ونتائج التغير المناخي. وفي هذا السياق يقدم حيدر (حيدر، 2019، 286) المعنى الواضح والشامل لمفهوم التقانة، إذ عرض مختلف المحاور التي يجب أن يتضمنها هذا المفهوم من حيث تطبيق المعرفة على الأشياء ذات الأغراض الصالحة، واستخدام المعارف والمهارات والمفاهيم بطريقةٍ إبداعيّةٍ لتصميم وصناعة منتجاتٍ ذاتٍ مستوًى جيدٍ، واستخدام المعارف والمهارات والآلات لزيادة قدرة الإنسان على التحكم في إمكانات بيئته والاستفادة منها، ولجعل عمل الإنسان أسهلَ وأكثرَ إنتاجيةً، وتوظيف الوسائل التقنية التي يستخدمها الناس لتحسين محيطهم.
والشكل (5) يقدم نموذجا تعليميا تعلميا للعلاقة القوية بين عناصر نموذج أو منحى STEAM ومجالات تفعيلها من طريق أبعاد الفلج الرئيسة التي تلتقي معا لتقديم المعرفة الشاملة والابتكارات المتكاملة، هي: البعد العلمي في صوره الهندسية والرياضية والعلوم الفيزيائية والبيولوجية والكيميائية، والبعد التقني على مستوى المواد والأدوات والخدمات، والبعد الفني المرتبط بجمالية التصميم المكاني المتناغم مع الجانب الوظيفي الإنشائي، والبعد المجتمعي في محوريه البيئي والاجتماعي، التي اختصرت في STEAMs أي العلوم (S) والتقانة (T) والهندسة (E) والفن (A) والرياضيات (M) والمجتمع (s):
وختاما، فإن الفلج بأبعاده المتعددة وعناصره المترابطة وخدماته المتشعبة في سياقاتها التاريخية والعلمية والفنية والهندسية والحسابية والتقنية والاجتماعية والبيئية، سوف يقدم للقائمين على العملية التعليمية على المستويين المدرسي والجامعي أحد أهم المصادر للثروة المعرفية المتكاملة التي علينا استثمارها بتوظيف نموذج STEAMs المقترح في كل ما حولنا للحصول على إجابات مقنعة وعلمية لتساؤلات طلبتنا المتجددة ولتغذية معارفهم بالمفاهيم والحقائق المتولدة بالبحث والاستقصاء العلمي. وعندما يُنظر إلى الامتداد والتلاقي في خطط التطوير في القطاع التعليمي على مستويي التعليم العام والتعليم العالي مع البعد الثقافي التاريخي والقضايا البيئية والمجتمعية، مرتكزات للتجارب التعليمية الناجحة؛ فإن ذلك يجعل العلوم أكثر قربا من المتعلم، فيستشعر وجودها حوله ويدرك قيمتها في حياته. وعندما تصبح مفردات المجتمع الثقافية ومقوماته العلمية الحضارية في مقدمة برامج التطوير التعليمي، فإن عوائدها الإيجابية سوف تجعلها تعود إليه مباشرة وتحقق له الاستدامة في برامجه التنموية الناجحة وتعزز الهوية لدى أجياله المتعاقبة.
المصادر:
- الجريدة الرسمية (العدد 1208). قانون تنظيم وحماية مواقع الأفلاج المدرجة بقائمة التراث العالمي. المرسوم السلطاني الصادر في: 30/8/2017
- حيدر، خضر (ربيع، 2019). مفهوم التقنية: دلالة المصطلح، ومعانيه، وطرق استخدامه. الاستغراب، 15 (السنة الرابعة)، 284 – 300، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية. أسترجع من:
https://istighrab.iicss.iq/files/files/5b4xo4l.pdf
- الصارمي، يحيى (2022). مرتكزات التحصيل الدراسي: من مرآة للتعليم إلى عدسة للتعلم. مسقط: مؤسسة اللبان للنشر.
- الغافري، عبدالله (2006). الأفلاج العمانية: منظومة حياة مهددة. ورقة عمل مقدمة إلى: المؤتمر الإقليمي لحماية المياه الجوفية، خلال الفترة 22-20 نوفمبر ،2006 طرابلس، ليبيا.
- كرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج، جامعة نزوى. مشروع حصر النباتات البرية التي تعيش في منظومة الفلج بسلطنة عمان. استرجع في 25/8/2023 من:
https://www.unizwa.edu.om/index.php?newsid=4297
- كوت، ميشيل (2019). التراث الثقافي للماء – مقدمة للدراسة المواضيعية في ضوء اتفاقية ُ التراث العالمي. في ميشيل كوت (محرر)، التراث الثقافي للماء: التراث الثقافي للماء في الشرق األوسط والمغرب العربي. (ط2). ص ص. .21-8 (ترجمة: فراس عبدالهادي، بدعم من المركز الإقليمي العربي للتراث العالمي). شارينتون آي بونت، فرنسا: المجلس الدولي للمعالم والمواقع (ICOMOS).
- معجم المعاني الجامع؛ https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D9%81%D9%84%D8%AC/
- النوفلي، حميد (2022). أفلاج عمان: حضارة مستدامة. عمّان: الآن ناشرون وموزعون.
- وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار. برنامجي البعثات STEM و ESAM للعام الأكاديمي 2022/2023.
- Al-Ghafri, A (2023). Crop Water Requirements and Traditional Farming. Ishraqa Newsletter, 171 (18), University of Nizwa, 3/9/2023 (22-23).
- Al-Ghafri, A., Inoue, T. & Nagasawa, T. (2001). Irrigation scheduling of Aflaj of Oman: Methods and modernization. Graduate School of Agriculture, Hokkaido University, Japan.
- Al-Salmani, Z. ( 1999). Oman Country Report, Project of the Preparation of the Source Book for Alternative Technologies for Freshwater Aug mentation in West Asia Region. Internal Technical Report, ACSAD, Damascus, Syria.
- Alsarmi, Y. H. (2009). Analysis of a topic within a STSE context: Falaj as a context for STS approach in Omani schooling education. Un-published Assignment, Faculty of Education: University of Alberta.
- Blackley, S., & Howell, J. (2015). A STEM Narrative: 15 Years in the Making.. Australian Journal of Teacher Education, 40(7). Retrieved from: http://dx.doi.org/10.14221/ajte.2015v40n7.8
- Canadian Education: Governing Practices & Producing Subjects (2012). Canadian Education: Governing Practices & Producing. In B. L. Spencer, J. Ryan, K. Dehli & K. D. Gariepy (Eds.). Netherlands: SensePublishers.
- Hodson, D. (2003). Time for action: science education for an alternative future. International Journal of Science Education, 25 (6), 645-670.
- Kareem, J., Thomas, R. S., & Nandini, V. S. (2022). A Conceptual Model of Teaching Efficacy and Beliefs, Teaching Outcome Expectancy, Student Technology Use, Student Engagement, and 21st-Century Learning Attitudes: A STEM Education Study. Interdisciplinary Journal of Environmental and Science Education, 18(4), e2282. Retrieved from: https://doi.org/10.21601/ijese/12025
- Razi, A. & Zhou, G. (2022). STEM, iSTEM, and STEAM: What is next? International Journal of Technology in Education (IJTE), 5(1), 1-29. Retrieved from: https://doi.org/10.46328/ijte.119
- Sanders, M. E., (2012). Integrative stem education as best practice. In H. Middleton (Ed.), Explorations of Best Practice in Technology, Design, & Engineering Education. Vol.2 (pp.103-117). Griffith Institute for Educational Research, Queensland, Australia. ISBN 978-1-921760-95-2]
- Schwarz, J (2023). Climate Change, Human Displacement, and STEM Education: Toward a More Transdisciplinary and Inclusive Culture of Science. In B. Murray, M. Brill-Carlat & M. Höhn (Eds). Migration, Displacement, and Higher Education Now What? Retrieved from: https://doi.org/10.1007/978-3-031-12350-4.
-UNESCO. Aflaj Irrigation Systems of Oman. Retrieved in 22/8/2023 from: https://whc.unesco.org/en/list/1207/